Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صاحب "المصابون بالطاعون في يافا" ينتحر في عز عطائه

البارون غرو يرمي نفسه في النهر والترياق يأتي من ديلاكروا

لوحة "بونارت يزور المصابين بالطاعون في يافا" (غيتي)

تعتبر لوحة "بونابرت يزور المصابين بالطاعون في يافا" واحدة من أقوى اللوحات التي خلدت صورة ما وغير عادية للجنرال الفرنسي خلال حملته على مصر وعلى الشرق الأدنى عموماً. ففي مقابل عشرات وربما مئات اللوحات التي رسمت للقائد العسكري الفرنسي الذي سيتحول إلى إمبراطور بعد حين، ممجدة أعلى درجات الأبهة والجلال، أتت هذه اللوحة لتثني على جانب إنساني فيه يتناقض مع الأبهة العسكرية. فهو هنا لا يرتقي صهوة حصانه، ولا يتوج في كاتدرائية، ولا يقف خطيباً كصانع للتاريخ يخبر جنوده أن أربعة آلاف عام تنظر إليهم وإليه من على أعلى الأهرامات المصرية، ولا هو يخاطب مسلمي الشرق كواحد منهم مؤلباً إياهم على أعدائه الإنجليز... بل هو وبكل بساطة يزور ملجأ في مدينة يافا الفلسطينية وُضع فيه عدد كبير من المصابين بالطاعون، يتحدث إليهم بكل بساطة، يدعو لهم بالشفاء ويحتك بهم دون أن يخشى العدوى. ولعل الناس أحبوا نابوليون من خلال هذه اللوحة أكثر مما أحبوه من خلال أية لوحة أخرى. شعروا أنه يقف بين التعساء وقفة الأخ الكريم، بشكل لم يسبقه إليه أي زعيم آخر، ولكن سوف يفعله من بعد كثيرون بالطبع. ولا ننسى هنا بالنسبة إلى الزمن الذي نعيش فيه صورة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وهو يتجول بين الناس في المناطق المنكوبة بانفجار المرفأ في بيروت العام الفائت، من دون أن يخشى عدوى وباء كورونا المنتشر في العاصمة اللبنانية.

غرو لم يكن هناك

تفيدنا المدونات التاريخية أن الزيارة التي خلدها الرسام الفرنسي أنطوان - جان غرو كانت حقيقية قام بها الجنرال بونابرت بالفعل يوم انتقل من القاهرة إلى يافا، وبالتالي ليس ثمة أدنى شك في أنها خطوة حقيقية قد تحمل قدراً كبيراً من الديماغوجية وقد تكون صادقة لكن الجنرال فعلها. وفي المقابل تفيدنا المدونات التاريخية نفسها بأن الرسام غرو لم يكن هناك. أي أنه لم يكن من بين الذين رافقوا الجنرال الفرنسي في الزيارة التي صورها بعد حدوثها بنحو خمس سنوات، في لوحة يزيد ارتفاعها على خمسة أمتار وعرضها على سبعة أمتار. فالزيارة تمت عام 1799 فيما أنجزت اللوحة عام 1804 لتعرض في "الصالون الباريسي"، محققة ردود فعل مدهشة ونجاحاً كبيراً من دون أن يسأل أحد نفسه عما إذا كان الرسام الشاب الذي لم تكن سنه تتجاوز الثالثة والثلاثين صورها على الطبيعة أو في محترفه. والحقيقة أنه صورها في المحترف الباريسي انطلاقاً من تفاصيل رواها له العالم سان سيموني دانون، الذي كان في عداد الفريق العلمي المرافق لبونابرت في رحلته.

صنيع الملوك والقديسين

في البداية وفي الإسكتشات الأولية التي خطّها الرسام الشاب انطلاقاً من حكايات دانون، يبدو بونابرت واقفاً على مبعدة ما من المصابين يتحدث إليهم ويواسيهم. ولكن في الصيغة النهائية قرّبه الرسام أكثر منهم، وجعله يمد يده بكل هدوء ومحبة لامساً جراحهم وإصاباتهم كما كان يفعل ملوك فرنسا وقديسوها في الأزمنة الغابرة. والحقيقة أن نقل الرسام ذلك التصرف من التاريخ الملكي الفرنسي إلى ديار الشرق كان يحمل دلالات كبيرة يمكن أن توصف اليوم بـ"الدعاوى الأيديولوجية" كما بالديماغوجية، لكن الرسام الشاب الذي كان معروفاً عنه تأييده المطلق لنابوليون، كان يعبر في لوحته عن موقف وطني وإنساني لا شك فيه هو الذي كان في الوقت نفسه يتطلع إلى أن يصبح رساماً رسمياً للبلاط الإمبراطوري خلفاً لأستاذه دافيد، الذي من المعروف أنه أنفق قسطاً كبيراً من حياته ومقداراً كبيراً من مواهبه الفنية في تخليد صورة نابوليون، ولا سيما خلال حملته المصرية، راسماً ميدانياً عشرات اللوحات له. بيد أن التلميذ غرو تفوق بالتأكيد على أستاذه دافيد بالمعاني التي حمّلها للوحة التي نحن في صددها. ولعل الطريف في الحكاية أن غرو الذي اضطر إلى أن يلزم المكان المخصص لمحترفه في فرساي يوم عرضت اللوحة للمرة الأولى ونالت نجاحاً أسطورياً، لم يتمكن من مبارحة سريره لحضور المناسبة بسبب إصابته بروماتيزم قاسٍ، ما حرمه من أن يشارك في واحدة من أكثر لحظات حياته مجداً.

تعاسة السنوات الأخيرة

مهما يكن من أمر فإن غرو على الرغم من نجاحه خلال المراحل التالية عبر لوحات عديدة كرسته كواحد من كبار النيوكلاسيكيين في الفن الفرنسي، على الضد من أقطاب التيار الرومانطيقي الذي تزعمه ديلاكروا، كان يشعر بتعاسة كبيرة خلال سنوات ما بعد نابوليون وهو الذي آمن به كثيراً. ولقد وضع نهاية لحياته بنفسه في عام 1835 وكان بلغ الرابعة والستين من عمره، بإلقاء نفسه في مجرى نهر السين بعدما قطع المسافة سيراً من بيته في منطقة إيسي هائماً ساهماً يفكر بأن حياته كلها كانت بلا جدوى، كما كان عبر في رسالة تركها في المحترف وعثر عليها حاملة عبارة وداع لطيفة لزوجته، قبل العثور على جثته طافية في مياه النهر.

مهمة رسمية في إيطاليا

أنطوان – جان غرو المولود في عام 1771 في باريس كان بيّن الحزن خلال العشرين عاماً الأخيرة من حياته وتحديداً منذ نهاية نابوليون. فهو يدين بنجاحه للقائد الإمبراطور منذ تعرف إلى جوزفين زوجة هذا الأخير في ميلانو بإيطاليا، حيث كانت السلطات قد كلفته بمهمة إجراء جردة للوحات التي صودرت أيام الحملة على إيطاليا وعرفته هي إلى زوجها. ولسوف يقال إن اشتغاله على تلك الجردة كان مدرسته الفنية الحقيقية التي استكملت ما كان تعلمه أول شبابه في محترف دافيد. ومع ذلك لم يتقاعس غرو الذي سيسبغ عليه شارل العاشر عام 1824 لقب بارون، عن تطوير نفسه وعمله منذ نفي أستاذه دافيد إلى بروكسل ليحل هو مكانه في الاشتغال على تنفيذ جداريات البانتيون، غير أنه في الوقت نفسه غاص في العمل الرسمي إلى درجة أنه لم يتمكن من تطوير أساليبه الفنية، بحيث بقي جامداً عند النيوكلاسيكية بعدما صارت هذه قديمة الطراز غير مستحبة. ومن الواضح أن هذا فاقم من حزنه وكآبته. ولقد وصل به الإحساس بالفشل إلى مستوى قاتل بعد الصالون الأخير الذي شارك فيه ولم يبد أن أياً من لوحاته الثلاث التي عرضها هناك قد لقي إعجاباً من النقاد، أو حتى من الجمهور الذي كان لا يزال يذكر بالخير لوحاته القديمة ولا سيما النابوليونية منها. وكذلك كان من الواضح أن إشارته إلى إهداء تلك اللوحات إلى ذكرى دافيد الذي كان قد رحل عن عالمنا في عام 1825 لم تضف على اللوحات أية قيمة استثنائية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حين تدخل ديلاكروا

فالنيوكلاسيكية كانت قد ولت من غير رجعة، تاركة المكان خالياً للرومانطيقيين وعلى رأسهم ديلاكروا، الذي وإن كان بدوره واحداً من تلاميذ دافيد فإنه عرف باكراً كيف يفترق عنه، خائضاً في فنون أكثر حداثة. غير أن ذلك لم يمنع ديلاكروا أن يتحدث خلال تأبينه غرو عن "إسهامات هذا الأخير في نهضة الفن الفرنسي"، وتحديداً عن صدقه في مواقفه السياسية التي عبر عنها في فنه - مشيراً دون ريب وبشكل خاص إلى لوحة "بونابرت في يافا" في رد مبطن على كل الذين تحدثوا لمناسبة انتحار الرسام عن "انتهازية سياسية" تسم تلك اللوحة تحديداً، مشيرين إلى أن اللوحة تكاد تكون واحدة من أكثر اللوحات التي رسمت للإمبراطور الراحل "ديماغوجية وانتهازية"، فأكد ديلاكروا أنها لوحة "يمكن بكل بساطة أن نضمها إلى أروع أعمال الفنون الإنسانية". كان كلام ديلاكروا هذا، وهو من هو في الحياة الفنية الفرنسية في ذلك الحين، خير تعويض للبارون غرو عن الخيبات التي طبعت حياته طوال أكثر من عشرين عاماً، وأوصلته إلى ذلك الانتحار الذي أحزن كثيراً من الفرنسيين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة