Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل "العالم الأول" و"العالم الثالث" مصطلحان عفا عليهما الزمن؟

يتفق جميع المؤرخين أن أصل هذه التسميات يعود إلى عالم "الأنثروبولوجيا" الفرنسي ألفريد سوفيه

للصدفة أن ما يسمى دول "العالم الأول" في أكثرها تقع في شمال الكرة الأرضية ودول "العالم الثالث" تقع في جنوبها (أ ف ب)

كل زعماء العالم والحكومات والشعوب والمنظمات الإنسانية والدولية يعرفون أن استخدام تعبير "العالم الأول" ثم يليه "العالم الثالث" ما هو إلا تنميق في الكلام الدبلوماسي أو ما بات يسمى في أوروبا والولايات المتحدة "الصوابية السياسية"، فـ"العالم الأول" المتقدم والمتطور والمستقر أمنياً والذي يؤمن لمواطنيه متطلباتهم المعيشية كافة من التعليم إلى الصحة إلى الأمن المستقر، وكذلك رفاهيتهم وحريتهم في التعبير والانتخاب الديمقراطي، لا يمكنه أن يصف العالم الآخر الذي لا يملك كل ذلك بأنه عالم متخلف ومتأخر ولا يلحق بركب التطور والتقدم البشري، لذا يعطيه لقب "العالم الثالث" القريب من العالم الأول، والذي يعطي هذه الدول شعوراً بأنها بجهد كبير من الإصلاحات وتكريس الديمقراطية وعمل المؤسسات وتحسين الإنتاجية الاقتصادية وقروض من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي وبتحقيق السلام مع الدول المجاورة قد تصل إلى مرتبة دول "العالم الأول" يوماً ما.

تعابير مختلطة ومندمجة

للصدفة أن ما يسمى دول "العالم الأول" في أكثرها تقع في شمال الكرة الأرضية، ودول "العالم الثالث" تقع في جنوبها، فسميت في أحيان كثيرة دول الشمال ودول الجنوب لتمييزها أيضاً، وللصدفة الثانية أن دول الشمال كانت في أكثرها مستعمرة لدول الجنوب وتحديداً في أفريقيا وآسيا، حين تمكنت فترات الاستعمار الكبرى من بناء أنظمة حكم محلية تابعة لها تؤمن لها الاستفادة القصوى من المواد الأولية من المعادن المهمة الكثيرة الموجودة في دول الجنوب، والتي تحتاجها دول "العالم الأول" في صناعاتها المتطورة إلى الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وبالطبع النفط كمصدر أول لتأمين الطاقة والوقود من بعد الفحم الحجري في حينه. هذا عدا عن استغلال شعوب هذه الدول في العمل والرق عبر التمييز العنصري الذي ما زالت حكومات دول "العالم الأول" تقدم الاعتذارات المعنوية والشفوية والتعويضات لها حتى اليوم، كما جرى، أخيراً، بين فرنسا والجزائر وألمانيا وزيمبابوي وكندا وزامبيا وإيطاليا والحبشة حين قدمت هذه الدول الاعتذار عن مجازر كبرى وقعت بسبب التمييز العنصري أو في مواجهات الانتفاضات ضد المستعمر.

وهكذا تتضح بعض أسباب فقر شعوب ودول "العالم الثالث" وغنى شعوب ودول "العالم الأول"، أما الاندماج الثالث في التسميات، فهو أن دولاً في الجنوب يمكن تصنيفها دول "العالم الأول" مثل أستراليا ونيوزيلندا، وهناك دول في الشمال يمكن اعتبارها فقيرة مثل هايتي أو دول أوروبا الشرقية سابقاً كرومانيا وألبانيا وغيرهما.

الأصل السياسي للتصنيف

لكن لهذه التسميات أصلها، فهي لم تُطلق جزافاً لمجرد أن دول "العالم الأول" غنية والأخرى فقيرة. وتعتبر بعض المراجع أن مصطلح "العالم الثالث" نشأ خلال الحرب الباردة لتعريف الدول التي بقيت خارج حلفي "الناتو" و"وارسو" المتحاربين. فكانت دول حلف "الناتو" مثل الولايات المتحدة وكندا واليابان وكوريا الجنوبية وأوروبا الغربية وحلفائها تمثل "العالم الأول"، أما دول حلف "وارسو" على رأسها الاتحاد السوفياتي والصين وكوبا وحلفاؤها تمثل "العالم الثاني"، وصارت باقي الدول التي لا تنضوي في هذين الإطارين هي دول "العالم الثالث" وتضم دول "عدم الانحياز".

ومصطلح "العالم الثالث" لا يشمل الدول الفقيرة وغير الصناعية والتابعة لدول كبرى فقط، بل ويدلل على دول صناعية تطورت حديثاً مثل البرازيل والصين والهند والأرجنتين والمملكة العربية السعودية ودول أخرى. وعلى سبيل المثال كانت بعض الدول الأوروبية غير منحازة ومزدهرة اقتصادياً طوال فترة الحرب الباردة، ولم يكن بالإمكان تصنيفها ضمن دول العالم الثالث كالنمسا وإيرلندا والسويد وفنلندا وسويسرا.

تعريفات مختلفة

في التأريخ، يتفق جميع المؤرخين أن أصل هذه التسميات يعود إلى عالم "الأنثروبولوجيا" الفرنسي ألفريد سوفيه، في مقال نُشر في المجلة الفرنسية "L'Observateur" في 14 أغسطس (آب) 1952 مصطلح "العالم الثالث" "Tiers Monde"، إشارة إلى البلدان التي لم تكن متحالفة مع الكتلة السوفياتية الشيوعية أو كتلة "الناتو" الرأسمالية خلال الحرب الباردة. أما استخدامه التاريخي بحسب هذا المؤرخ فكان يشير إلى الطبقة الثالثة أي عامة الناس في فرنسا الذين عارضوا قبل الثورة الفرنسية رجال الدين والنبلاء الذين شكلوا الطبقة الأولى والثانية على التوالي.

باني الصين الشيوعية الحديثة ماو تسي تونغ كان له تعريف مختلف، إذ إنه رفض التقسيم الأوروبي بين دول عالم أول وثان وثالث، بل اعتبرها قسمين، إما "العالم الأول" أي الدول التي استغلت الدول الأخرى وهي دول "العالم الثالث"، لذلك وضع الصين والهند في خانة "العالم الثالث" على الرغم من أن الأميركيين والأوروبيين صنفوا هاتين الدولتين من العالم الثاني من حيث التطور والتقدم التقني والاقتصادي.

التعريف السياسي ينزع عن الدول تصنيفها بحسب أوضاعها الداخلية الاقتصادية أو بحسب تطور التنمية أو ارتفاع الدخل القومي والدخل الفردي، ويصنفها بحسب انتمائها السياسي. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة، بدأ التخفف من استخدام مصطلح "العالم الثالث" لتحل محله مصطلحات كالدول النامية أو البلدان الأقل نمواً أو الدول ذات الدخل المحدود أو المتوسط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي نظرية التبعية لمفكرين مثل راؤول بريبيش، ووالتر رودني، وثيوتونيو دوس سانتوس، وأندريه غوندر فرانك، ارتبط "العالم الثالث" بفكرة أنه مجموعة الدول غير مكتملة الأركان التي تهيمن عليها بلدان تشكل نواتها الاقتصادية، ولا يمكنها العيش أو البقاء من دون دعم هذه الدول، ما يثير التدخلات السياسية والهيمنة على النظام السياسي داخل الدولة.

أما حركة "عدم الانحياز"، "NAM"، ومجموعة الـ77 التي كان على رأسها في حين نشوئها الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والرئيس الجزائري هواري بومدين، والرئيس الهندي جواهر لال نهرو، وغيرهم كثر، فقد وضعوا قواعد للعلاقات والدبلوماسية بين "العالم الثالث" و"الأول"، على الرغم من أن دول "العالم الأول" اعتبرتها دولاً متخفية في اسمها وتعمل تحت لواء المعسكر الاشتراكي، بينما اعتبرها الاتحاد السوفياتي دولاً تستخدم عدم انحيازها كورقة توت لتخفي عيوب أنظمتها غير المكتملة فكرياً واقتصادياً. وبالطبع، فإن هذا الهجوم المبطن يستهدف ضم دول "عدم الانحياز" إلى أحد المعسكرين المتحاربين. لذلك، بذلت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي جهوداً كبيرة لإقامة اتصالات مع هذه البلدان من خلال تقديم الدعم الاقتصادي والعسكري لاكتساب تحالفات ذات موقع استراتيجي، على سبيل المثال الولايات المتحدة في فيتنام أو الاتحاد السوفياتي في كوبا.

تطور المصطلحات

بحلول نهاية الستينيات، بدأت عبارة "العالم الثالث" تمثل بلداناً في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية اعتبرها الغرب متخلفة بناء على مجموعة متنوعة من الخصائص منها التنمية الاقتصادية المنخفضة، وانخفاض متوسط العمر المتوقع، وارتفاع معدلات الفقر والمرض، وغيرها من العوامل، وفي أوائل الستينيات من القرن الـ20، ظهر مصطلح "البلدان المتخلفة" وأصبح "العالم الثالث" مرادفاً له، ولكن بعد استخدامه رسمياً من قبل السياسيين، سرعان ما تم استبداله بعبارات "البلدان النامية" و"البلدان الأقل نمواً"، لأن المصطلح الأول يُظهر العداء والتمييز والفوقية وعدم الاحترام.

ومنذ عام 1990 تمت إعادة تعريف مصطلح "العالم الثالث" من وجهة نظر "الصوابية السياسية"، وبات بالإمكان اليوم اعتبار مصطلح "العالم الثالث" مصطلحاً تاريخياً مضى عليه الزمن، ولا يمكن أن يصف بالكامل ما تعنيه البلدان النامية والأقل نمواً اليوم، بسبب التطور الاقتصادي الكبير الذي لحق بمجموعة كبيرة من الدول "المتخلفة" سابقاً، ومنها الهند وإندونيسيا وماليزيا ودول شرق آسيا كلها، والتي سميت بالنمور الآسيوية، وجنوب أفريقيا وبعض دول شمال الصحراء الكبرى، وأخرى جنوبها التي شهدت نمواً كبيراً منذ مطالع القرن الـ20، والأمر نفسه ينطبق على دول أميركا اللاتينية كالبرازيل والأرجنتين والباراغواي وتشيلي والسلفادور والمكسيك، التي حققت نمواً في الناتج القومي سريعاً جداً في العقدين الماضيين، ما جعل تصنيفها كدول متخلفة أو بطيئة التطور أو أقل نمواً، لا ينطبق تماماً على ما يجري فيها على مختلف الصعد.

على الرغم من أن لقب "دول العالم الثالث" ما زال يطلق عليها حتى اليوم ربما بسبب الاعتياد أو بسبب عدم القدرة على وضعها في خانة "العالم الأول"، خصوصاً وأن المصطلح تخفف من معناه السياسي الذي انطلق في الحرب الباردة، وبات يرتبط بمجموعة من العوامل الانمائية المحددة التي تضعها الأمم المتحدة أو المنظمات الدولية الاقتصادية الكبرى. فعلى سبيل المثال، لو حققت دولة من الدول اكتفاء في قطاعها الصحي والتعليمي ونمواً في ناتجها القومي وتسارعاً في التصدير على حساب الاستيراد، فإن هذه لا يمكن تصنيفها "متخلفة" حتى لو كانت أنظمتها السياسية غير ديمقراطية.

يقول شوز كيسي عالم النفس الاجتماعي بجامعة "كيب تاون" في تحقيق لموقع، "ماعز؟ صودا؟" (عنوان الموقع يمثل سخرية على تصنيف الدول) "أنا لا أحب مصطلح العالم النامي لأنه يفترض وجود تسلسل هرمي بين البلدان. إنه يرسم صورة للمجتمعات الغربية على أنها مثالية، ولكن هناك العديد من المشكلات الاجتماعية في هذه المجتمعات أيضاً. كما أنه يديم القوالب النمطية عن الأشخاص الذين يأتون مما يسمى بالعالم النامي على أنهم متخلفون وكسالى وجهلة وغير مسؤولين".

مهما يكن من أمر التاريخ في موضوع تصنيف الدول، فإن تصنيفها بين دول "عالم ثالث" و"عالم أول"، لم يعد يجدي نفعاً لا على المستوى السياسي ولا الاقتصادي، ففي السياسة ما زال العالم ذا قطب واحد منذ انهيار الاتحاد السوفياتي على الرغم من التقدم الكبير الذي شهدته الصين، ثم إنه خلال العقود الثلاثة الماضية تبدلت الأوضاع الاقتصادية في دول كثيرة، فمنها ما تمكن من التقدم الاقتصادي والسياسي بشكل كبير ومتسارع ومنها ما انحدر اقتصادياً وسياسياً، فاختلط حبل الدول وتصنيفها بنابلها، وجاء فيروس كورونا والأزمات الكبرى التي ألحقها بكل دول العالم على المستويات كافة ليزيد من طين هذه التصنيفات بلة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات