Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أزمة خبز "غير مسبوقة" في لبنان وحلول مؤقتة لتلافي الانهيار التام

محاولات لتأجيل الانفجار وتوقف جميع نواحي الحياة الاقتصادية حتى تسلك الإجراءات الجديدة طريقها

طوابير أمام الأفران في لبنان (أ ف ب)

طوابير الناس تتجمع أمام الأفران، صدامات وتضارب بين المواطنين حول أحقية الخبز، تقنين في بيع الرغيف، رفع للأسعار بصورة متتالية، واستغلال لحاجة المواطن، هذه المشاهد ليست جزءاً من سيناريو فيلم تشويقي، وإنما وصف لما يدور اليوم أمام متاجر بيع الخبز في لبنان. فبلاد العلم والثقافة والحضارة تنحدر بسرعة كبيرة نحو العنف والجوع مع دخول الخبز إلى السوق السوداء، إذ استغلت بعض المتاجر حاجة الناس لتبيع الربطة بـ15 ألف ليرة (بعدما كانت تُباع بحوالي 2000 ليرة قبل الأزمة)، في مقابل إقفال كثير من الأفران أبوابها.

وفي رحلة التكيف مع الواقع الجديد، مدفوعاً بغريزة البقاء، ظهرت أنماط معيشية سالفة، إذ عادت النساء في بعض القرى اللبنانية إلى إعداد الخبز في المنازل، ولم يتأخر البعض الآخر في بيع منتوجاته. ودفع الخوف شرائح واسعة من المجتمع إلى تخزين الطحين من باب الاحتياط، حيث وصل سعر جوال الطحين "الزيرو" إلى 150 ألف ليرة لبنانية.

التنور جاهز

شهدت قرى لبنانية كثيرة مبادرات نسوية اعتبرها البعض عودة إلى الأصالة واسترجاع رائحة الأجداد، إذ نفضت النساء الغبار عن "صيجانها"، وشمّرن عن زنودهن لإعداد الخبز المرقوق. وتشير السيدة لوسي إلى أنه لطالما اعتمد أبناء القرى اللبنانية على جهودهم الخاصة في صناعة الخبز، وفي ظل إقفال الأفران وانقطاع المازوت، "تفضل العودة إلى الخبز على الصاج بعد تأمين الطحين والخميرة العربية"، مستعينةً بالحطب الذي قامت بتجميعه. وتستعيد لوسي تجاربها مع جدتها وأمها، فهي تحمل في طياتها "ريحة الخير والبركة"، وتلفت إلى أنها "تعلمت كيفية العجن باللكن، والرق بالشوبك والنشابة". تقارن السيدة العكارية بين ما وصل إليه اللبناني من "قلة البركة والجوع والذل"، وبين الخبز على الصاج الذي تجتمع حوله العائلة والجيران الذين يبادلونهم الخير من "عنب وتين".

وتوضح لوسي أن خبز الصاج له صلاحية طويلة من الزمن، وما إن يتم رشه بالماء وفلشه، يعود ليناً وصالحاً لتحضير اللفات والساندويتش. ولا يتوقف الفن النسوي عند هذا الحد، وإنما تصنع ما يسمى "الطلامي"، وهو نوع من الحلويات وعبارة عن خبزة سميكة، يتم تقليبها وحشوها بالزيت والسكر. وتدعو النساء إلى اعتماد هذا الأسلوب في تحضير المخبوزات، لأنه يمكن تحضير أكثر من 100 رغيف من 3 أرطال طحين فقط.

هذه العودة إلى أنماط العيش البدائية لا تقتصر على منطقة، وإنما تنتشر في مختلف المناطق اللبنانية، حيث لجأ بعض أبناء الجنوب، وتحديداً نساء القرى، لشراء الخبز المرقوق، ووصل ثمن "العدة" أي مجموعة الأرغفة إلى 25 ألف ليرة لبنانية، في ظل إقفال المخابز أو عدم تسليمها الخبز للمتاجر التي تبيع بالمفرق. وتؤكد النسوة في كثير من مناطق الريف أنهن كن يلجأن بين الفينة والأخرى إلى تخزين الطحين، وإعداد بعض المعجنات التقليدية في فصل الشتاء، أما الآن فقد دفع الخوف من انقطاع الخبز إلى توسيع نطاق هذا النشاط من مجرد "تسلية" إلى وسيلة عيش يمكن الاعتماد عليها، ولم يبقَ أمامهن إلا إعادة بناء التنور.

الأفران تقنن

وقد أقفلت كثير من الأفران أبوابها في الشمال والجنوب والبقاع، فيما تعثر عمل سلسلة الأفران في مناطق المركز، أي بيروت وجبل لبنان. واضطرت بعض الأفران إلى حصر العجن والخبز في فروع محددة للاستفادة من المازوت لأكثر وقت ممكن. فيما لجأت إلى تحويل فروع أخرى إلى صالات للعرض والتوزيع.

وأدى الخوف من انقطاع الخبز وتقنين دوام العمل والكميات المعروضة إلى ضغط كبير على الأفران، في حين شهدت الأفران التي فتحت أبوابها سلسلة طوابير انتظرت لساعات طويلة. وانتشرت أخبار الصدامات بين أصحاب الأفران والزبائن في كل المناطق تقريباً ووصلت لحد التهديد بالسلاح. إلى ذلك غاب الخبز عن المتاجر في المناطق الشعبية، وتؤكد السيدة الستينية أمل أن المعاناة كبيرة، ووصل الأمر باللبناني إلى البحث عن لقمة الخبز، مضيفةً أن "من لا يمتلك سيارة أو انقطع من المحروقات لن يجد السبيل إلى لقمة الخبز، بالتالي فإن عليه قطع كيلومترات طويلة على الأقدام للحصول على ربطة خبز"، ذلك أن بعض الأفران حدد عدد الربطات التي يمكن بيعها للزبون، أما أفران أخرى فحددت سقف عدد الأرغفة. وتتحدث السيدة عن "استعارة ربطة خبز من عند الجيران، وتقسيمها حصصاً على أعضاء الأسرة". فيما يروي آخرون عن قدومهم في أوقات مبكرة جداً للحصول على موقع أمامي في الطابور، خوفاً "من نفاد كميات الخبز المعروضة قبل وصول دورهم".

إضراب الأفران مؤجل

ترفع نقابة الأفران مسؤولية الأزمة عن كاهلها، ويقول علي إبراهيم، نقيب الأفران، إن "المسؤولية تقع على عاتق المسؤولين الفاسدين المجردين من الإنسانية والوطنية الذين يحكمون البلاد"، ويعتقد أن السبب الأساسي هو "عدم تأمين المازوت للقطاعات كافة، بالإضافة إلى عدم الإعلان عن أفق زمني لتسليم المادة"، إلى جانب الصعوبة بالحصول على الطحين بسبب إقفال المطاحن لعدم توافر المحروقات. كما يحمّل إبراهيم الشركات المحتكرة للنفط جزءاً من المسؤولية لأن "المحروقات متوفرة في مخازنهم".

ويتوقع إبراهيم أن يصل ثمن ربطة الخبز إلى 7 آلاف ليرة في الأفران في حال تسليم المازوت على سعر صرف السوق الموازية، منوهاً كذلك بارتفاع تكلفة النقل والتوزيع "الكل بدو يغلي مع غلاء المحروقات".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشكو أصحاب الأفران من غلاء المواد التي تستخدم في ربطة الخبز، لأن كيس النايلون ارتفع ثمنه، ليصبح ألف ليرة لبنانية، لذلك "نحن أمام كارثة"، بحسب إبراهيم، بسبب العبء المتزايد، مؤكداً "أنهم يحصلون فقط على الطحين المدعوم". وعن احتمالية رفع الدعم عن مواد إنتاج الخبز كافة، يجيب إبراهيم، "كان ثمن ربطة الخبز دولاراً واحداً قبل الانهيار، وهذا المبلغ ليس بمقدور المواطن دفعه الآن مع سعر صرف الدولار الذي تجاوز 20 ألف ليرة لبنانية". ويعتقد نقيب الأفران أنه "لن يتجرأ أحد على رفع الدعم عن القمح"، متوعداً السلطة بنزول أصحاب الأفران إلى الشارع في حال وصول ثمن الربطة إلى دولار أميركي واحد. ويستبعد إبراهيم إعلان الأفران إضراباً عن العمل "طالما يوجد لديها مواد أولية ستستمر بالعمل رغماً عنها"، ولكن ما يجري بالفعل هو إقفال الأفران بسبب نفاد الكميات المخزنة.

حماية المازوت

ويطالب إبراهيم الدولة بتأمين المازوت للأفران من أجل العمل 24 ساعة، لافتاً إلى أن 70 في المئة من أفران الشمال، و40 في المئة من أفران الجنوب والبقاع، أقفلت أبوابها بسبب نفاد المازوت من خزاناتها، فيما تستمر أفران بيروت بالعمل بانتظام نسبياً. ويؤكد نقيب الأفران أنه "سيأتينا 27 ألف ليتر مازوت اليوم، ولولا هذه الكمية كانت ستقفل ستة أفران غداً في منطقة ضاحية بيروت". ويأمل بأن تصل كميات المازوت سالمة إلى وجهتها، لأنه "في حال عدم وصولها سيضطرون إلى الإغلاق". ويلمح النقيب إبراهيم من خلال كلامه إلى انتشار ظاهرة توقيف المواطنين شحنات المازوت على الطرقات العامة والاستيلاء عليها وتحويلها إلى مناطقهم لتشغيل مولدات الاشتراك أو تشغيل مختلف النشاطات الاقتصادية.

كما يأسف لظاهرة "عدم حماية الدولة لرغيف الخبز"، مطالباً بتأمين سير مازوت الأفران من أجل إطعام الناس، ويؤكد أنه لا توجد آلية ثابتة تضبط تحرك شحنات المازوت، ويتم تأمينها من خلال التواصل مع إدارة منشآت النفط، ولكن "هؤلاء لا يستطيعون تأمين المواكبة الأمنية لها إلى وجهتها الأخيرة". ويتخوف إبراهيم من استمرار التدهور قائلاً، "نحن في مزرعة بسبب شمولية الفساد"، مؤكداً أنه اضطر للاستعانة بعناصر مسلحة لحماية الأفران ولتنظيم عملية التوزيع بعد التعرض للهجوم.

ويتضح أن هناك رابطاً وثيقاً بين فقدان مادة المازوت وعدد كبير من الأزمات التي تواجه المواطن اللبناني، والتي بلغت حدها بالمساس بلقمة خبز الفقير. وفي انتظار صدور جداول الأسعار الجديدة عن وزارة الطاقة بعد رفع الدعم، تحاول الأجهزة الأمنية اللبنانية بذل جهودها للحد من احتكار بعض الموزعين والمحطات للمحروقات، من خلال تفتيش خزاناتها وإلزامها بالبيع على "السعر المدعوم عند مستوى 3900 ليرة". وتبدو هذه الإجراءات بمثابة الحلول المؤقتة، ومحاولة لتأجيل الانهيار التام وتوقف جميع نواحي الحياة الاقتصادية، حتى تسلك الإجراءات الجديدة طريقها، وسط مخاوف من تأثير الدولار بلا سقف على سعر المنتجات والسلع الأساسية كافة.

اقرأ المزيد

المزيد من متابعات