تترك الذكريات المؤلمة تأثيراً نفسياً وعقلياً مدمراً على بعض البشر بما قد يغير حياتهم إلى الأسوأ، لكن ماذا لو لم تسبب هذه الذكريات الألم لأصحابها؟ هذا ما يقترب علماء الأعصاب من تحقيقه عبر التدخل في الذاكرة من خلال تقنيات متطورة لعلاج حالات اضطراب ما بعد الصدمة ومرض ألزهايمر والانفصام في الشخصية. وعلى الرغم من أن التجارب الحالية حققت نجاحاً على الحيوانات كالفئران، فإن العلماء يستعدون لتجربتها على البشر، بما قد يفجر جدلاً في شأن أخلاقيات تغيير جزء أساسي من هوية الإنسان. وإذا نجح العلماء في المستقبل القريب في الوصول إلى هذه النقطة، فهل يجب أن يفعلوا ذلك؟
الذكريات المؤلمة
هل يمكنك تذكر كيف شعرت حينما نجحت للمرة الأولى في قيادة دراجة أو سيارة، وماذا عن لحظات نجاحك الفاصلة أو حسرة قلبك الأولى؟ تظل اللحظات التي لا تُنسى والعواطف التي تثيرها باقية في أذهاننا لعشرات السنين، وتتراكم مع الزمن لتشكل بقوة هويتنا كأفراد، لكن بالنسبة إلى أولئك الذين يعانون من صدمة شديدة، تكون ذكرياتهم مؤلمة إلى حد بعيد، ومن الممكن أن تترك الأشخاص الذين يعانون منها في حالات عقلية تغير حياتهم إلى الأسوأ.
ولكن، ماذا لو أمكن إزالة الذكريات المؤلمة؟ قد يتصور البعض أن ذلك أشبه بالمستحيل، غير أن تطور العلوم والتكنولوجيا أدى إلى تطور فهم الدماغ البشري أكثر مما هو متصور، إذ نجحت مجموعات مختلفة من علماء الأعصاب في استخدام تقنيات تتلاعب بالذاكرة بهدف علاج حالات مثل اضطراب ما بعد الصدمة ومرض ألزهايمر.
وبينما تجري التجارب الأولية التي تحقق حالياً نجاحات مستمرة بشكل أساسي على حيوانات مثل الفئران، يتطلع العلماء إلى إجراء اختبارات مماثلة على البشر، وسط صراع متوقع بشأن تداعيات هذه التجارب وصدامها مع المعايير الأخلاقية حول تغيير جزء أساسي من هوية شخص ما.
ما الذاكرة؟
يطلق علماء الأعصاب على الذاكرة المتعلقة بحدث واحد اسم "إنغرام"، وهو تغيير فيزيائي مادي يحدث في أنسجة المخ المرتبطة بتذكر حدث معين، إذ كشفت الفحوصات المسحية على الدماغ، أخيراً، أن "إنغرام" لا يكون معزولاً في منطقة واحدة من الدماغ، بل يظهر في شكل ألوان متناثرة على امتداد الأنسجة العصبية للدماغ.
وبحسب ستيف راميريز، أستاذ علم الأعصاب في جامعة بوسطن، فإن الذاكرة تبدو أشبه بشبكة في الدماغ أكثر من كونها بقعة واحدة، نظراً لأنه عندما يتم تشكيل ذاكرة "إنغرام" في الدماغ، فإنها تتضمن جميع المدخلات المتعلقة بالبصر والسمع واللمس التي تجعل التجربة لا تُنسى، ومن ثم يجري تشفير خلايا الدماغ في جميع تلك المناطق.
قفزة علمية
وبفضل التطور العلمي والتكنولوجي أصبح العلماء قادرين على تتبع كيفية تحرك الذكريات عبر الدماغ، تماماً مثلما يفعل المحققون الذين يعثرون على آثار أقدام في الثلج. وخلال تجارب أجراها معهد "ماساتشوستس" للتكنولوجيا في بوسطن خلال السنوات الماضية، حقق راميريز وعلماء آخرون قفزة علمية كبيرة، فقد تمكنوا من تحديد الخلايا التي تشكل "إنغرام" واحد في أدمغة الفئران، وزرعوا مكانها ذاكرة مزيفة تسببت في جعل الفئران تتفاعل خوفاً استجابة لمحفز أو منبه معين، حتى عندما لم يتم تأهيلها لذلك المحفز بشكل مسبق.
وفي حين أن أدمغة الفئران ليست متطورة مثل نظيرتها البشرية، إلا أن من شأن هذه التجارب أن تساعد علماء الأعصاب على فهم كيفية عمل ذاكرة البشر، فالأدمغة في الحالتين تعمل بالطريقة نفسها على الرغم من أن الدماغ البشري أشبه بسيارة لامبورغيني، بينما أدمغة الفئران أشبه بدراجة ثلاثية العجلات، لكن العجلات في الحالتين لا تزال تدور بالطريقة نفسها.
تبديل الذاكرة السلبية
وخلال عملهم الحالي، أجرى العلماء تجارب للتحقق عما إذا كانت الذكريات الإيجابية والسلبية مخزنة في مجموعات مختلفة من خلايا الدماغ. ولمعرفة إذا ما كان يمكن استبدال الذكريات السلبية بأخرى إيجابية، حقنوا أدمغة الفئران بفيروس يحتوي على بروتينات مضيئة (فلورسنت)، وزرعوا أليافاً بصرية عبر جراحة بسيطة، وتمت تغذية الفئران بطريقة تمنع الفيروس من الإضاءة إلا حينما يصبح الباحثون جاهزين لتحديد التجربة الإيجابية من السلبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أنشأ العلماء الذكريات الإيجابية من طريق وضع ذكور الفئران في أقفاص مع إناث الفئران لمدة ساعة، والذكريات السلبية من طريق وضع الفئران في أقفاص تؤدي إلى صدمات قصيرة في أقدام الفئران، وبعد ما يتم تكييف الفئران وربط المحفزات الخاصة بكل تجربة، تخضع الفئران لعملية جراحية قصيرة كي يتمكن العلماء من تحفيز الخلايا وربطها بـ"إنغرام" إيجابي أو سلبي. بعد ذلك، اكتشفوا أن تنشيط الذكريات الإيجابية أثناء وجود الفأر في قفص يرتبط بالخوف يجعل ذلك الفأر أقل خوفاً، ولهذا يعتقد الباحثون أن إعادة ضبط الذاكرة قد يساعد في القضاء على بعض الصدمات التي يتعرض لها الفأر.
وفي حين كان فريق راميريز غير متأكد من أن ذكريات الخوف الأصلية فقدت بشكل كامل أو أنها كامنة فحسب، وقد تعود للظهور، إلا أنه باستخدام تقنية مختلفة تمكنت شينا جوسلين عالمة الأعصاب في جامعة تورنتو، من القضاء على ذكريات الخوف لدى الفئران بعد حقن خلايا "إنغرام" مرتبطة بالخوف بسم "الدفتيريا". ما أدى إلى قتل جزء من هذه الخلايا، وبعدها توقفت الفئران عن الشعور بالخوف عقب محو الذاكرة بشكل أساسي.
من الفئران إلى الإنسان
يتفق العلماء الذين أجروا تجارب الفئران، وفقاً لمجلة "ناشيونال جيوغرافيك"، على إمكانية علاج البشر في المستقبل عبر إعادة كتابة الذكريات المؤلمة بمعلومات إيجابية، وعلى أن الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة أو الاكتئاب، يمكن تعديل ذكرياتهم، كي لا يكون لديهم استجابة عاطفية قوية تجاه ذكرياتهم المؤلمة.
ويطمح العلماء إلى استخدام هذه الأبحاث يوماً ما، في علاج الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات عصبية مثل الفصام ومرض ألزهايمر. غير أن ذلك لن يحدث في وقت قريب، ذلك أن التجارب التي أُجريت على الفئران، تشمل تقنيات تتطلب تسليط ضوء أزرق مباشر على الأنسجة العصبية للدماغ. وهو ما يستوجب إجراء جراحة لقطع جزء من جمجمة الفأر وكشف الأنسجة العصبية العارية، وهي تقنية لا يُرجح أن تستخدم مع البشر. مع ذلك، يتوقع العلماء استخدام الأشعة تحت الحمراء في العلاجات المستقبلية، بينما يرى آخرون إمكانية استخدام مواد كيماوية عن طريق الحقن أو البلع، وهي جميعاً أدوات من المحتمل أن ترى النور بعد عقود.
أسئلة أخلاقية
ولكن، إذا كان من الممكن يوماً ما تغيير أو تعديل ذاكرة الإنسان، فإن ذلك يثير مجموعة من الأسئلة الأخلاقية، منها: مَن الذي يجب أن يُسمح له تلقي هذا العلاج، وهل يجب أن يقتصر على من يستطيع تحمل كلفته، وماذا عن الأطفال، وهل سيقبل نظام العدالة هذه التعديلات في ذاكرة البشر، إذا لم يتذكر الشهود والضحايا الرئيسيون جريمة ما؟
يرى بعض أساتذة علم الأخلاقيات، ومنهم أرثر كابلان من جامعة نيويورك، أنها قضية تستحق التفكير من الآن، وقبل أن تصبح التكنولوجيا جاهزة للتجارب السريرية على البشر. مثلما يثار الجدل الأخلاقي حالياً حول تعديل الجينات التي يمكنها تعديل الأجنة البشرية وتغيير أجيال من الناس.
هل يجب فعل ذلك؟
ويرى كابلان أنه ينبغي ألا يكون تعديل الذاكرة متاحاً للجميع، ولكن ربما لأولئك الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة الحادة والذين فشلت العلاجات الأخرى معهم. وعلى سبيل المثال، إذا كان في إمكان الجيش استخدام هذه التقنية مع المحاربين السابقين الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، فهل ينبغي السماح بتغيير ذكريات الجنود الذين سيعودون إلى الحرب، وماذا لو كانوا قد ارتكبوا جرائم فظيعة، هل سيمنعهم تعديل الذاكرة من ارتكاب أمور فظيعة مرة أخرى؟
غير أنه مع تقدم علماء الأعصاب في أبحاثهم، يبدو أن هذه المعضلات الأخلاقية تؤخذ في الاعتبار، فهم يرون أن فكرة التلاعب بالذكريات يجب أن توضع في سياق طبي تجريبي، وأن تطبيق محو الذاكرة أو تعديلها لا يمكن وصفه بأنه جيد أو سيئ، فهي تعتمد على كيفية استخدامها فحسب، لأنها كالماء الذي يمكن استخدامه لتغذية الجسم وترطيبه، كما يمكن استخدامه في التعذيب عبر الإيهام بالغرق.
ولا يريد عدد من علماء الأخلاقيات التسرع في رفض الفكرة، لكنهم يطالبون بالمضي قدماً ولكن بحذر. فهل تؤيد أنت تعديل ذاكرة البشر؟