Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماذا لو كانت سلسلة هاري بوتر تخفي تصفية حساب مع الثاتشرية؟

أمور كثيرة ومفاجئة تختبئ خلف مشروع ولد على مقعد في قطار متأخر

جي. كي. رولينغ لم تتوقع هذا النجاح لروايتها "هاري بوتر" (أ.ف.ب)

مع حكاية مثل حكاية هاري بوتر، قد يكون من الملائم أكثر أن نبدأ من مرحلة متقدمة جداً، لا من البداية. ففي شكل من الأشكال قد تكون البداية عادية جداً إلا إذا طرأ ما يخرجها عن عاديتها وعلى الأقل في المسار المتدرج لما آلت إليه. وما آلت إليه يمكنه أن يتخذ أبعاداً متعددة لعل أهمها البعد العلمي والفكري الجاد الذي اتسمت به تلك الحكاية المتعددة الأجزاء والتي كانت في البداية حكاية خرافية كتبت للصغار فحققت نجاحاً أسطورياً دفع العلماء والفلاسفة والباحثين إلى الانكباب على دراستها أولاً كظاهرة، ولكن بعد ذلك كمنعطف في تاريخ فكري. ومن هنا سنبدأ من تلك الدراسة الجامعية البالغة الجدية التي أجرتها جامعة بنسلفانيا الأميركية العريقة، بعد اكتمال أجزاء السلسلة وتحقيق الأفلام المقتبسة عنها مداخيل خيالية.

نحو أخلاق إنسانية جديدة

فالدراسة التي أجريت على 1142 مواطن أميركي من كل الأعمار والفئات والتوجهات السياسية والدينية، خلصت وبشكل مفاجئ إلى أن القراء والمتفرجين الذين تابعوا مغامرات هاري بوتر يميلون أكثر من بقية الناس إلى الإعلان عن معارضتهم لأحكام الإعدام، واستخدام وسائل التعذيب والتمييز ضد النساء والمسلمين والمهمشين والمثليين، ناهيك بأن غالبيتهم تجد لدى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب توجهات تجعله شبيها بشرير السلسلة لورد فولديمورت!

وسؤالنا الآن، ما الذي تعنيه هذه التأكيدات؟ بكل بساطة أن في الإمكان اعتبار "هاري بوتر" في نهاية الأمر درساً في التسامح والنظرة الإنسانية والقبول بالآخر مع مواقف بالغة التقدم في العديد من الشؤون الإجتماعية. ولعل في مقدورنا أن نضيف هنا أن هذه النتائج إذ صدرت موثقة علمياً دفعت واحدة من أشهر المجلات الفلسفية في أوروبا، "فلسفة" ("فيلوزفي ماغازين") الفرنسية إلى إصدار عدد خاص عن هاري بوتر وظاهرته شارك في تحريره فلاسفة ومحللون نفسيون وعلماء اجتماع، لا نقاد أدب أو سينما، أي حملة مفكرين لم يتورعوا في حديثهم عن هاري بوتر وحكاياته الموزعة على سبعة كتب تلقفها القراء، كباراً وصغاراً، بملايين النسخ، وتحولت حكايات اليوم الأول لنزول كل منها إلى الأسواق إلى ما يشبه الحكايات الخرافية، لم يتورعوا عن الرجوع إلى سقراط وأفلاطون ونيتشه وكانط وهيغل لشرح وجهة نظرهم حولها!

مواقف غير مقصودة

طبعاً لا يمكننا أن نقول هنا إن السيدة جي. كي. رولينغ كاتبة السلسلة كانت تتوقع هذا كله في ذلك اليوم، البعيد الآن، الذي ولدت فيه الفكرة في رأسها بشكل مباغت كما سنرى بعد سطور، ولكن من المؤكد في المقابل أن الأبعاد الفكرية الرئيسة التي كمنت خلف فكرتها وحركتها كانت ماثلة لديها ولو في عقلها الباطن، ولعل تأكيدنا مع رولينغ أن الفكرة ولدت أصلاً ونمت في سنوات الـ 80 من القرن الـ 20 يذكرنا بأن تلك السنوات كانت سنوات المرحلة الثاتشرية التي نظر إليها كثر من الإنجليز نظرة غاضبة، وقد أحسوا أن كل الإنجازات الفكرية الإنجليزية كانت تفلت من يدهم وراح كل واحد يبحث عن طريقة لمقارعة تلك الإساءة التي مثلتها سياسة السيدة الحديدية في حقهم وحق وعيهم والمكتسبات الاجتماعية. طبعاً سيكون من التعسف الزعم هنا أن مؤلفة سلسلة "هاري بوتر" كانت تخوض من خلال فكرتها مشروعاً سياسياً واعياً أو مقصوداً، لكن التأكيد على عكس هذا لن يكون منطقياً كذلك، فبعد كل شيء لا بد من أن ندرك أن الرسالة الأخلاقية والاجتماعية وحتى السياسية تقف متناقضة تماماً مع كل ما مثلته الثاتشرية، ناهيك بأن رولينغ لم تخف أبداً عداءها للثاتشرية.

جلسة في قطار

إذاً نعود بحكايتنا هنا إلى ذات يوم من العام 1990. في ذلك اليوم كانت الكاتبة الشابة التي ستذيع شهرتها في العالم كله خلال العقدين التاليين تحت اسم جي. كي. رولينغ جالسة على مقعدها في قطار ينقلها من مانشستر إلى لندن، تفكر كعادتها بنصّ تكتبه. فجأة ومن دون مقدمات لمعت في رأسها صورة هاري بوتر. الفتى الساحر اللطيف. من أين أتت الصورة؟ لم تعد تذكر تماماً، لكنها تذكر أن شيئاً كالبريق لاح أمام عينيها، وقررت أن تجرب حظها مع تلك الشخصية، ولقد روت هي نفسها ما حدث لحظتذاك على الشكل التالي، "لقد كنت أكتب بلا هوادة منذ كنت في السادسة من عمري، وكانت الأفكار تملأ رأسي دائماً قبل أن أخطّها على الورق. والحال أنه لم يكن قد سبق لي أبداً أن اهتممت بفكرة من قبل قدر اهتمامي بتلك الفكرة المباغتة التي أضاءت في رأسي في قطار ذلك اليوم، حيث بقيت طوال أربع ساعات تأخر فيها القطار عن موعد وصوله، أفكر بهاري بوتر. وراحت التفاصيل تترى أمامي من حول ذلك الفتى أسود الشعر الممحي الشخصية تقريباً، والذي كان منذ ولادته ساحراً من دون أن يدري أول الأمر بذلك".

الناشرون يرفضون

هكذا إذاً ولد هاري بوتر الذي ستعطيه رولينغ تاريخاً لمولده (في العام 1980) هو نفسه تاريخ مولدها، الأول من شهر تموز (يوليو)، ومهما يكن من الأمر فإن الكاتبة لن تفرغ من كتابة روايتها الأولى من بطولة هاري إلا في العام 1995، لتبدأ الحكاية الحقيقية هنا بالتحوّل إلى أسطورة. عند ذلك البدء لم يكن هناك أرقام مدهشة ولا نجاح، ولا حتى أمل بالاستمرار، كانت الحكاية فقط حكاية كاتبة شابة أنجزت رواية تريد أن تعثر لها الآن على ناشر. ولنا هنا أن نتصور مقدار الخيبات التي ستواجهها، إذ راحت ترسل المخطوط إلى ناشر بعد الآخر. خلال سنة زاد عددهم عن الدزينة، لم ير واحد منهم أية إمكانات تجارية لرواية في مئات الصفحات بطلها طفل ولد لأبوين ساحرين ماتا حين كان في أول حياته، ولن يعرف إلا في سن الـ 11 أنه ورث عنهما موهبة السحر. كان اسم الرواية "هاري بوتر وحجر الفيلسوف"، والأدهى من هذا أن الكاتب امرأة وجمهرة القراء العريضة لم تكن متحمسة لقراءة نص كهذا تكتبه امرأة، ومع هذا إذ وصل النص ذات يوم إلى دار نشر "بلومزبيري" اللندنية، رأت هذه الدار أن في إمكانها أن تجازف، مقدمة للكاتبة أول دفعة على الحساب: 2500 جنيهاً استرلينياً. وجازفت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اهتمام أميركي مفاجئ

وكان ذلك في العام 1997، حين نشر الكتاب بعد سنوات من "ولادته" في رحلة القطار، والمدهش أن القراء الإنجليز، صغاراً وكباراً، أقبلوا على شرائه وقراءته وبدأت شهرته تكبر تدريجياً، إلى درجة أن دار نشر "سكولاستك" الأميركية اهتمت به وقررت نشره في طول أميركا وعرضها، مشترطة في مقابل 105 ألف دولار دفعتها إلى الثانية، تغيير عنوانه من "هاري بوتر وحجر الفيلسوف"، إلى " هاري بوتر وحجر الساحر" خوفاً من ألا يعكس العنوان الأول لعبة السحر، مضفياً على الكتاب بعداً عقلانياً فكرياً ما سيحول من دون رواجه، وهكذا كان.

وطبعاً لا نحتاج هنا إلى الإيغال في الحديث عن تلك الحكاية، فالبقية معروفة، خلال 10 أعوام أنجزت رولينغ ستة أجزاء أخرى من مغامرات هاري بوتر، ناهيك بنصف دزينة من كتب لا علاقة له بها، وإن كان معظمها موجهاً إلى القراء الصغار، على أن تستفيد جمعيات خيرية من ريعها، معلنة دائماً أنها لن تستمر في إنتاج السلسلة طويلاً، بل إنها قالت منذ البداية إنها سوف تكتفي بسبعة كتب.

رولينغ صدقت وعدها

وهي صدقت وعدها، وبشكل صارم وحازم، تجلّى في الملحق الذي جعلته لروايتها الأخيرة في السلسلة، "هاري بوتر والمقدسات المميتة". ففي هذا الملحق تنقلنا الكاتبة 19 سنة بعد آخر أحداث الرواية لتضعنا أمام الحياة المستقبلية لهاري مع حبيبته جيني ويزلي التي صارت زوجته وصار لهما ثلاثة أولاد، جيمس سيريوس، اليوس سفيروس وليلي لونا بينما يكون رفيقا صباه وعمره رون وهيرميون قد تزوجا بدورهما، وأنجبا ولدين.

في الفصل اللاحق هذا تلتقي العائلتان في محطة كنغز كروس اللندنية، والحقيقة أن ما في هذا الملحق من مواقف يدحض أية نية في أن يكون قلم رولينغ يخبئ فكرة لكتاب ثامن، وبشكل قطعي.

إذاً في نهاية الأمر سبع مغامرات لشرائح من حياة فتى لايعرف حسّ المرح، وحكايات خرافية وقدرات غير عادية في الظاهر، ولكن في الباطن مواقف فكرية وسياسية واستعادة لفلاسفة يستعان بهم، وبالتالي نجاحات مذهلة تمثلت في بيع ما لا يقل عن 450 مليون نسخة، واحتذاب مليارات المتفرجين مقابل تسخيف للفكر البريطاني المحافظ، فهل يمكن لمشروع فكري أن يتنطح للمنافسة؟

المزيد من ثقافة