أصبحت شؤون التربية والتعليم من أهم مشاغل الدول، فالوصول لأفضل أنظمة التعليم هو المبتغى للمؤسسات الساعية إلى خلق جيل متسلح بالمعرفة والابتكار.
ودأب علماء التربية وعلم النفس على تأكيد أن التعليم لا يجدي نفعاً إن لم يكن مقروناً بتفكير ذاتي، والفوائد المترجاة من هذا التعليم لا تحصل إلا بحمل الطالب على المشاهدة والمقارنة والتجربة، وهو ما أطلق عليه علماء التربية "التعليم بالتكشيف" الذي يعـد من أنجع الطرق في التدريس.
فالتعليم عن طريق التجارب، والمشاهدات، المعتمد على المحاكاة الذهنية للطلاب هو أساس مبادئ التعليم الحديث، والتعليم عن طريق التجارب والمشاهدات لا يتم إلا من خلال النشاطات اللاصفية التي تدعم المادة العلمية التي يحصل عليها الطالب في الصفوف الدراسية.
وتوقفت حياة المدراس وكل ما يرافقها من فعاليات اجتماعية وعلمية بفعل جائحة كورونا، وابتعد الطلاب عن أهم ما يحمله التعليم من أسس، ألا وهو بشكله المعروف في صفوف تخلق التفاعل، وكذلك النشاطات اللاصفية التي تساند عملية التعليم وتخلق الشغف للتعلم عند الطلاب، وتعزز فيهم مبادئ العمل الجماعي التضامني.
إذ تفاوتت نسب نجاح سد الفجوة التعليمية في ظل الإغلاق عن طريق المنصات الرقمية، لكن فشلت تلك المنصات في استيعاب ضرورة الأنشطة اللاصفية والتفاعلية لأهمية تطبيقها عن قرب في أنشطة مجمعة.
كورونا زاد السوء سوءاً في الجزائر
خلطت جائحة كورونا حسابات العائلات الجزائرية، كباقي دول العالم، بعد أن انعكست الأزمة على التلاميذ الذين وجدوا أنفسهم أمام ضغط رهيب جراء الفراغ القاتل المترتب عن إجراءات الحجر والوقاية التي غيبت الأنشطة اللاصفية، ما أدخل أولياء الأمور في نفق مظلم دون مخرج.
إذ تقول أستاذة اللغة العربية بمدرسة "العربي قدور" في الجزائر العاصمة، كريمة بوغازي، إن الأنشطة اللاصفية تتلاشى سنة بعد سنة لعدة أسباب أهمها تغير المجتمع الجزائري نحو اتجاهات مادية أكثر من شيء آخر، حيث بات الأولياء لا هم لهم سوى تحسين مستوى معيشتهم فقط، ولو على حساب الأبناء، مشيرة إلى أن هناك أولياء أكثر حرصاً على أبنائهم من ناحية الدراسة، لكن تبقى الأنشطة اللامنهجية غائبة لدى كثيرين من العائلات في ظل عدم اهتمام الجهات الوصية والمدرسة.
وتتابع بوغازي، أنه في السابق كان للنشاطات اللاصفية، مكانة رفيعة تعوض الدروس المقدمة لما لها من دور في تنمية معانٍ مهمة لدى التلاميذ كالزعامة والقيادة والانتماء والتعاون والنظام والحب، وغيرها. وتساءلت، "أين هي جمعيات الطلاب والمسابقات الثقافية والفنية والرياضية، ومخيمات البيئة ونوادي العلوم وغيرها من النشاطات التي تضع التلاميذ على السكة الصحيحة بعيداً من مخاطر الشارع".
وشددت على أن النشاطات اللامنهجية تسمح بكشف الميول الفكرية والمهنية للتلاميذ في سن مبكرة، ما يمنح الفرصة للمشرفين عليها بصقل المواهب وإعطائها دفعة قوية لتفجير الطاقات.
وفي السياق ذاته، ترى مديرة متوسطة "العربي التبسي"، بحي بلكور، وسط العاصمة، سليمة بن فاضل، أن الأنشطة اللاصفية اختفت مع جائحة كورونا على الرغم من بعض المحاولات الفردية والمبادرات الشخصية، مرجعة ذلك إلى الأوضاع الاجتماعية التي يعانيها المواطن، والتي غيرت المفاهيم باتجاه البحث عن تلبية الرغبات المعيشية، وهو الوضع الذي دفع التلاميذ إلى اقتحام عالم الشغل واللجوء إلى اتخاذ الشارع صديقاً يعوضهم ضغط العائلة وفراغ المدرسة.
وقالت إن المؤسسات التربوية لها يد في اختفاء الأنشطة اللامنهجية، بسبب تمسكها بحشو عقول التلاميذ بالدروس والمعلومات من دون الاهتمام بمدى تقبلهم لما يقدم لهم، لدرجة أنهم باتوا يشعرون بالضغط السلبي الذي لا يراعي طفولتهم.
60 في المئة ضائعة في السعودية
وفي السعودية سعت وزارة التعليم لحل هذه المشكلة وبدأت بإطلاق مبادرات مثل المخيم الصيفي عن بعد لاحتواء طلبة "التربية الخاصة".
وكشفت الوزارة عن تنظيم عدة فعاليات "عن بعد" لطلبة التربية الخاصة وأسرهم، تهدف للمحافظة على المهارات والمعارف والعلوم التي تم اكتسابها خلال العام الدراسي، وتضم الفعاليات 18 محاضرة توعوية، و13 ورشة مرئية، فضلاً عن تحديد 8 ساعات خلال فترة المخيم للأنشطة الترفيهية بمعدل ساعة أسبوعياً، مع تخصيص 8 أيام لتقديم الاستشارات الأسرية عبر الهاتف والرسائل بواقع يوم واحد كل أسبوع.
إلا أن هذا لا يعد كافياً بالنسبة للمعلمين الذين يرون أن جهدهم بدأ يهدر، بسبب ظروف الجائحة وعدم وجود فرص للأنشطة خارج الفصول الدراسية لتقوية بعض المهارات للطلبة.
ويوضح لنا الأستاذ سلطان أبو حيمد، الذي خاض 25 عاماً في تعليم طلاب المرحلة الابتدائية أن من الأشياء التي افتقدها الطالب، الأنشطة المتعلقة بالدراسة أو الترفيه، أو ما يتم القيام به بعيداً عن السبورة والكتاب، مثل المختبرات والمعامل العلمية والأنشطة الرياضية، وذلك بسبب أن "الطالب لم يعد بإمكانهم التطبيق العملي أثناء التعليم عن بعد من المنزل".
وأشار إلى أن "الأنشطة اللاصفية أو التي تقام خارج المدرسة، مثل المراكز التعليمية ورحلات المدرسة، من ضمنها زيارة المتاحف والمعارض توقفت، ويجب تدارك الأمر لأن بعض المعلومات لا يمكن تلقينها من دون نشاط نظري".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتعد المراحل الابتدائية والمتوسطة الأكثر تضرراً، بينما الثانوية والجامعية أقل منها، وذلك بسبب أن "المدرسة تؤثر على تعليم الطالب في المرحلة التأسيسية أو الابتدائية بنسبة تصل إلى 80 في المئة"، أما في الوضع الحالي فـ"المدرسة لم تعد قادرة على التأثير بما هو أكثر من 20 في المئة، أي أن غياب النشاط المدرسي يفقد الطلاب 60 في المئة من التنشئة العلمية"، على حد قوله.
لبنان… كورونا وأشياء أخرى
فيروس كورونا لم يكن الأزمة الوحيدة التي أثرت على "ترف" الأنشطة اللاصفية في لبنان، وهو الذي يتعرض لأزمات متتالية عصفت به، وخلقت أجواء متوترة.
وتؤكد منسقة اللغة العربية وآدابها في مدرسة "البيادر" عرمون للمرحلة الثانوية رضى الحلبي أن "كل المناظرات التي كانت قائمة عن بعد لا تضاهي العمل الصفّي"، معتبرة أنه "في الصف إدارة المناظرة وتوزيع الأدوار بين التلامذة أفضل بكثير، خصوصاً أن المهارات الاجتماعية التي نحاول صقلها عند التلميذ لم نستطِع أن نوفرها عبر التعليم عن بعد".
وعن الإجراءات التي اتخذتها المدرسة لتعويض النقص، تشير الحلبي إلى أنه "خُصّص 10 في المئة من المعدل للمشاركة، وحاولنا كسر رتابة الحصص التعليمية عبر توفير أفلام كي نناقش محتواها ونطلب من كل تلميذ أن يعرض بحوثه. بالطبع، العرض الشفهي الحي في الصف يتضمن كثيراً من المعايير التي تؤخذ في الاعتبار. ولكن من أجل إنقاذ الموقف، اقتصر العرض وراء الشاشات، علماً أننا لم نستطِع أن نغطي كل المهارات، لا سيما الاجتماعية كالحضور والجرأة ونبرة الصوت والتلوين الصوتي".
وتضيف، "حتى المعلمة لا تشرح بصوتها فحسب، بل بملامحها كلها وبلغة جسدها، وأنا أفهم التلامذة من تفاعلهم الجسدي ومَن لديه نوع من الالتباس ومن يَشعر بالملل.. وكل هذه الأمور لم تكُن واضحة خلف الشاشات مع الأسف والحضور الحي له وزن معيّن لم نستطِع أن نعوّضه بالكامل".
وتقول "نحن بأمسّ الحاجة إلى الأنشطة اللاصفية، ويجب أن تكون الانطلاقة للعودة إلى المدارس لتوفير جو من التعاون ليكتسبوا بعض المهارات الاجتماعية التي خسروها، وهذه تساعد كثيراً، خصوصاً أن الفنون هي من أجل التعبير عن أحلامهم والتخفيف من حدّة توترهم، لا سيما أن الأجواء في لبنان هي أجواء توتر عند التلامذة والأهل والطاقم التربوي وكل المحيطين بهم".
بدورها، تشير الاختصاصية في علم النفس العيادي غيلان البستاني أبو عقل إلى أن "هناك الكثير من المدارس التي عملت على برامج التوعية الصحية، منها موضوع كورونا والعنف الأسري، خصوصاً أن مؤشرات العدائية في ظل كوفيد-19 ارتفعت كثيراً في المنازل. وتركّز عملنا على تقوية المشاعر من أجل توفير جو من التأقلم، تحديداً بعد انفجار مرفأ بيروت، إذ ارتفعت نسبة الخوف والقلق. وفي ظل هذه المتغيرات، كان همّنا أن نحافظ على الصحة النفسية للتلامذة كي يخرجوا بأقل ضرر ممكن من خلال الإرشاد النفسي لنحتويهم".
أما عن الحالات النفسية لدى التلامذة الصغار والكبار، فتلفت إلى أن "حالات من العدائية نشأت جراء حالات الملل والفراغ والقلق وبعض التصرّفات غير المسبوقة، خصوصاً عند المراهقين، بحيث زادت نسبة تعاطي المخدرات والتدخين وشرب الكحول. أما بالنسبة إلى الصغار، فزادت عندهم العدائية وذلك بسبب عدم قدرتهم على التعبير".
وتؤكد أبو عقل أن "الهدف منها هو فسح المجال للتعبير والتواصل عاطفياً ووجدانياً وجسدياً، من خلال الأنشطة الرياضية والتمثيل والرقص والغناء والرسم"، مشددة على "ضرورة الانطلاقة منها في المرحلة المدرسية المقبلة كي لا تصبح العزلة مطلباً عند التلامذة".
محاولات لاستمرارها في العراق
يقول أمين السر العام لنقابة المعلمين في العراق عدي العيساوي، إن النشاطات اللاصفية تهدف بشكل رئيس إلى تلبية حاجات المتعلم التي لا يتم إشباعها في الدرس، مع تعميق ما تم تلقيه من مادة علمية داخل الحصة الدراسية، وهي أيضاً تنمي مهارات الطالب وقدراته الذاتية، وأشار العيساوي لـ "اندبندنت عربية" إلى أن "ما ننشده عند المطالبة بالقيام بمثل هذه الأنشطة، هو خلق حالة من التفاعل بين البيت والمدرسة والمجتمع لتحقيق التنشئة التربوية والتعليمية للطالب وفق الأهداف المنشودة" .
إلا أن غياب هذه الأنشطة وقت الجائحة خلق فجوة كبيرة بين الطفل والمدرسة، بحسب حسين الشيباني، مدير إحدى المؤسسات التربوية، ما أدى إلى ابتعاد كثيرين من الأطفال عن ساحة التعليم، وهذا ما سيؤثر مستقبلاً على مستواهم العلمي وبناء شخصياتهم في المراحل المقبلة.
وشرح الشيباني تجربة مدرسته في محاولة سد الفجوة التي خلقتها ظروف الجائحة موضحاً، "حاولنا الاستمرار في النشاطات اللاصفية بشكل مختلف عبر الدراسة الإلكترونية، مثل إرسال اختبارات الذكاء للطلبة وحل الألغاز الفكرية التي تتطلب وقتاً طويلاً، وكذلك التشجيع على الرسم وتوجيه الطلاب على كل هواية ونشاط فكري جديد"، وقال، إن الغرض من هذه النشاطات محاولة استثمار وقت الطالب وهو في المنزل، وتعويض النشاطات اللاصفية التي غابت بفعل الجائحة.
ويرى أحد مدرسي التربية الموسيقية، علاء الخالدي، أن الأساس في النشاطات اللاصفية هو التفاعل داخل الصف، موضحاً أن بعض المدارس حاول إعداد دروس للتربية الفنية والموسيقية عن طريق البوابات الإلكترونية التي تعتمدها المدارس، لكنها أخفقت، ولم يتفاعل الطلاب مع هذه النشاطات عبر الإنترنت، فأساس هذه النشاطات هو التواجد داخل الصف.
مصر... حبر طمست ألوانه كورونا
إذاعة مدرسية، وأشغال يدوية، وحصة تربية بدنية، ورحلة إلى أهرامات الجيزة وأخرى إلى أحضان الطبيعة، ولقاء يديره الطلاب، يستضيف فناناً مشهوراً أو عالماً معروفاً أو صحافياً نابهاً، وجماعة تعنى بدعم البيئة المحيطة والمشاركة المجتمعية الطلابية المسؤولة، وقائمة طويلة من الأنشطة اللاصفية التي كانت تعاني الأمرين في زمن ما قبل الوباء، أحيل معظمها اليوم إلى خانة "الفعل الماضي" الممنوع من الحاضر، والموضوع على خاصية "علم الغيب" في أغلب المدارس المصرية. العام الدراسي الثاني في كنف الوباء في مصر يلملم أوراقه، أو بالأحرى يجمع أشلاءه موشكاً على الرحيل، مسلماً مقاليد الأمور المدرسية والتربوية لعام جديد يلوح في الأفق بحسب الروزنامة، لكن معالمه مطموسة وملامحه موتورة.
تقول مديرة القسم الإعدادي في مدرسة خاصة نرمين كامل، (41 سنة)، إن "العملية التعليمية تعرضت لهزة عنيفة بسبب الوباء منذ منتصف العام الدراسي (2019-2020)، وإن ظلال الوباء وقرار إغلاق المدارس ثم العودة لتكون الدراسة عن بعد سواء (أون لاين) أو عبر مجموعات التواصل عبر منصات التواصل الاجتماعي بحسب قدرات كل مدرسة ومجتمعها الطلابي، ثم بدء العام الدراسي 2020-2021 مع استمرار الوباء والعودة إلى قاعات الدرس وتخوف الملايين من الأهل وتراوح الانتظام في المدراس بين الكلي والجزئي، أي عدد معين من أيام الأسبوع، كل ذلك أدى إلى خلل كبير في منظومة التعليم والأنشطة التعليمية الصفية. لذلك، فإنه على الرغم من الأهمية الكبيرة للأنشطة اللاصفية في ظل الظروف الراهنة، يبدو أقرب ما يكون إلى الرفاهية التي لا قبل للعملية التعليمية بها".
في زمن ما قبل كورونا، عرف قطاع من المعلمين والقائمين على العملية التعليمية في مصر أن الأنشطة اللاصفية هي ذلك المكون المهم من العملية التعليمية، حيث أنشطة يقوم بها الطلاب وفق برنامج معني ووفق ميولهم وقدراتهم الشخصية داخل الفصل وخارجه تحت إشراف المعلمين. ويعرف أغلب المعلمين أن هذه الأنشطة لا تخدم العملية التعليمية فقط، بل تساعد في تحقيق النمو الكامل والصحي للطلاب، إضافة لكونها تساعد في التربية المتوازنة، وذلك بحسب القدرات الموجودة في كل بيئة تعليمية.
لكن المعرفة وحدها لا تكفي. وفي زمن ما قبل كورونا، كان الجانب الأكبر من الأنشطة اللاصفية في غالبية المدارس الحكومية حبراً على ورق. عدد طلاب المدارس الحكومية في مصر نحو 24 مليون طالب وطالبة، يدرس منهم نحو 22.5 مليوناً في المدارس الحكومية. غالبية هؤلاء تعتبر الأنشطة اللاصفية هي والعدم سواء، لا لعدم أهميتها أو جدواها، ولكن بسبب كم العوائق والمشكلات التي تعتريها.