Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل كان جورجيو فازاري موضوعيا في تقييماته للفنانين النهضوين؟

رسام ومهندس وكاتب وثق حياة عدد كبير من عمالقة الفن الإيطالي

لوحة لفازاري تمثل شعراء توسكان وفي المقدمة دانتي وبترارك (غيتي)

مما لا شك فيه أن القرون الأخيرة من الزمن كان من شأنها أن تطوي ذكر عدد كبير من فناني عصر النهضة الإيطالية لولا أن ذلك الفنان والكاتب الاستثنائي جورجيو فازاري، قرر ذات يوم أن يتفرغ سنوات طوال لكي يدون سيرهم ويتحدث عن إنجازاتهم الفنية. وكانت النتيجة إصداره في عام 1550 ذلك السفر الموسوعي الذي لا تزال الثقافة العالمية تعتمده حتى اليوم وتترجمه إلى عدد كبير من اللغات وتدرسه وتدرّسه لتستخلص منه عبراً ومعلومات وتجميع تيارات وربط علاقات وتشابكات بين الفنانين الذي تناولهم من بين الذين عاشوا وعملوا في المدن الإيطالية بين نهاية القرن الثالث عشر والزمن المعاصر له وصولاً، في الطبعة الثانية التي ظهرت على حياته من الكتاب إلى عام 1568. الكتاب الذي نتحدث عنه هنا هو المعروف بـ"حياة أفضل الرسامين والنحاتين والمعماريين" ولسنا نعتقد أن هناك من بين المهتمين بالفنون حتى في أزماننا الحديثة هذه من يجهل هذا الكتاب الذي يحمل اختصاراً عنوان "حياة الفنانين" وأحياناً "كتاب فازاري".

سابقوه ومعاصروه

في اختصار تناول فازاري في كتابه نحو مائتين من كبار الفنانين الذي عرف أعمالهم عن كثب وتحرى مجريات حياتهم وأطلق أحكاماً في شأن فنهم بل كان من بينهم كثر عرفهم شخصياً إذ كانوا مجايلين ومعاصرين له وتابع بنفسه تطور أساليبهم الفنية. ومن هنا كان الاتكال على هذا الكتاب بشكل عام منطقياً. ومع هذا يبقى سؤال لطالما طرحه كثر من النقاد والمؤرخين على أنفسهم: هل يمكن حقاً، وبعد كل شيء، الركون إلى أحكام فازاري وتقييماته؟ ولئن كان كثر قد اكتفوا دائماً بطرح السؤال الحائر هذا غير قادرين على الإتيان بأجوبة منطقية له، فإن آخرين، لا سيما في القرنين الأخيرين طلعوا من دائرة التساؤل ليصلوا إلى وهدة اليقين مؤكدين أن فازاري لم يكن موضوعياً في تقييماته وبخاصة بالنسبة إلى الفنانين المعاصرين له. ومن هنا، كان من المنطقي في أزمنة نعيشها وتكثر فيها إعادات النظر واللجوء إلى التمحيص النقدي، أن يرى بعض النقاد والمعلقين أنه كان من المستحيل على فازاري أن يكون موضوعياُ وسط الصراعات التي كانت مستشرية في زمنه وضروب التنافس بين المدن على تمجيد فنانيها وتعدد أسباب الخلاف بين هؤلاء وأولئك وصولاً أحياناً إلى المبارزات بالسيوف، كما يمكننا أن نرى مثلاً في السيرة الذاتية التي كتبها الفنان بنفينوتو تشيلليني واستعرض في صفحاتها تلك الخناقات القاتلة أحياناً والتي يتدخل فيها الكرسي الرسولي في أحيان أخرى وغالباً من حول التنافس الفني والسعي للحصول على الصفقات وما شابه.

موضوعية مستحيلة

من هنا يأتي الاستنتاج بأنه لم يكن في مقدور فازاري أن يكون موضوعياً خاصة أنه هو نفسه كان رساماً، ولم يكن من كبار الرسامين. وكان مهندساً معمارياً قد تكون له صولات وجولات في هذا المضمار لكنه لم يكن أبداً من المبرزين إلا في إنجازه لإحدى أهم قاعات الفاتيكان المعرفة بـ"قاعة قصر الأوفيتزي"، لا سيما الممر في القاعة المعروف بممر فازاري. ونعرف أن هذا الإنجاز لم يكن ليضمن تفوق فازاري وبالتالي اتجاهه إلى موضوعية يغوص فيها الناجحون. ومن هنا كان كثر قد أشادوا بفازاري قبل سنوات عدة من الآن لمناسبة الاحتفال بالذكرى 500 لولادته عام 1511، ومنهم ناقد صحيفة "تسايت" الألمانية هانو راوتربرغ الذي كتب للمناسبة يقول: "ما من مؤرخ للفن تمكن من أن يشكل تصورنا للفن كما فعل هذا الرجل. ولئن كان من الطبيعي لنا اليوم أن نتكلم عن الحقب الفنية من الحقبة القوطية إلى عصر النهضة، ولئن كنا قادرين على أن نرى في الفنان شخصاً هامشياً وعبقرياً صاخباً يقف على حافة الجنون، إذا كنا نتحدث عن حرية الفن واستقلالية الفنان، فإن الفضل في هذا يعود إلى فازاري". في المجمل نستفيد من هذا أن العمل الجبار الذي أنجزه فازاري كان عملاً واعياً. ولكن مهلاً ينبهنا باحثون أكثر ارتياباً مستطردين أن "فازاري فرض علينا في نهاية الأمر رؤيته الخاصة وأحكامه الذاتية هو الذي حدد أن القرون الثلاثة التي سبقت زمنه شهدت ذلك "التطور الهائل إنما البطيء" الذي اتخذته الفنون التي تناولها بدءاً من "تشيمابوي الذي افتتح الاحتفال" وصولاً إلى ميكائيل أنجلو الذي يرى فازاري أن "من المستحيل تجاوزه".

تصفية حسابات متعددة

فما شأن هذا بالموسوعية وموضوعيتها المفترضة؟ وكيف لا يمكننا أن نتلمس أن هذا المؤرخ لا يتورع في طريقه عن اللجوء إلى أنواع متعددة من تصفية الحسابات وتحطيم الأساطير التي كان من مصلحته أن يحطمها؟. وانطلاقاً من هذه الفرضية سيحق لنا بالتأكيد أن نتساءل عما يقصده فازاري حين يقول أن "باتشيو باندينيللي لا فائدة ترجى منه" أو أن "الأخوين أغوستينو وآغنولو إبني مدينة سيينا طفيليان" و"باولو أوتشيلو أسير موضوع واحد لا يحيد عنه" و"بيارو ديلا فرانشيسكا بولغ في تقييمه" وأن بارتولوميو ديلا غاتا "كان من الأفضل له أن يكتفي برسم المنمنمات من دون خوض فن الرسم الكنسي" و"كارباتشيو أخطأ حين غير مدينته ومساره". والحقيقة أن في وسع الباحث المدقق أن يعثر على الكثير من مثل هذه الأحكام المطلقة التي قد تصل أحياناً إلى حدود التهجم الشخصي كأن يصف فازاري سودوما بأنه مثلي الجنس وأندريا ديل سارتو بأنه "غاوي عبيد"!

المعاصرون أسوأ الجميع

واللافت في هذا كله هو أن فازاري كان يزيد من حدة تهجمه على الفنانين كلما كانوا أقرب في السن إليه وأبعد في انتماءاتهم المدنية عن انتمائه. بل يمكن القول من دون وجل أن معظم الذين هاجمهم لأمور شخصية كانوا من معاصريه وتحديداً من منافسيه، ناهيك بأن العيوب التي كان يأخذها على العديد منهم كانت غالباً ما تنحصر في كونهم من غير أبناء منطقته توسكانا! والأدهى من هذا ما نراه لديه في المقابل من أنه يجعل من جد أبيه فناناً كبيراً من أكثر فناني زمنه إبداعاً مع أن البحوث والمصادر التاريخية حتى في أيامه أكدت أنه كان مجرد سروجي يصنع سروج الأحصنة. ثم تأتي الطامة الكبرى حين يصل فازاري في الحديث إلى مساره الفني الخاص فلا يتوانى عن وصف نفسه بأنه من أبرع فناني زمنه هو الذي "كان تلميذاً نجيباً" لميكائيل أنجلو وهو الأمر الذي لم يذكره أحد غيره في أية مدونة تاريخية...

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحيطة واجبة

فهل معنى هذا أن علينا في نهاية الأمر أن نرمي في مهب النسيان ذلك السفر الفني الكبير استناداً لهذه العيوب والنواقص التي نشير إليها؟ طبعاً لا... فحسنات "حياة الفنانين" في نهاية الأمر تفوق سيئاته أضعافاً مضاعفة. بالتالي فإن المطلوب قراءته بقدر لا بأس به من الحيطة والحذر. فبعد كل شيء كان فازاري فناناً وكاتباً وإنساناً له كل عيوب الفنانين والكتاب والبشر العاديين، وربما نفس العيوب التي اتهم زملاءه بها في صفحات جزئي كتابه لكنه لم ينس أن يشير إلى أن إبداعهم الفني "يشفع لهم ويدفعنا إلى التغاضي عن عيوبهم بل حتى عن آثامهم". وهو، كما يشير مواربة بين الحين والآخر، ما كان من شأنه أن يهتم بهم ويكتب عنهم ويخلدهم في نصوصه أم أنهم لم يكونوا يستحقون ذلك، بمعنى أن حكمه عليهم كان هو المقياس. ولا شك أن هذا الاستنتاج الذي يمكن القارئ أن يصل إليه، يرد لجورجيو فازاري (1511 – 1574) جزءاً كبيراً من دين فكري وفني يتمثل في هذا السفر الذي لا يمكن مهتماً بالفنون أن يستغني عنه شرط أن "يتجرعه بقدر ما من الحيطة"...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة