Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عكار... محافظة على الورق خارج خريطة الإنماء اللبناني

تمتلك مؤهلات اقتصادية وبشرية مهمة إلا أنها تعاني إهمالاً مزمناً من قبل الدولة المركزية

تقترن محافظة عكار في المخيال الجماعي اللبناني بالمنطقة الريفية البعيدة التي ينتمي أكثرية أبنائها إلى القوى العسكرية، ومن هنا كانت تسميتها بـ"خزان الجيش"، واشتهرت بوقوفها إبان ما سمي "حرب التحرير" إلى جانب قائد الجيش حينها، العماد ميشال عون (رئيس الجمهورية اليوم). كما عُرفت عكار بالوفاء للخط السياسي - السيادي ولـ "التيار الأزرق" (تيار المستقبل الذي يتزعمه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري) إلى أقصى حد ممكن، فمنذ عام 2005 تاريخ اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، صوتت تلك المحافظة الشمالية لمَن حظي ببركة القيادة المركزية للتيار في بيروت على حساب القيادات التقليدية للمنطقة ذات التركيبة الطائفية والعشائرية المعقدة.
هذا الوفاء الذي أعلنته عكار وتمسكت به، لم يُترجم في ميدان الإنماء، بل نالت حصتها الأكبر من التهميش والحرمان. وعلى الرغم من موقفها الحاسم من النظام في سوريا، إلا أن الحياة تبقى تدب في الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين العكاريين والسوريين، وتحديداً في المناطق الحدودية المتداخلة. فهناك قرب الحدود التي هي عبارة عن معبر ترابي في وادي خالد، يمكن الوصول إلى مستشفى حمص المركزي خلال ربع ساعة، فيما يحتاج المريض إلى ساعة ونصف الساعة من أجل بلوغ مدينة حلبا (مركز محافظة عكار)، بينما الطرق الترابية هي السائدة في قرية حنيدر العكارية الحدودية، حيث هجرت شبكة الاتصالات والكهرباء البيوت منذ مدة، وبدأ الأهالي بالبحث عن رُزم حطب للتدفئة في الشتاء. وفي السهل الذي كان مفخرة المحافظة، تزداد معاناة المزارعين بسبب قلة المحاصيل وتلوث المياه التي تروي البساتين.
هذه الشكوى من غياب الدولة، يعيش مفاعيلها طلاب عكار، الذين يتوجب عليهم قطع عشرات الكيلومترات والتنقل لساعات من أجل الوصول إلى الجامعة أو المستشفى في طرابلس وبيروت. وجاء انفجار مخزن الوقود في منطقة التليل العكارية ليفضح تقصير الدولة، وتواطؤ ساسة المحافظة على مصالح أبنائها، حيث تُركوا ليواجهوا مصيرهم، ويلملموا أشلاء أبنائهم المتناثرة بفعل اشتعال المحروقات التي افتقدتها منذ أشهر. ورحل أخيراً الجندي ناجي العبدالله، ابن قرية "خربة شار" وهو أحد مصابي انفجار التليل، فيما يستعد أهالي قرية "الكويخات" لدفن أبنائهم الثلاثة الذين تعرف إليهم ذويهم وهم ضحايا الانفجار ذاته. وبعد كل تلك المشكلات والألم، يبدأ السؤال عن كيفية احتضان عكار وإعادتها إلى قلب خارطة الإنماء في لبنان، بعدما أكدت على صدق الانتماء في كل محطة منذ تأسيس لبنان الكبير إلى مرحلة الاستقلال، وصولاً إلى الزمن الحاضر. 

عكار والحرمان

يقدم رئيس "مركز عكار للدراسات" الدكتور مصطفى الحلوة تشخيصاً لواقع المنطقة، "فهي تعيش الحرمان المزمن منذ نشوء الكيان اللبناني في عام 1920، ما جعلها من أكثر المناطق اللبنانية فقراً، في بناها التحتية، وفي أداء مرافقها الخدمية، مع أنها غنية بالثروات الطبيعية، فهي ثاني أكبر منطقة زراعية في لبنان، بعد سهل البقاع، كما تملك غابات وأحراشاً وتنوعاً بيئياً، أما على المستوى البشري فإن المجتمع العكاري فَتي، إذ إن 72 في المئة من سكانه ينتمون إلى فئة الشباب، ويقع على كاهلهم إخراج المنطقة من وهاد الحرمان والتهميش المزمنين".
ويجزم الحلوة أن "الإنماء لم يعرف طريقه إلى عكار، وبقي حبراً على ورق مع أن "وثيقة الوفاق الوطني اللبناني" (اتفاق الطائف) دعت في أحد بنودها، إلى الإنماء المناطقي المتوازن، لا سيما لمناطق الأطراف. وعلى الرغم من تصنيف عكار كمحافظة، بموجب القانون رقم 522 بتاريخ 16 يوليو (تموز) 2003، إلا أنها بقيت هيكلاً قانونياً فارغاً، ولم تصدر المراسيم التنظيمية لها، ولم يُعين لها محافظ إلا بعد مرور 11 عاماً على إنشائها في عام 2014. هكذا غدت محافظة صورية، ليس لها من المحافظة إلا موقع المحافظ".
 


التربية هي المدخل

يعطي الحلوة، التربية مكانة جوهرية في تنمية عكار، "لذلك لا بد من التركيز على تحسين جودة التعليم الرسمي ما قبل الجامعي في المناطق النائية، وإنشاء فرع للجامعة اللبنانية. وعليه، فإن الحاجة ماسة لإقامة كلية التربية كي يُعمل على تدريب الهيئة التعليمية وإعادة تأهيلها، وتنفيذ قانون إنشائها الذي صدر أخيراً. ويذكّر الحلوة بصدور المرسوم رقم 6687، في يوليو 2020 الذي يقضي بإنشاء فروع لبعض كليات الجامعة اللبنانية في محافظات عكار، وبعلبك الهرمل، وكسروان- الفتوح/جبيل. ونالت عكار بموجب المرسوم فرعاً لكلية التكنولوجيا على مستوى الإجازة، فرعين لكلية الصحة على مستوى الإجازة، وكلية الزراعة، وكلية التربية. ويلفت إلى أنه "وفق المادة السادسة من المرسوم، يُباشَر العمل في هذه الفروع بعد إنجاز المجمّع الجامعي الموحد في عكار الذي لم تنطلق الأعمال به بعد، بسبب احتدام الخلاف بين نواب المنطقة حول موقع البناء".

مطار رينيه معوض (القليعات)

في سياق آخر، يردد الحلوة مقولة أن "مطار القليعات هو نفط عكار المهمَل"، ليؤكد على مكانة هذا المطار الذي يعود بناؤه إلى عهد الانتداب الفرنسي، وهو مجهز بمدرج بطول 3200 متر، وحسب الدراسات الهندسية، فهو قابل للتطوير ليصل إلى 4000 متر، ويبلغ عرضه 60 متراً. وعن تجهيزاته، فهو يضم مستودعات للوقود والصيانة، وأجهزة اتصال ورادار. كما تم استخدامه في فترات الحرب الأهلية اللبنانية (1975- 1976) كمطار مدني، من وإلى مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


ولفت الحلوة إلى أنه "على الرغم من المطالبات المتعددة من قبل فعاليات عكارية وشمالية لإعادة الحياة إلى هذا المرفق الحيوي، نظراً لانعكاساته الإيجابية على منطقة عكار ومحافظة الشمال، ولبنان ككل أيضاً، فإن الدولة لم تُعر أذناً صاغية لعوامل مُتعددة، منها سياسي وغير سياسي، لإبقاء حصرية مطار العاصمة، كمنفذ وحيد للبنان مع الخارج".
يؤكد الحلوة أن "هذا الملف يستدعي التحرك مجدداً في سبيل إخراجه إلى حيز التنفيذ، فهو، في حال اعتماده مطاراً مدنياً أو تجارياً، سيوفر حوالى ستة آلاف فرصة عمل لأبناء المنطقة، وينشط الحركة الاقتصادية والسياحية في عكار، ويؤمن منافع أخرى"، مشيراً إلى أنه "لا بد من تطويره، حال تشغيله، وذلك بإقامة منطقة حرة، ومنطقة اقتصادية، وربطه بسكة حديد مع طرابلس، ومع حمص، عبر معبر العبودية، علماً أن معالم هذه السكة موجودة، ويقتضي إصلاحها وإعادتها إلى ما كانت عليه سابقاً". ويقول الحلوة إن "هذا الملف يستحق أن يُحشد لأجله رأي عام عكاري وشمالي ضاغط، كونه يُشكل عاملاً أساسياً لاستنهاض الوضع في محافظتي الشمال وعكار، وهما المحافظتان الأكثر فقراً على الصعيد اللبناني".

البنية التحتية والأوتوستراد العربي

يعتقد الناشط في منظمة "استشاريون بلا حدود" زكريا الزعبي أن "استنهاض عكار هو مدخل لعملية بناء الاقتصاد اللبناني"، لافتاً إلى أنها "تتميز بموقعها الاستراتيجي المطل على البحر وقرب الحدود السورية، كما أنها تشكل امتداداً لطرابلس التي تضم المصفاة، والمرفأ، والمعرض الدولي، والمنطقة الاقتصادية الخاصة". وتطرق الزعبي إلى مجموعة مشاريع تُعد نواة للتطوير الاقتصادي على أساس بنية تحتية متطورة، وشبكة نقل حديثة تقوم على 3 مستويات برية، وجوية، وبحرية. ويلفت إلى أن "عكار هي عقدة مواصلات أساسية تربط بيروت والساحل اللبناني، بالأراضي السورية عبر الأوتوستراد العربي الذي تم تنفيذ القسم الأكبر منه، ويبدأ ببيروت ليصل إلى طرابلس، فيما بقي القسم الأخير الذي يربط منطقتي البداوي وعكار بالحدود السورية. ويشير الزعبي إلى أن "تمويل هذا القسم من الأوتوستراد العربي تم تأمينه، إلا أن الدولة حولت بعض المبالغ لاستملاكات مشاريع أخرى".
ويتحدث عن أهمية الأوتوستراد العربي فهو "يربط طريق الحرير الصيني بالساحل اللبناني على البحر المتوسط، ويربط بين مرافئ بيروت وطرابلس وطرطوس واللاذقية". ويضيف "لو تم تنفيذ هذه الوصلة لكانت شكلت خطوة نحو تنمية عكار". كما يسلط الضوء على سكة الحديد التي لا تقل أهمية عن الأوتوستراد، لأنها أداه أساسية لتنشيط القطاعات الزراعية، الصناعية، والتجارية. ويطالب الزعبي بإنجاز الطرقات الحيوية والبنى التحتية التي تؤمن لعكار شبكة نقل سريعة، على أن يتم ربطها بمطار القليعات إلى جانب النقل البحري من خلال مرفأ العبدة. على أن يتم وضع عكار لاحقاً على قائمة

القطاع الاستشفائي

في السياق، سلطت كارثة انفجار التليل الضوء على حاجة عكار إلى إقامة مستشفيات حكومية في مختلف القطاعات، فهذه المحافظة تمتد على مساحات واسعة، والمستشفيات الحكومية والخاصة قليلة فيها، إذ يوجد مستشفى السلام في القبيات، ومستشفى رحال، ومستشفى اليوسف في حلبا، إضافة إلى مستشفى عبدالله الراسي، ومستشفى الحبتور، ومستشفى زكريا، إضافة إلى مراكز طبية أخرى منتشرة. وخلال الأزمة الأخيرة، اضطرت مستشفيات المنطقة إلى إحالة المصابين بحروق عميقة إلى مستشفيات طرابلس وبيروت لأنها غير مؤهلة لمعالجتهم.
يوضح الدكتور ربيع الصمد مدير مستشفى الحبتور أنه "لا يوجد مستشفى تخصصي لمعالجة الحروق في عكار، لأن إقامة هكذا مستشفى يحتاج إلى مساحات واسعة وتجهيزات وكادر طبي مدرب ومؤهل. ويحتاج تأسيس هكذا مركز إلى نفقات كبيرة لا يمكن لموازنات المؤسسات الموجودة تحملها، لذلك فهي تقوم بأعمال الإسعاف الأولية، ومعالجة الجروح السطحية، فيما تضطر إلى إرسال الإصابات الفادحة إلى طرابلس وبيروت". ويطالب الصمد "الدولة اللبنانية بزيادة الاهتمام بعكار، لأن أهلها فقراء ويحتاجون إلى الاستفادة من الرعاية الصحية الجيدة". وطالب تحديداً بإقامة مستشفيات حكومية إضافية، لأن المحافظة الفقيرة لا يمكنها الاعتماد على المراكز الخاصة، وهي بحاجة إلى رعاية رسمية لتأمين حاجة أهلها المهمَشين من الاستشفاء، والعلاج، والدواء".

تنشيط القطاع الزراعي

يشكل القطاع الزراعي رافعة الاقتصاد العكاري، إذ يعتمد حوالى 40 في المئة من السكان على الزراعة، وتزيد مساحة الأرض المزروعة على ثلث المساحة العامة للمحافظة البالغة 780 كيلومتراً مربعاً. وإلى جانب المواسم الزراعية "الطبيعية"، ثمة مواسم أخرى، لا سيما زراعة الخضار في البيوت البلاستيكية شتاءً.
منذ بضع سنوات يُعاني القطاع أزمة كبيرة، تتمثل في عدم القدرة على تصريف الإنتاج الزراعي، وعدم تأمين المواد الأولية للزراعة، من بذور وأسمدة وأدوية زراعية بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار. وأدى إقفال الحدود بين لبنان وسوريا، بعد اندلاع الثورة السورية في عام 2011، إلى انقطاع الصلة مع البلاد العربية التي كانت تستورد معظم الإنتاج الزراعي اللبناني. كما أن غياب "الرزنامة الزراعية" أدى إلى حرمان المزارع العكاري من المداخيل بفعل دخول البضائع السورية بطريقة شرعية أو مهربة.
لذلك تبرز الدعوة إلى دعم القطاع الزراعي، عبر قيام التعاونيات الزراعية، وتأمين البذور والشتول المطورة مخبرياً، والإفادة من التكنولوجيا في عملية الصناعة الغذائية المتأتية من الزراعة لمعالجة الإنتاج الزائد والكساد. ويتفرع عن هذا القطاع الموضوع البيئي، حيث تحتاج عكار إلى خطة طوارئ عاجلة لإعادة تشجير الأحراج التي احترقت في قرى القبيات، وعندقت، وأكروم، من أجل استعادة التوازن البيئي، والحفاظ على الإرث التاريخي والطبيعي للمنطقة، ناهيك عن الغابات التي تُعد العامود الفقري للسياحة البيئية التي نشطت في عكار خلال العقد الأخير، وأمنت مداخيل لأهالي القرى النائية.

المزيد من تحقيقات ومطولات