Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شركات الأدوية تريد تجاوز أزمة الأفيون لكن ضحاياها عاجزون

هكذا أغرق موزعون كبار الولاية الأميركية فيرجينيا الغربية بمئات الملايين من أدوية ألم أفيونية توصف طبياً

الشرطة تفتش منزلاً مهجوراً تنتشر فيه إبر المواد غير المشروعة في هنتنغتون، بفيرجينيا الغربية (أ ف ب/غيتي)

في صفحات من "عناقيد الغضب" The Grapes of Wrath  للروائي الأميركي جون ستاينبك، ينفّذ موظف ممثل عن أحد البنوك قراراً يقضي بطرد مزارع من أرض كان استأجرها. نُشرت الرواية قبل 80 عاماً مضت، ولكنها كما يبدو ما زالت وثيقة الصلة بما يحدث اليوم.

يتوجه المصرفي إلى المستأجر، قائلاً "آسفون. لسنا نحن المسؤولين عن ذلك. إنه الغول. والبنك ليس كالإنسان".

"نعم، ولكن البنك مصنوع من أشخاص"، يردّ المستأجر، منتظراً نوعاً من تأجيل الإخلاء.

"لا، أنت مخطئ في هذا - مخطئ تماماً. البنك شيء أكبر من البشر. إنه غول. البشر صنعوه، لكنهم يعجزون عن السيطرة عليه"، يقول موظف المصرف.

فكرت في تلك الكلمات أخيراً، إذ جلست في قاعة إحدى المحاكم في تشارلستون، عاصمة ولاية فيرجينيا الغربية (ويست فيرجينيا) في الولايات المتحدة الأميركية، ورحت أستمع إلى مسؤول تنفيذي في شركة أدوية كان يدافع عن الأخيرة لدورها في تأجيج وباء الأفيون.

سُئل، وهو موظف سابق مسؤول عن التزام اللوائح في إحدى شركات الأدوية "الثلاث الكبرى" التي نقلت مجتمعة إلى فيرجينيا الغربية مئات الملايين من الحبوب المسكنة للألم التي لا تُصرف إلا بوصفة طبية، لماذا لم توقف شركته شحناتها عندما بات جلياً أن المنطقة تواجه مشكلة.

"نحن شركة. لسنا وكالة مكافحة، ولا هيئة تنظيمية"، قال كريس زيمرمان، نائب الرئيس الأول للشؤون التنظيمية في  "أميريسورس بيرغن" AmerisourceBergen.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الفكرة القائلة إننا لا يمكن أن ننتظر من شركة مكونة من أشخاص أن تتصرف كإنسان، حتى في مسائل الحياة والموت، أثبتت قدرتها اللافتة على الصمود. نجت سابقاً في خضم أزمة "الكساد العظيم" التي يحكي عنها ستاينبك في روايته حتى وصلت إلى مجالس إدارة الشركات الأميركية اليوم. استمراريتها هذه تخبرنا إلى حد ما كيف تُرك وباء استخدام المواد الأفيونية ينمو حتى استحال الوحش الذي صار عليه.

لعبة أرقام

في دعوى قضائية بارزة مرفوعة أمام المحكمة في تشارلستون، وفيها أدلى المسؤول التنفيذي بشهادته، تسعى السلطات في مدينة هنتنغتون ومقاطعة كابيل إلى الحصول على نحو ملياري دولار أميركي (ما يساوي حوالى 1.5 مليار جنيه استرليني) من الشركات العملاقة الثلاث، "كاردينال هيلث" Cardinal Health و"ماكيسون" McKesson و"أميريسورس بيرغن" AmerisourceBergen  للرعاية الصحية. تتهم السلطات الشركات المذكورة بالتسبب  بـ"أضرار عامة" جراء عدم منعها كميات لا تُعدّ ولا تُحصى من أدوية توصف طبياً من أن تتدفق إلى المقاطعة والمدينة في غمرة ارتفاع معدلات الإدمان والجرعات الزائدة بين السكان.

لا تتوخى الدعوى القضائية رأب الصدع الفلسفي بين الإنسان والشركة، إذ لا تناقش مسألة أنه كان على الشركات المذكورة أن تتصرف كإنسان، أو كشركة مسؤولة لا أكثر، للحؤول دون حصول أسوأ ما في هذه الأزمة.

قدّمت المحاكمة نظرة نافذة مثيرة للقلق بشأن كيف أن قرارات اتخذتها قبل عقد من الزمن مجالس إدارات بعيدة من الولاية، كان لها أن تؤثر في حياة كثيرين هنا في فيرجينيا الغربية.

فيما كانت المحاكمة جارية على قدم وساق، تنقلتُ بين قاعة المحكمة ومقاطعة كابيل كي أتتبّع أثر تلك القرارات. كانت تجربة متنافرة. في يوم كنت أستمع إلى المديرين في واحدة من شركات الأدوية، إذ راحوا يشرحون بعبارات باردة لماذا كانت أفعالهم منطقية بالنسبة إلى الشركة. وبعد أيام قليلة، قابلت الأشخاص الذين ما زالوا يكابدون تداعيات تلك القرارات.

تستهدف هذه الدعوى موزعي الأدوية، وليس الشركات المصنعة لها. وعلى هذا الأساس، تصبّ تركيزها على الأرقام - تحديداً، على حجة مفادها بأن العدد المهول من أدوية ألم أفيونية توصف طبياً شُحنت إلى مقاطعة كابيل كان مرتفعاً جداً إلى حد أنه كان على الموردين التوقف عن توزيعها.

خلال الأيام الأولى من المحاكمة، طُلب من كريغ ماكان، الذي ظهر كشاهد خبير لصالح المدعين في اليوم السادس من وقائع الدعوى، أن يحتسب بعض الأرقام على آلة حاسبة للمحكمة بغية تحديد العدد الإجمالي للعقاقير التي وزعتها الشركات الثلاث المذكورة. توقف لبرهة قبل أن يقدّم إجابة.

"لا تستوعب الآلة الحاسبة أرقاماً بهذا الحجم الضخم. أنا آسف"، قال الشاهد الخبير.

قيل للمحكمة إن 109.8 مليون جرعة تقريباً من "الهيدروكودون" hydrocodone (أحد أدوية مجموعة الأفيون الذي يُستخدم كثيراً لتثبيط السعال وعلاج الألم) و"الأوكسيكودون" oxycodone  (مسكن أفيوني يُستخدم للسيطرة على الألم) شُحنت إلى مقاطعة كابيل بين عامَي 2006 و2014، وأن الشركات الثلاث الكبرى وفّرت حوالى 90 في المئة منها.

ناشد محامو المقاطعة ممثلي شركات الأدوية أن يبدوا موقفهم بشأن الأرقام الفلكية. وبطبيعة الحال، تنويعات من الكلمتين، "نحن شركة"، سترِد منهم على نحو دائم.

شكّلت العبارة الكاشفة "نحن شركة" الانطلاقة في جلسات كثيرة خلال المحاكمة التي أظهرت الفجوة بين قرارات يشهدها مجلس الإدارة والتأثير الذي يترتب عنها في أرض الواقع، والأشخاص الذين تغيّرت حياتهم نتيجتها.

التعايش مع "مصانع الحبوب"

"كانت شركات الأدوية وشركات التوزيع تدرك ما تفعله. كانت على بيّنة مما يطاول الولاية من إغراق بالأدوية الأفيونية، وببساطة لم تُعِر ذلك أي اهتمام"، قالت ليزا سميث البالغة من العمر 36 سنة، في لقاء تأهيلي قرب هنتنغتون.

نشأت سميث والمخدرات ومشكلاتها تحيط بها. على غرار كثيرين في مختلف أرجاء الولاية، بدأ كل شيء باستخدام سيّء للأدوية التي تتطلب وصفة طبية. كانت موجودة في الأرجاء ومتوافرة دائماً.

"لقد بدأت في تناول الأقراص (الأفيونية) وعلى غفلة أصبحت مدمنة. لقد عانيت منها طوال أعوام"، قالت سميث، مضيفة "خلال معظم سنوات حياتي كانت والدتي مدمنة. توفيت شقيقتي بسبب جرعة زائدة من الحبوب المخدرة عندما كانت في الـ24 من عمرها. واجهتني ضغوط كبيرة. أردت أن أهرب، وعرفت كيف السبيل إلى ذلك".

على مدى ثمانية أعوام، شحنت الشركات "الثلاث الكبيرة" 63.48 جرعة من الهيدروكودون والأوكسيكودون لكل شخص إلى مقاطعة كابيل، أي أكثر من ثلاثة أضعاف المتوسط الوطني في الولايات المتحدة. أخذت صيدلية واحدة في هنتنغتون 35 ألف جرعة من الأوكسيكودون في شهر- أي ما يساوي سبعة أضعاف المعدل الوطني.

تتذكر سميث كم كان الحصول على تلك الأقراص سهلاً. أطلق السكان المحليون على تلك الصيدليات الضخمة والأطباء اسم "مصانع الحبوب" pill mills (منشآت يقصدها مدمنو مسكنات الألم للحصول عليها بطريقة غير مشروعة من دون كفاية تاريخ طبي أو فحص جسدي أو تشخيص...)، وكانت موجودة في كل مكان.

"لم تكُن مضطراً إلى أن تثبت أنك تعاني أي خطب جسدي. لم تطلب منك مصانع الحبوب أي دليل. كانت تصف الدواء فقط. وعادة ما كانت الصيدلية موجودة في مبنى الطبيب نفسه. كان كل شيء متوافراً في مكان واحد"، حسبما كشفت سميث.

بحسب الشركات الثلاث الكبيرة، كان يتعيّن على الأطباء والصيدليات ووكالة مكافحة المخدرات وقف سوء استخدام أشباه الأفيونيات. وفق كلامها، كان منوطاً بالشركات الإبلاغ عن الطلبيات "المشبوهة" وليس عدم إرسالها.

نحو عام 2012، أدّى وضع لوائح تنظيمية جديدة بشأن المواد الأفيونية الخاضعة لوصفة طبية إلى خفض الكميات المتاحة منها في ولاية فيرجينيا الغربية. ولكن كان الآلاف من السكان أدمنوا أصلاً وتحوّلوا ببساطة بدلاً من ذلك إلى تعاطي المخدرات غير المشروعة من قبيل الهيروين. اليوم، يُعزى معظم الجرعات المميتة الزائدة إلى "فنتانيل" fentanyl، مخدر اصطناعي أقوى كثيراً.

العام الماضي، كابدت ولاية فيرجينيا الغربية عدداً قياسياً من الجرعات الزائدة المميتة من المواد الأفيونية. في النتيجة، توفي ألف و99 شخصاً في أقل تقدير، وفق وزارة الصحة في الولاية، تحديداً نحو 962 شخصاً كانوا يحملون الفنتانيل في دمائهم (بحسب تحاليل الدم).

حاول المدعون أن يربطوا مباشرة بين أزمة العقاقير التي تستلزم وصفة طبية من جهة وأزمة المواد الأفيونية غير المشروعة التي تواجهها هنتنغتون اليوم. ومبلغ الملياري دولار الذي يطالبون به ليس تعويضاً عن أضرار سابقة، بل من أجل التصدي للأزمة الراهنة.

في الأيام الأولى من المحاكمة، قدّم المسؤول السابق عن الصحة العامة في ولاية فيرجينيا الغربية الدكتور راهول غوبتا، لمحة عامة شاملة عن المراحل المختلفة لوباء المواد الأفيونية. وشرح بالتفصيل كيف أن قيوداً جديدة فُرضت على الوصفات الطبية أدّت إلى زيادة سريعة في تعاطي الهيروين، إذ حاول المدمنون تفادي الانقطاع عن تعاطي أشباه الأفيونيات.

أشار محامو الدفاع إلى أنهم لا يملكون أدنى سيطرة على المخدرات غير المشروعة التي تتسبب بالأزمة اليوم، لذا لا يُعتبرون مسؤولين عنها.

ولكن لدى سميث نظرة مختلفة إلى الأمور.

قالت إن "شركات الأدوية أغرقت المنطقة بأدوية الألم الأفيونية، ثم توقفت عن وصفها للناس وكتابة وصفات طبية بها، وذلك عندما وصل الهيروين"، راسمة مسار رحلتها مع الإدمان من هذا المنطلق.

"نفدت أدوية الألم الأفيونية ووصل الهيروين. انتقلت من الهيروين إلى الفنتانيل والميث meth  (الميثامفيتامين مخدر منشط ذو تأثير عقلي) والكراك كوكايين (أو أحجار الكوكايين)، وكل المواد المخدرة. أعني، تناولت كل أنواع المخدرات. لم يبقَ نوعاً مخدراً إلا وتعاطيته"، قالت سميث.

حيوات مدمرة إلى الأبد

ركّز جزء كبير من المحاكمة على أرقام ورسوم بيانية. أساليب استجواب مكثفة حول العدد المعقول من شحنات توصيل الأقراص وأسئلة متعلقة بالمسؤولية. ولكن في مرات عدة، تحوّل فيها الشرخ بين الشركات ومرضاها إلى أمر آخر.

واحدة من أكثر اللحظات الصادمة في المحاكمة جاءت أيضاً أثناء شهادة زيمرمان (نائب الرئيس الأول للشؤون التنظيمية في "أميريسورس بيرغن"). سلسلة من رسائل البريد الإلكتروني المتبادلة بين مسؤولين تنفيذيين في "أميريسورس بيرغن"، من بينهم زيمرمان، سخّرت ممن يُشار إليهم باسم "بيلبيليس" pillbillies (مدمنو العقاقير الموصوفة طبياً) سافروا إلى ولايات أميركية أخرى كي يحصلوا على وصفات لأدوية أفيونية، وذلك عندما اعتُمدت قواعد تنظيمية بشأن أدوية المسكنات الأفيونية في فيرجينيا الغربية وكنتاكي.

وردت الإشارة إلى "مدمني العقاقير الموصوفة طبياً" في كلمات أغنية ساخرة تحاكي أنغام أغنية "بيفرلي هيلبيليس" (مسلسل تلفزيوني أميركي كوميدي بثته شبكة "سي بي إس" من 1962 حتى 1971). تقول كلمات الأغنية الساخرة:

"تعال واستمع إلى قصة رجل يُدعى "جيد"

متسلق جبال، فقير، بالكاد كان يلبي عادته (إدمانه المسكنات).

ثم ذات يوم كان يشاهد التلفاز،

ورأى أن فلوريدا اتخذت اتجاهاً متساهلاً.

بشأن أدوية، هيلبيلي هيروين (مصطلح يستخدم للإشارة إلى الأفيون أوكسيكودون، وبشكل أكثر تحديداً، أوكسيكونتين)، "أو سي" (اختصار OxyContin أوكسيكونتين)

حسناً، أول شيء تعرفه أن "جيد" العجوز يقود جنوباً،

الأهل قالوا "جيد" لا تضع الكثير في فمك،

قالوا فلوريدا المشمسة هي المكان الذي يجب أن تكون فيه

لذا ملأوا الشاحنة وقادوا بسرعة

الجنوب، هذا هو.

عيادات علاج الألم، ادفع واستلم

سرب من البيلبيليس"!

قال زيمرمان إنه "كان حريّ به ألا يرسل الرسالة الإلكترونية"، رداً على سؤال بشأن الإيميل في قاعة المحكمة، لكنه أصرّ على أن (الرسالة) فُهمت بطريقة خاطئة وأن الثقافة المؤسسية في "أميريسورس بيرغن" في "أرفع مستوى"، كما أفادت "ماونتن ستيت سبوت لايت" Mountain State Spotlight  في فيرجينيا الغربية.

تبادل المسؤولون رسائل البريد الإلكتروني عام 2012، في وقت كانت أزمة المواد الأفيونية الموصوفة طبياً في فيرجينيا الغربية تقترب من ذروتها. بعد بضعة أعوام فقط، سجلت الولاية أعلى معدل للجرعة الزائدة في الولايات المتحدة الأميركية.

بالنسبة إلى المسؤولين التنفيذيين، كانت (الأزمة) دعابة مرحة. أما بالنسبة إلى نتاشا روبنسون، التي التقيتها في الأيام التي تلت إدلاء زيمرمان بشهادته، فكانت اضطراباً حقيقياً، فترة من اليأس.

قالت في هذا الصدد، "أتذكر عندما أغلقت مصانع الحبوب هنا وكنت بعد في الـ15 من عمري. بدأ جميع الأطباء  بإغلاق أبوابهم. بدأ السكان برفع دعاوى قضائية، وتوضيب كل شيء آخر، كما تعلم".

"حرفياً، أخذتنا أمي جميعاً على عجلة (كأننا أمتعة) وانتقلنا إلى فلوريدا وجلّ ما يهمها أن تكون في مكان حيث في مقدورها أن تحصل على الأقراص."

الآلاف من السكان الآخرين فعلوا الأمر عينه. كانت واحدة من طرائق كثيرة تخلى فيها الناس عن حيواتهم واقتُلعوا من جذورهم وتحطموا إلى الأبد عن طريق قرارات شهدتها جدران مجالس إدارات بعيدة.

حتى أولئك الذين مرّوا، على الرغم من كل الصعاب، بتعافٍ مضنٍ ولم يعودوا يتناولون تلك الأقراص الآن، لن يتخلصوا من الإدمان تماماً أبداً. وما زال كثر منهم يقاسون العيش في بيوت غير مستقرة وأسرٍ متصدعة.

ترغب شركات الأدوية الثلاث الكبرى بأن تتجاوز أزمة المواد الأفيونية. انتهت بالنسبة إليها قبل عقد من الزمن عندما لم تعُد منتجاتها تمثل المشكلة الأكبر. لكنها لم تنتهِ بالنسبة إلى سكان هنتنغتون، أو الأشخاص الذين لم تعُد حياتهم كما كانت منذ أن تناولوا أقراصها طوال تلك الأعوام الماضية.

اقرأ المزيد

المزيد من صحة