Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معركة بين توماس مان وشوينبرغ... وآدورنو كاد يكون شاهد زور

هل سرق صاحب "دكتور فاوستوس" أفكاره من صديقه الموسيقي؟

توماس مان (غيتي)  

هي واحدة من الحكايات الطريفة التي عرفتها الحياة الثقافية الألمانية خلال تلك الحقبة التي شهدت نهضة إبداعية حقيقية كانت في النهاية حقبة اختلطت فيها أمور كثيرة مخلفة صفحات لا تنسى من السجالات والصراعات. لكن المهم في هذه الحكاية أن لها ثلاثة "أبطال" يمكن أن يعتبر كل واحد منهم من ألمع العقول وكل في مجاله: توماس مان في مجال الرواية، وأرنولد شوينبرغ في مجال الموسيقى وكذلك التنظير للموسيقى، وتيودور آدورنو في مجال الفلسفة وبخاصة فلسفة الموسيقى الحديثة.

حكاية ثلاثية

والحكاية بين الثلاثة حكاية ما يسميه واحدهم "استلهاماً يجوز عدم ذكره"، فيما يسميه الثاني "سرقة أدبية واضحة وفاضحة"، ويستدعى الثالث ليكون شاهداً على الحكاية والسجال بين الاثنين الأولين. فالحال أن قارئ رواية توماس مان الكبرى "دكتور فاوستوس" ما إن يصل إلى صفحاتها الأخيرة، ويتجاوز الملحق التفسيري الاستطرادي الذي اختتم به الكاتب روايته، يفاجأ بملاحظة صغيرة مؤلفة من عدد ضئيل من السطور، ما كان في إمكانه أبداً أن يتخيل ورود ما يشبهها في عمل إبداعي من هذا النوع. تقول الملاحظة التي كتبها توماس مان بنفسه: "لا يبدو لنا هنا أمراً سطحياً، أن ننبه القارئ إلى أن الشكل الموسيقي الذي نتحدث عنه في الفصل الثاني والعشرين من هذه الرواية، والمعروف باسم "النظام الإثني عشري" هو في الحقيقة ملكية ثقافية لمؤلف موسيقي ومنظر هو معاصرنا آرنولد شوينبرغ. وكل ما فعلته هنا هو أنني دمجت هذه التقنية في محتوى مثالي إلى حد ما، بالسمة الخيالية لموسيقي، هو البطل التراجيدي لروايتي. والحال أن مقاطع هذا الكتاب التي تعالج نظرية الموسيقي تدين في بعض تفاصيلها إلى كتاب "هارمونيبهر" للموسيقي شوينبرغ".

أنا معاصركم؟!

والحقيقة أن لهذه الملحوظة حكاية لا تخلو من طرافة، رواها لاحقاً الفيلسوف والباحث الموسيقي آدورنو، صديق توماس مان وآرنولد شوينبرغ. وفحوى الحكاية أن توماس مان، الذي كان رفيقاً لآدورنو وشوينبرغ في منفيهما في كاليفورنيا أواخر أربعينيات القرن العشرين، كان أطلعهما على المخطوط الأولي لروايته "دكتور فاوستوس". وإذ تعرّف شوينبرغ إلى بعض سمات عمله - لا شخصيته - في بطل الرواية، غضب ولام توماس مان على كونه استعان بأفكاره من دون أن يفصح عن ذلك. فهدّأ مان من غضبه، ثم نشر الرواية وأضاف إليها تلك الملاحظة. لكن الأمور لم تنته عند هذا الحد. فشوينبرغ حين جاءته نسخة من الرواية وقد نشرت وقرأ الملاحظة اتصل غاضباً بمان صارخاً فيه: "أنا معاصركم؟ إن التاريخ هو الذي سيريكم لاحقاً من منا معاصر للآخر".

عودة إلى الحكاية

وهذه الحكاية نفسها مع تفاصيل جديدة، عاد إليها قبل فترة الكاتب الإسباني إنريكي فيلا – ماتاش في سياق تعليقه على ترجمة جديدة لرواية توماس مان إلى اللغة الإسبانية، حيث كتب متسائلاً تحت عنوان "هل سرق مان شوينبرغ؟" متوقفاً عند فكرة مفادها بأن مان، مثل كثر من سارقي أفكار الآخرين انتهى به الأمر إلى الاعتقاد بأن الفقرات التي سرقها بأكملها من شوينبرغ كانت من بنات أفكاره هو. علماً بأنه لم يسرقها يومها مباشرة من الموسيقي النمساوي الشهير بل من طريق نشر آدورنو لها كجزء من دراسته حول الموسيقى الإثني عشرية بشكل عام وموسيقى شوينبرغ بشكل خاص. ويروي ماتاش أنه سمع الحكاية أول ما سمعها على لسان الناقد الأدبي الكاتالوني جوردي يوفيت، الذي قال له إثر عودته من دراسة قام بها في ألمانيا أنه التقى هناك بالسيدة غريتيل أرملة الفيلسوف آدورنو، التي راحت تحدثه عن الرسائل المسهبة التي كان المرحوم زوجها يبعث بها إلى توماس مان في الوقت الذي كان فيه هذا الأخير يكتب روايته "دكتور فاوستوس"، وفيها يشرح له تفاصيل نظريات شوينبرغ المتعلقة بالموسيقى التي كان يشتغل عليها هذا الأخير، وذلك كنوع من الرد على عدد كبير من أسئلة كان مان يطرحها عليه.

نزاهة غير مقبولة

وبالنتيجة تمكن مان من أن يجد في آدورنو المقيم في منفاه في كاليفورنيا، خير معاون له على تحبير صفحات كثيرة من الرواية يفصّل فيها تفصيل العارف، وإنما على لسان بطله جزءاً كبيراً من النظريات الموسيقية الجديدة التي كان دور آدورنو أن يبسطها ويوصلها بتلك البساطة إلى مان. أما مان فإنه أوردها في سياق روايته بوصفها جزءاً من بحوث بطله حول الموسيقى الحديثة، بالتالي بوصفها جزءاً أساسياً من المفاهيم التي تتناولها الرواية، لكنها هنا منسوبة إلى بطل هذه الأخيرة وليس إلى مبدعها الأصلي، شوينبرغ. وبعد ذلك وقبل أن تصدر الرواية مطبوعة وجد توماس مان أن من النزاهة بمكان أن يرسل مخطوطتها إلى آدورنو كما إلى شوينبرغ تعبيراً عن اعترافه الضمني بجميلهما وكيلا يفاجآ باستخدامه الصفحات التي بسّط فيها آدورنو نظريات شوينبرغ مستخدماً فقرات بكاملها من كتاب شوينبرغ اتباعاً لنظرية التوليف – وتسمى اليوم المثاقفة – التي تتهاون مع مبدع حين يريد الاستعانة بكتابات آخر ناسباً إياها إلى شخصية معينة في مبدَعه. بالنسبة إلى مان لم يكن ثمة في الأمر ما يضير لكن شوينبرغ ما إن قرأ المخطوط ووجد نظرياته تحمل توقيع توماس مان ولو منسوبة إلى شخص وهمي هو بطل الرواية، حتى جن جنونه وقرر حتى أن يضحي بصداقته مع مان والبادي أظلم. وهكذا اندلعت بين الموسيقي والروائي معركة حادة حاول آدورنو أن يتملص من خوضها مناصراً لأي من الطرفين، كما روت غريتل، أرملته، للكاتب الإسباني بعد نصف قرن وأكثر. ومهما يكن فإن حيادية آدورنو، الشاهد في الحكاية كلها، تمكنت من رأب الصدع بين الاثنين ولو بشكل مؤقت، حيث كان هو من أقنع مان بإضافة تلك الجملة التي أشرنا إليها أول هذا الكلام والتي زادت من غضب شوينبرغ... ولو إلى حين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


وصية كاتب كبير

وهنا يبقى أن نشير إلى أن رواية "دكتور فاوستوس" كانت آخر الأعمال الكبرى التي كتبها توماس مان في حياته، وهو الذي لم يكتب من بعدها حتى رحيله في عام 1955 سوى عملين، أولهما ثانوي الأهمية هو "المختار"، والثاني "اعترافات فارس الصناعة فليكس كرول"، التي لم تكن أكثر من إعادة كتابة بإسهاب لقصة قصيرة كان مان أصدرها في عام 1922. ومن هنا كانت "دكتور فاوستوس" وصية توماس مان النهائية. وهي، في الحقيقة، تستحق هذه المكانة، بل تستحق أن تفضّل حتى على "الجبل السحري" و "آل بودنبروك" وغيرهما من روايات مان الكبرى. وتقول لنا سيرة الكاتب إنه صاغها خلال ثلاثة أعوام ونصف العام، بين أواسط أيار 1943 وبداية عام 1947حتى وإن كانت لم تنشر إلا في عام 1949 مصحوبة بعودة توماس مان إلى ألمانيا، بعد سنوات من هزيمة هتلر وزوال النازية التي كانت أرغمته ومئات غيره من المبدعين الألمان على سلوك دروب المنفى. ونذكر أن مان أصدر في العام نفسه نصاً عنوانه "يوميات دكتور فاوستوس" تحدث فيه بإسهاب عن ظروف تأليفه هذه الرواية الضخمة، مفسّراً لماذا اختار لها أن تروى من طريق شخصية صديق لبطلها، لم يعد تحت قلم مان مجرد وسيط يروي، بل صار صاحب شخصية موازية لها هي الأخرى حياتها وتقاطعاتها مع حياة الشخصية الرئيسة. وهذا الراوي هو، هنا، ليس فقط لكي يروي لنا أحداث حياة صديقه الموسيقي بطل الرواية، بل ليضعنا كذلك في مواجهة معادل للبطل، ما يحول حياة هذا الأخير إلى نوع من الأسطورة الرمزية، ويقترح أن هذا البطل الموسيقي قد يكون أيضاً، كناية عن ألمانيا. التعبير عن صورة ما لألمانيا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة