بعد يوم طويل صادف الذكرى التاسعة والتسعين لولادة البطريرك اللبناني السابق نصرالله بطرس صفير، عبر موكب الراحل الطريق بين المستشفى والمقر البطريركي في بكركي، وسط حشود تجمعت على الطرقات لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة.
وغداً تُقام مراسم التشييع وسط مشاركة رسمية عربية ودولية تقترن مع تحركات شعبية، تدفع كلها في اتجاه تكريم هذه الشخصية اللبنانية التي تدخل التاريخ من بابه العريض، سياسياً ووطنياً ودينياً، نظراً إلى ما اكتنزه الراحل من صفات جعلته شخصية استثنائية واكبت مرحلة استثنائية من تاريخ لبنان الحديث.
تميّز صفير بمواقفه القوية المتصلة بالعلاقة مع سوريا، وقبلها مع وثيقة الوفاق الوطني التي أرست الدستور الجديد للبنان بعد الحرب الأهلية، والتي أدت إلى انتزاع صلاحيات أساسية من رئيس الجمهورية الماروني.
فرض البطريرك صفير نفسه رقماً صعباً في المعادلة اللبنانية في أكثر من محطة من محطات المشهد السياسي اللبناني، عندما وقف وراء البيان الشهير للمطارنة الموارنة المطالب بخروج القوات السورية من لبنان عام 2000، ورفضه زيارة سوريا. وبلغ ذروة انخراطه في الحياة الوطنية والسياسية عندما قاد، وإن في شكل غير مباشر، ثورة الأرز، التي تفجرت بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
السنيورة: قوة لبنان في توازنه
يتوقف الرئيس الأسبق للحكومة فؤاد السنيورة عند المحطات البارزة في حياة البطريرك صفير التي ميزته ووضعته في مصاف الكبار. ويقول في هذا المجال إن "البطريرك كان فريداً في كل أوجه حياته الشخصية والروحية والوطنية، وكان يتميز بتواضعه وقدرته على الصبر المقرون بصلابة استثنائية. وقد ساهم أداؤه في الحياة الوطنية بأن يكون محركاً للروح الوطنية وقائداً مخلصاً وفريداً في زمن الصعاب، لم يرضخ للتهديد ولا هاب المخاطر".
وقال "لا يمكن للبنانيين أن يغفلوا الحقائق التاريخية لدور البطريرك وبصماته، وهو الذي كان حريصاً كل الحرص على فكرة التنوع ورفضه لحزب الأقليات، وكان من أشد المؤمنين بأن لبنان قوة في توازنه وليس في توازن القوى فيه. ولن ينسى اللبنانيون للبطريرك صفير وقوفه بقوة في وجه محاولات طمس هوية لبنان، أو دوره الكبير في تحرير لبنان من الوصاية والمناداة باستعادة الاستقلال والحرية. لقد لعب دوراً كبيراً وأساسياً في مباركة إنجاز اتفاق المصالحة الوطنية بين اللبنانيين في الطائف لإعادة صياغة الميثاق الوطني وتحديث الدستور والتمهيد لنقل لبنان من ضفة الحروب إلى ضفة السلام". وعن المصالحة بين اللبنانيين يقول السنيورة "كان جريئاً بإقدامه على قيادة المصالحة الوطنية ومباركتها في الجبل عام 2000 لإعادة اللحمة بين اللبنانيين والنظر إلى الأمام، انطلاقاً من التسامح والعدالة باعتبار لبنان رسالة في العالم وليس فقط وطناً مرتكزاً على أن حماية لبنان تكون بتضامن أهله".
ويؤكد السنيورة أن البطريرك صفير "كان من أشد المنادين بأهمية الخروج من الانكفاء، مؤمناً بأن دولة القانون والنظام، هي صاحبة السيادة وصاحبة الحق الحصري في حمل السلاح والسهر على تطبيق القانون".
قزي: واقعية صفير
يقرأ الوزير السابق سجعان قزي الكثير في مواقف صفير، لا سيما تلك المتصلة باتفاق الطائف والعلاقة مع سوريا ومصالحة الجبل الشهيرة التي أدت إلى عودة المسيحيين إلى الجبل، فيقول "لقد اضطر البطريرك صفير إلى القبول باتفاق الطائف عام 1990 لوقف إطلاق النار لا إيماناً بمثالية هذا الاتفاق. ولا تقع مسؤولية هذا الموقف الذي لم يكن موضع ترحيب في الأوساط المسيحية على البطريرك، بل على القوى المسيحية التي تقاتلت وهدمت المساحة المسيحية الآمنة وأضعفت الحالة المسيحية تجاه المكونات اللبنانية الأخرى وتجاه سوريا. ولاحظ البطريرك في ما بعد أن هناك تحويراً لاتفاق الطائف روحاً ونصاً من خلال الممارسة، فاستلحق الأمر بإعلانه مقاطعة الانتخابات النيابية. ولاحظ كذلك أن التطورات العربية والدولية، أي حرب الخليج الأولى لإجلاء الجيش العراقي عن الكويت، جعلت لبنان ثانوياً بالنسبة للعرب والولايات المتحدة الأميركية، فركّز حينئذ على توطيد الوحدة الداخلية. من هنا كانت مساعيه لتحقيق مصالحة الجبل مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الذي كان الفريق المقاتل في حرب الجبل. فالبطريرك صفير، كما سائر الزعماء المسيحيين المتنورين، يدرك أن المصالحة الوطنية تبدأ أولاً من الجبل الذي هو قلب لبنان التاريخي ومعيار وحدة لبنان. وبالفعل أدت هذه المصالحة إلى خلق أجواء إيجابية بين المسيحيين والدروز ترجمتها العودة التدريجية إلى قرى الجبل". غير أن هذه العودة اصطدمت بعدم اهتمام الدولة بالبنى التحتية في الجبل وإهمالها المشاريع الإنمائية والتربوية لتثبيت هذه العودة. لقد كان البطريرك واقعياً في مواقفه، إذ بعد سنوات الحرب بين عامي 1975 و1990 والاقتتال المسيحي والانقسام الوطني لم يكن يسمح لنفسه باتخاذ أي موقف مغامر".
السفير المصري
من جهته، ينوه السفير المصري في لبنان نزيه النجاري بالصفات التي كان يتمتع بها البطريرك الراحل، وقد أتيح لنجاري معرفته عن كثب عندما شغل منصباً دبلوماسياً في السفارة قبل أن يعين سفيراً، وكان صفير في تلك الحقبة على رأس السدة البطريركية. وقال "البطريرك صفير كان رجلاً وطنياً صلباً في الحفاظ على هوية لبنان ومفهوم السيادة، مؤمناً بالعيش المشترك، وكان يملك أسلوباً هادئاً غير صدامي في التعبير عن قناعاته، ولكنه بأسلوبه هذا كان ثابتاً ومتسقاً مع نفسه على امتداد الزمن. وقد اثبت أداؤه وممارسته تمسكه بمفهوم العيش المشترك فعلاً لا قولاً، وقد ترجم ذلك في قبوله بميثاق الطائف، كما في علاقاته مع المحيط العربي".