اتخذت الحكومة التونسية جملة من الإجراءات لتسهيل سير عروض عقود المشاريع العمومية، بالتالي إنجاز المشاريع الكبرى الحكومية، التي تمنح لشركات المقاولات التونسية والأجنبية عن طريق عقود، والمتعلقة بالبنية التحتية، مثل الطرقات والنقل والموانئ والمطارات، عن طريق تنقيح الأمر المنظم لعقود المشاريع العمومية بهدف توفير المرونة في إبرام العقود ومساعدة المتصرفين العموميين على إنجاز مهامهم.
وشملت هذه الإجراءات ترتيبات جديدة يبدو أن الهدف منها تبسيط المعاملات الإدارية، وتقليصها، ودعم وترشيد الحوكمة الرشيدة، وإضفاء مزيد من الشفافية، وقد ورد التنقيح استجابة لمطالب المتعاملين الاقتصاديين في تونس، الذين انتقدوا طول سير الإجراءات والبيروقراطية المعطلة للمشاريع الكبرى، علاوة على عدم توفر عنصر التكافؤ بين حظوظ ملفات العارضين الأجانب للفوز بهذه العقود والمؤسسات التونسية المحلية.
لكن الأمر الوزاري المنقح للقانون جُوبه بالنقد اللاذع من قبل الاقتصاديين التونسيين الذي رأوا فيه تشريعاً للفساد وتقوية للشركات الأجنبية، في حين ذهب أهل المهنة من ممثلي الشركات التونسية إلى أنه لم يُراعِ مقترحاتهم، ولا يتناغم مع المواصفات العالمية لنشر عروض العقود والبت فيها.
صلاحيات للمانحين
ولن يقع تمرير الأمر الحكومي المذكور على البرلمان التونسي، بحكم احتوائه على أوامر ترتيبية لا تحتم عرضه على مجلس النواب، فهو يتمثل في تنقيح بعض الفصول بالقانون السابق من أجل تجاوز التعطيل الذي تعانيه عقود المشاريع العمومية، وتتفرع عقود المشاريع إلى نوعين، المشاريع الممولة من ميزانية الدولة والمشاريع الممولة من المقرضين الدوليين، وفق الاقتصادي غازي معلى الذي اعتبر التعديل الجاري للنصوص تمهيداً لمنح صلاحيات أوسع للممولين الدوليين. وقال، "هذه الصلاحيات تمكن الجهة المانحة للمشروع العمومي من اختيار شركة المقاولات وتمتعها بحق رفض الشركة وإقالة المقاول، وهو بذلك متجاوز للقانون التونسي، وغير ملزم به في جوانب عدة، فهو يمنح صلاحيات واسعة للمقرضين إلى درجة المس من سيادية القرار التونسي، إذ تم إضعاف الدور الرقابي للدولة التونسية، وقد أضحى دور "مراقب المصاريف"، أو مراقب الدولة صورياً، فالقانون لا يحتم حضوره كعضو في كل لجان العقود، وتحول المراقبون للمصاريف مجرد ملاحظين، ما سيضعف الرقابة".
مخالفة المواثيق الدولية
كما يلغي النص المنقح للقانون إلزامية قرارات "هيئة متابعة ومراجعة العقود العمومية" (هيئة مستقلة)، ويحد من عملية المراجعة ومن استقلاليتها، وهو تمش مخالف للقوانين والمواثيق الدولية التي أبرمتها تونس مع عديد من الممولين، وبالتالي، تفقد منظومة التظلم الشفافية والحيادية، في الوقت الذي طالب فيه البنك الدولي و"المنظمة الدولية للتعاون الاقتصادي والتنمية" بدعم استقلالية "الهيئة العليا للطلب العمومي"، وإخراجها من دائرة القرار وضمان استقلاليتها بإبعادها من الإشراف المباشر لرئاسة الحكومة ومحكمة المحاسبات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وساهمت الإضافات والتنقيحات في إضعاف عنصر الشفافية بل ضربه، إذ حذفت تعهد "هيئة المتابعة " بمراجعة العرائض مع عدم اطلاعها على المصدر، ما يهدد بفقدانها للمصداقية لدى كل المتدخلين والممولين، وفق الاقتصادي معلى.
تنقيح أحادي
ويتحتم على الأمر المنظم للصفقات العمومية أن يعرض على "المجلس الأعلى للطلب العمومي"، وهو هيئة تشاركية تتكون من الإدارة العمومية والمنظمات الوطنية، لكن هذا لم يحصل مع القانون المعدل، هذا ما ورد على لسان رئيس "الجامعة الوطنية التونسية للبناء بمنظمة الأعراف"، جمال الكسيبي، الذي أضاف أن النص المنقح قامت بوضعه الإدارة العمومية بطريقة أحادية، ولم تحترم الاجتماعات السابقة بين الإدارة و"جامعة البناء" و"المنظمة الدولية للتعاون الاقتصادي والتنمية" والمقترحات التي قدمتها، والحال أن المقترحات عملت على مراعاة المقاييس الدولية في تنظيم الصفقات العمومية، وتم وضع أطر الإصلاح لتقريب القانون التونسي للمواصفات الدولية من أجل تحسين ترتيب تونس لدى "doing business" وتسريع المشاريع، وتتمثل الإشكالات الحقيقية في استفحال البيروقراطية والحواجز العقارية.
مشاريع راكدة
أما الهدف الحقيقي الذي استوجب إدخال تعديل على القانون فهو تحريك المشاريع الراكدة والتسريع في إنجازها، ويبلغ حجم المشاريع الكبرى المعطلة في تونس خمسة مليارات يورو (5.9 مليار دولار)، وهي تمويلات جاهزة وضعت على ذمة الدولة التونسية من طرف المانحين من أجل تنفيذ مشاريع وطنية ضخمة في مجال البنية التحتية والنقل والطرقات ومنظومة توزيع المياه، وقد سجل تأخير في تنفيذ مشاريع بقيمة 1.5 مليار يورو (1.77 مليار دولار) في مجال إعادة تجهيز منظومة المياه في كامل التراب التونسي.
سيطرة الشركات الأجنبية
وتعاني شركات المقاولات التونسية من المنافسة الشرسة للشركات الأجنبية، وهي غير عادلة في حالات عدة، وتفوز الشركات الأجنبية بأفضل العقود وأهمها، على الرغم من تميز عروض الشركات المحلية التونسية وقدرتها على المنافسة، وتستحوذ الشركات الأجنبية على 30 في المئة من المشاريع الوطنية بالسوق المحلية التونسية، في حين أن المعدل العالمي لحضور المؤسسات الأجنبية بالأسواق المحلية في مختلف البلدان لا يتجاوز أربعة في المئة.
ويخص القانون الجديد الشركات التونسية بمبدأ الأفضلية الوطنية وترفيعها إلى 20 في المئة للفوز بعقود المشاريع في مواجهة الحريف الأجنبي، علماً بأن نسبة الأفضلية للشركات المحلية تبلغ 15 في المئة في المغرب و20 في المئة في الجزائر، لكن يغفل المشرع التونسي على عدم مراعاة الممولين الأجانب لمبدأ الأفضلية، والحاجة الماسة إلى التشاور وتركيز لجنة مختصة للتفاوض مع المقرضين في هذا المجال.
ويوهم القانون بدعم مساهمة المؤسسات التونسية في هذه المشاريع والرفع من مستوى التشغيل، بينما تكرس نصوصه سيطرة الشركات الأجنبية بالنظر إلى جنسية الممولين.
تدخل الممولين
ويكرس نص القانون الجديد المنقح هذه الوضعية، فهو لا يجبر المشاريع الممولة من قبل المقرضين الأجانب على المرور أمام الهيئات الرقابية التونسية، مثلما كان معمولاً به في السابق، ويعفيها بذلك من الرقابة، ويمكن المقرضين من منح المشاريع للشركات الأجنبية بمقتضى تمويلهم إياها، ما سيؤدي إلى تعطيل الشركات التونسية، إضافة إلى إلغاء آلية التظلم التي ضمنت في السابق ترشيد الحوكمة، فقد وقع تحويل سلطة "هيئة التظلم" من الإلزامية إلى الاستشارية.
ضرب الرقمنة والشفافية
وتهدد هذه التعديلات بتراجع المصداقية والشفافية، وفق جمال الكسيبي، الذي ذكر أن إلغاء "هيئة التظلم"، من شأنه أن يضرب مبدأ الحوكمة الرشيدة، وخسران تونس بالتالي نقاطاً عدة في ترتيبها لدى "doing business"، كما تم إلغاء المرور الوجوبي لنشر عقود المشاريع العمومية من الشراءات وأذون الطلبيات، على الموقع الإلكتروني المخصص لذلك، وتُحوّل إلى نشر اختياري، وهي إجراءات تؤدي حتماً إلى تراجع مؤشر الشفافية والرقمنة، ويتوقع بناءً على ذلك تراجع ترتيب تونس، بأربع مراتب في سلم "doing business" و10 مراتب بمؤشر البنك العالمي لمناخ الأعمال والرقمنة.