Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل لا تزال الخدمات الحكومية في العالم العربي "ورقية"؟

وضعت كورونا التجربة الرقمية في المنطقة أمام اختبار حقيقي

لا زالت بعض الدول العربية متعثرة في التحول الرقمي للخدمات الحكومية (غيتي)

لم تعُد الأمّية المنتشرة بشكل كبير في العالم العربي معركة دول المنطقة الوحيدة، فهناك في المقابل أمّية أخرى يتوجب على المنطقة متابعتها كأزمة يجب التعامل معها بجدية أكبر، حتى لا تبقى خارج العصر الرقمي كما كانت خارج الثورة الصناعية.

لم تكُن هذه الأزمة محط نقاش رئيس قبل أن يقطّع الفيروس المجهري أوصال الناس ويجبرهم على البقاء في منازلهم، إذ دفعت جائحة كورونا الحكومات إلى اعتماد المعاملات الإلكترونية بشكل أساسي في كثير من المجالات الحيوية، بعد أشهر طويلة من الإغلاق وحظر التجوال والتباعد، وهو ما وضع القدرات الرقمية للدول محط اختبار حقيقي.

لكن في كل الأحوال، عبرت الخدمات الحكومية المأزق مع تفاوت جودة الخدمة، إلا أن هناك من اعتمد هذه التجربة كبداية جديدة، مقابل من عاد إلى الطوابير والمعاملات الورقية مع انتهاء أشهر الحظر.

تجربة العقبة الأردنية

يستذكر الأردنيون تجربة مدينة العقبة كنموذج رقمي ناجح فترة الأزمة، إذ نجحت المنطقة السياحية التي جمعت الخدمات في تطبيق إلكتروني على الهواتف الذكية من دون الحاجة إلى الورق، ويتيح التطبيق الإلكتروني لطالبي الخدمة الاستعلام عن الخدمات دون الحاجة إلى مراجعة الدوائر الحكومية.

ويبلغ عدد مستخدمي الإنترنت في المملكة حوالى 9.4 مليون مستخدم، في حين تبلغ نسبة انتشار استخدام الإنترنت في الأردن 90 في المئة من إجمالي عدد السكان.

أحد جوانب التحول الإلكتروني في الأردن هو الأرشفة الإلكترونية التي تقوم بها المكتبة الوطنية، وهي مؤسسة حكومية تهدف إلى الحِفاظ على النتاج الثقافي الوطني من خلال أرشفة الجرائد الرسمية، الكتب والوثائق والصور الحكومية والخاصة ومنشورات مراكز المعلومات.

وأطلقت حكومة الأردن تطبيقاً إلكترونياً باسم "سند" بهدف توفير بوابة دخول واحدة لمئات الخدمات الإلكترونية التي ظهرت خلال السنوات الـ10 الماضية، مع إضافة خاصية التوقيع الإلكتروني، لتسهيل المعاملات الإلكترونية الحساسة عن بعد.

وتتحدث الحكومة عن نظام لإدارة هوية المستخدم الرقمي وفق مستويات متعددة من التحقق، لكن لا تزال خدمات إلكترونية عدة بحاجة إلى التحقق من هوية المستفيد بشكل وجاهي، مما يفقد فكرة التحول الرقمي مضمونها، كترخيص المركبات، بينما يمكن للمستخدم الاستغناء عن طابور الانتظار في المعاملات البنكية ودفع الرسوم والفواتير.

وتسعى الحكومة الأردنية لتفعيل 2300 خدمة رقمية، إلا أن الكاتب عصام قضماني يتوقع أن يطول عهد استخدام الورق في المعاملات، ليس لأن التحول فشل بل لأن الاعتماد على الأتمتة في المعاملات لم يلغ الورق.

ويشير قضماني إلى بعض التناقضات في المعاملات الإلكترونية كإجراءات إيقاع الحجز التحفظي على شركة أو شخص، فهي تتم إلكترونياً وبسرعة فائقة ولا ينتظر الموظف كتاباً ورقياً للتنفيذ، بينما لا يتم رفع الحجز إلكترونياً من دون حضور الشخص المعني وتوقيعه بعض الأوراق والمعاملات.

ويضيف قضماني "لا تستطيع الحكومة أو المؤسسة الاستغناء عن الورق، لكنه لا يجب أن يكون أساسياً لتعزيز المعاملات بل داعماً وموثقاً للإجراء الإلكتروني الذي تعهدت الحكومة بأن يسير سريعاً للتسهيل على مجتمع الأعمال وعلى المواطن بالدرجة الأولى".

وقد خصصت الحكومة الأردنية ميزانية مالية تقدر بنحو 9 مليارات دولار لمشاريع التحول الإلكتروني في المؤسسات والدوائر الحكومية، بهدف توفير الوقت والجهد على المواطنين والمستثمرين، لكن الورق ما زال حاضراً بقوة في كثير من المعاملات والإجراءات.

معركة الأمية والدرج المفتوح في مصر

"الدرج المفتوح" أو منظومة الرشاوى في مقابل إنجاز المعاملات المالية، ظلت لسنوات طويلة عاملاً من عوامل استمرار عرقلة الحكومة الإلكترونية في مصر واستمرار استخدام المستندات الورقية، التي ستغلق حتماً باباً عاتياً من أبواب "الرزق" الإضافي من أموال الرشى. نجاح وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الأسبق أحمد نظيف في عصر الرئيس الأسبق الراحل محمد حسني مبارك في إدخال الإنترنت إلى عدد من قرى صعيد مصر كان أبرز عوامل اختياره لرئاسة الوزراء في عام 2004، وكان الأمل السياسي معقوداً على إلحاق مصر بعصر التكنولوجيا فائقة السرعة وميكنة الخدمات الحكومية من ألفها إلى يائها، لكن المنظومة من الألف إلى الياء توقفت عند حدود طلب إصدار شهادات الميلاد والوفاة وغيرها عبر موقع إلكتروني وإرسالها مع مندوب، لكن العقد الأخير أتى بما لا يشتهي الهيكل البيروقراطي المترهل. هذه الترهلات المعرقلة للتحول الرقمي لن تنتقل إلى عاصمة مصر الجديدة المسماة إعلامياً بـ "العاصمة الإدارية" خلال الأشهر القليلة المقبلة.

"مصر الرقمية" لا تزال في مرحلة البث التجريبي، وهذه المرة الآمال والمؤشرات والمبشرات تشير إلى تفعيل حقيقي للرقمنة. ورأى الكاتب الصحافي عضو مجلس الشيوخ المصري عبدالمنعم سعيد في مقالة عنوانه "الفكر الرقمي" أن "الرقمنة جزء مهم من التفكير القومي، وعلى الرغم من أنها لم تبدأ في منافسة العمران بعد إلا أنها أصبحت حاضرة، وزاد من حضورها الجائحة التي ضغطت على الجميع لتعويض الخسائر، والتي كان يمكن أن تكون أقل في حال الجاهزية الرقمية".

الجاهزية الرقمية التي يشتد عودها بشكل متسارع يوماً بعد يوم في مصر تدعمها الأرقام، إذ إن 60 مليون مصري ومصرية متصلون بشكل أو بآخر بشبكة الإنترنت، وفي أرجاء "المحروسة" 98 مليون هاتف محمول، 77 في المئة منها مزود بتقنية الاتصال بالإنترنت. وحيث إن الرقمنة ليست مجرد أرقام وشبكات بل وراءها وجوه وأشخاص، فإن إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تشير إلى أن المستقبل القريب جداً سيكون رقمياً بحكم الفئة العمرية، فنحو 21 في المئة من المصريين أو ما يزيد على 20.2 مليون مصري تتراوح أعمارهم بين 18 و29 عاماً، كما تبلغ نسبة المصريين الذين تقل أعمارهم عن 15 عاماً نحو 34.2 في المئة، ونحو 45 في المئة من هؤلاء يستخدمون أجهزة الكمبيوتر، ونحو 88 في المئة يستخدمون الهواتف المحمولة، ونحو 48 في المئة متصلون بالإنترنت.

لكن الأمر لن يكون بهذه السهولة، فحين تبلغ نسبة الأمية الأبجدية في مصر 25 في المئة، أي أن ربع المصريين فوق سن 10 سنوات لا يقرأون أو يكتبون، فهذا عائق حقيقي أمام مصر الرقمية، أما المقاومة فتأتي من فئات بعينها مثل كبار السن الذين يتخوفون من التحول الرقمي، لكن من تتعدى أعمارهم سن الـ 65 عاماً نسبتهم لا تتعدى أربعة في المئة من مجموع السكان، فئة أخرى من المقاومين رابضة في داخل الكيان البيروقراطي العميق للدولة، فمثلاً بطاقة الهوية رقمية لكنها تحتاج إلى ملف هرمي من الأوراق والشهادات، ناهيك عن عقيدة موظف الحكومة التي تعتنق مبدأ "اطلع لمدام عفاف في الطابق الرابع" و"انزل لأستاذ حسين في الطابق الأول" و"راجع مكتب الشؤون القانونية أولاً" و"الصورة غير واضحة نحتاج صورة أخرى" و"السيستم واقع".

لا داعي لـ"ملف أخضر علّاقي" في السعودية

6 سنوات منذ بداية تلاشي اشتراط الملف الأخضر العلاقي مقابل تنامي التعاملات الإلكترونية، التي دمجت عدداً واسعاً من الملفات في ملف رقمي واحد.

ولا يمكن حصر عملية التحول بشكل دقيق، لكن يمكن الإشارة إليها مبدئياً من تجربة "أبشر"، التطبيق الرقمي الذي حصر تعاملات وزارة الداخلية السعودية في منصة واحدة.

إذ يبلغ عدد مستخدمي المنصة التي ألغت استخدام الملفات الورقية تماماً 19 مليون عميل موثق، يستفيدون مما يزيد على 279 خدمة كانت لا تنجز إلا بملفات خضراء قبل إطلاق التطبيق.

فالمنصة تجمع خدمات القطاعات الأمنية، مثل المديرية العامة للجوازات، والأحوال المدنية، والإدارة العامة للسجون، وقطاعات الأمن العام (الإدارة العامة للمرور، وإدارة الأسلحة والمتفجرات)، وغيرها من القطاعات.

ولم يكن الوحيد، إذ تملك وزارة العدل عبر منصة "ناجز" تجربة ناجحة هي الأخرى، وهي التي احتفلت قبل عام بآخر معاملة ورقية والتحول الرقمي الكامل لجميع الخدمات.

هذا القطاع بمختلف جهاته نجح في اختبار كورونا بسبب تمرّسه الطويل في الخدمات الرقمية، إلا أن قطاعات مستحدثة تحت الضغط وضعت في اختبار أقسى، مثل النظام التعليمي.

كان هذا القطاع مستودعاً ضخماً للملفات، قضى نظام "نور" الرقمي التابع لوزارة التعليم على جميع التعاملات الورقية فيه، من مرحلة تسجيل الطلاب في المدارس ومتابعة الوضع الدراسي إلى حين التخرج.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جانب آخر اختبره الوباء، وهو التعليم عن بعد، إذ سبق وأن امتدح وزير التعليم السعودي تجربة التعليم عن بعد، وإمكانية توسيعها في المستقبل وهو ما يعد نجاحاً رقمياً، لكن المشكلة تتجاوز المنصات، ففي حديثنا مع عبدالله الفيفي، وهو أستاذ مرحلة متوسطة في محافظة فيفاء الجبلية في أقصى جنوب السعودية، أوضح أن الطاقم التعليمي خضع لتدريب عملي لأيام على المنصات الجديدة التي امتدح جودتها، إلا أن المشكلة الأساسية كانت في الإنترنت، "المدرسة التي أعمل فيها بها 185 طالباً، إلا أني لم ألتقِ حتى الآن عن طريق المنصة الرقمية إلا بـ20 في المئة منهم، لأسباب تتعلق بضعف شبكة الإنترنت في المنطقة، ولعدم توفر أجهزة كفوءة كون سكان المنطقة ينتمون لطبقات اقتصادية متدنية، يصعب عليهم توفير عدد كافٍ من الأجهزة للأسر التي لديها عدد طلاب يفوق الـ4 أطفال"، إذ تعد شبكات الإنترنت أحد المعوقات الرئيسة في المناطق الطرفية بخلاف المناطق المدن التي اقتحمت عالم الـ"5G".

مشكلة أخرى تواجهها السعودية، وهو أنها تعد هدفاً كبيراً للهجمات السيبرانية، ما يعرض هذه الخدمات للتعطل في حال فشل صد الهجوم، إذ يقدر حجم إنفاقها على الأمن السيبراني لحماية الحكومة الالكترونية وما وصلت له من التحول الرقمي قرابة ملياري دولار سنوياً.

ضرورة تغيير الموظفين في المغرب

ألزمت جائحة كورونا الحكومة المغربية بضرورة تسريع خطوات التحول الرقمي للإسهام في الحد من انتشار العدوى، حيث اعتبر رئيس حكومة المغرب سعد الدين العثماني أن كورونا "فرضت تسريع التحول الرقمي في عدة قطاعات اجتماعية حيوية كالصحة والتعليم، وعلينا أن نستخلص الدروس من الظروف الاستثنائية التي فرضتها الحالة الوبائية، لجعل هذا التحول رافعة لتسريع الاندماج الاجتماعي في بلادنا".

وأضاف العثماني أنه "بالرجوع إلى مذكرة التوجهات العامة للتنمية الرقمية في المغرب للفترة الممتدة بين عامي 2020  و2025، التي تضمنت أهدافاً ملموسة في مجال التحول الرقمي، فإنني أدعو إلى تسريع وتيرة إنجاز البرامج المتعلقة بالقطاعات الاجتماعية لتيسير وتجويد ولوج مختلف الفئات إلى الصحة والتعليم والدعم الاجتماعي في كافة ربوع المملكة، وهو ما سيسهم أيضاً في توفير الشروط الملائمة لتوسيع التغطية الاجتماعية".

وكانت الحكومة المغربية قد أطلقت عام 2009 برنامج "المغرب الرقمي 2013"، الذي يعتمد على أربع أولويات، مبدأ التحول الاجتماعي عبر اعتماد تدابير تضمن ربط أكبر عدد من المواطنين بخدمة الإنترنت ذي الصبيب العالي، وتعزيز تبادل المعلومات والمعرفة، وكذا تنفيذ الخدمات العامة الموجهة للمستخدمين، وكذلك تقريب الإدارة من احتياجات المتعاملين معها من حيث الكفاءة والجودة والشفافية عبر برنامج الحكومة الإلكترونية، الذي يهدف إلى منح المواطنين والمقاولات خدمات رقمية تضاهي تلك المعمول بها على الصعيد الدولي، إضافة إلى تشجيع الشركات الصغيرة والمتوسطة على استعمال المجال الرقمي بهدف الإسهام في الرفع من إنتاجيتها، ثم تنمية فرع محلي لتكنولوجيا المعلومات عبر دعم إنشاء ونمو فاعلين محليين وتشجيع انبثاق أقطاب تميز قادرة على التصدير.

وترى الباحثة المغربية في القانون والعلوم السياسية سمية بومروان، أن تطبيق الحكومة الرقمية التي تتيح لطالب الخدمة أن يتعامل مع الإنترنت بدلاً من الموظف الحكومي التقليدي، يستلزم إحداث تغييرات كثيرة وواسعة تشمل نوعية العاملين والأجهزة المستخدمة وطرق الأداء، فينبغي أن يكون التغيير متكاملاً والأداء متجانساً، وأن تتم إعادة تنظيم شاملة للخدمات والأدوار، وذلك لأن إدارة الخدمات التي تقدمها الحكومة الرقمية لها خصوصياتها ومقوماتها التي تختلف عن الإدارة التقليدية لمثل هذه الخدمات.

وتؤكد أن تطبيق الحكومة الرقمية في المغرب يحتاج إلى إعداد الكوادر البشرية المؤهلة والمدربة على التكيف مع التطورات الدولية في مجال النظم المعلوماتية، وكذلك إلى أجهزة إلكترونية ذات تقنية عالية ووسائل متطورة حتى تحقق الإدارة الرقمية أعلى المستويات من النجاح.

الورق في تونس من المهد إلى اللحد

بين شهادتي الميلاد والوفاة، تبدأ رحلة الأوراق التي لا تنتهي في تونس، والتي يحتاجها المواطن أو المقيم للحصول على الخدمات الإدارية التي هي، بحسب سيدة الأعمال أمال السماوي، سبب المشكلة الأساسية في تونس، هي الإدارة التي تصر على اعتماد النسخ الورقية ما يجعل الحصول على هذه الخدمات عذاباً لا ينتهي.

أمام بوابة إحدى بلديات تونس العاصمة يتجمع العشرات من أجل الحصول على شهادة ميلاد، أو نسخ مطابقة للأصل من أوراق رسمية، أو ما يعرف بالتعريف بالإمضاء، وبقيت تونس، كما تقول السيدة السماوي، من الدول القليلة في العالم الذي تطلبه، والذي يحتاج، أمام استحالة إجرائه إلا في البلديات، إلى قضاء ساعات طوال في انتظار إنجازه، واعتبرت السماوي أن الإدارة الرقمية يتحدث عنها الجميع ولا يراها أحد في تونس على أرض الواقع.

إلا أن كل هذه الرغبات تصطدم بواقع علاقتها بما تقدمه من خدمات للمواطنين، والتي هي بشكل عام غير متوفرة، والأوراق أو الخدمات التي يحتاجها المواطن تتطلب منه إضاعة كثير من الوقت للقيام بها، مثل دفع فواتير الهاتف أو الإنترنت أو استهلاك الكهرباء والماء، وأمام مقرات هذه الشركات، صفوف طويلة وانتظار ممل لدفع الفواتير، أما طلب خدمات من هذه الشركات عبر الإدارة الرقمية، فهذا من قبيل الخيال البعيد عن الواقع، بهذه الكلمات لخصت الطالبة أماني شعباني، وهي تنتظر لسداد فاتورة استهلاك منزلهم من الكهرباء، مضيفة أن الدفع بالبطاقات البنكية ما زال محتشماً في تونس، والفواتير تصل عبر موزعين وليس عبر الإنترنت.

الانتقادات والتشكي من البيروقراطية واستمرار زمن الأوراق في معظم المعاملات التي يحتاجها المواطن في حياته اليومية في تونس، اعتبرها الخبير في المعلوماتية أشرف البكري حقيقية، منبهاً من أن الانتقال إلى الإدارة الرقمية يواجه تحديات كبيرة منها التكلفة المرتفعة في البداية وتأهيل الموظفين للقيام بهذه الخدمات عن بعد، وأيضاً العمل على جعل المواطن يتعود على التعاطي مع الأمر، وتغيير في نمط علاقته مع الإدارة، وذكر البكري أن إحدى أهم العقبات التي يمكن أن تواجه هذه المشاريع تتلخص في وجود فئة كبيرة من المواطنين الكبار في السن العاجزين عن التعامل بسهولة مع الإدارة الرقمية، وبان ذلك جلياً في منظومة التسجيل عبر موقع أعدته وزارة الصحة للتسجيل في حملة اللقاحات ضد كورونا، إذ عجز كثيرون عن ذلك.

أضاف البكري أن الحكومة قامت بعدد من الإجراءات لتشغيل منظومة التعامل الرقمي على مستوى الوزارات، وحققت إنجازات كبيرة، لكن المواطن ما زال يشعر بغيابها لأن الوثائق التي تم تحويلها من الورقي إلى الرقمي لا تهم حياته اليومية بشكل مباشر.

واعتبر البكري التحدي الأكبر الذي يواجه الحكومة يتلخص في أي اتجاه يسير، الانتقال الرقمي لتحديث التعامل مع الإدارة وتسهيل عمل المؤسسات والشركات وتشجيع الاستثمارات، أم نحو إنجاز خدمات تسهم في تسهيل حياة المواطن وتجعله يقترب من مواطني الدول المتقدمة، ملاحظاً أن الظروف الاقتصادية والصحية التي فرضت على تونس جراء جائحة كورونا أسهمت في تعطيل كثير من المشاريع البرمجية.

ملايين الأطنان من الأوراق في الجزائر

تشير لغة الأرقام إلى أن الجزائر استوردت خلال سنة 1.2 مليون طن من الورق، ما يعادل 450 مليون يورو (حوالى 534.5 مليون  دولار)، وفق تصريحات صحافية أدلى بها رئيس التجمع الجزائري للمتعاملين الرقميين تاج الدين بشير، ونقلتها جريدة "الشروق" الجزائرية التي قالت، إنها مبالغ معتبرة تثقل كاهل الخزينة العمومية، فضلاً عن الأضرار البيئية التي يخلفها الورق، ما يستدعي الإسراع في رقمنة الإدارة، ووضع خريطة رقمية في الجزائر بهدف بلوغ "صفر ورق".

لا يزال كثيرون من المواطنين يشتكون من إلزامية الحضور الشخصي لاستلام أوراقهم في مختلف الإدارات في ظل وضع يتسم بتعقيدات الإجراءات، ما أفرز ممارسات سلبية عدة، كالبيروقراطية والرشوة والفساد الإداري، باعتراف مسؤولين حكوميين، وتسبب هذا الوضع أيضاً في رفع منسوب القلق مع ازدياد وعي الجزائريين بمشكلاتهم واحتياجاتهم اليومية ورغبتهم في الارتقاء بالخدمات، والوصول بها إلى مرفق عام عصري، يواكب مجريات الساعة، ويفك أزمات خانقة وضغوطات يومية تستنزف الجهد والوقت.

وقبل حوالى 10 سنوات، تعرضت مصلحة الأرشيف للضبطية القضائية للأمن الوطني، إلى حريق هائل، جاء على جزء كبير من الملفات القضائية المتعلقة بقضايا فساد، قدرتها الصحافة الجزائرية وقتها بأكثر من ثلاثة آلاف ملف قضائي، تعرضت كلها إلى التلف، في وقت أُنقذ قرابة 2500 ملف آخر، من المصير نفسه، بفضل التدخل الموفق لمصالح الحماية المدنية، التي تمكنت من إخماد الحريق في ظرف قياسي.

ومن بين الحوادث المسجلة أيضاً، ما شهدته مصلحة الأرشيف في محكمة "عبان رمضان" في الجزائر العاصمة، من نشوب حريق التهم جزءاً كبيراً من الأرشيف.

في خضم الانتقادات، تسارع بعض الدوائر الوزارية لتذليل الصعوبات أمام المواطن، في أعقاب استحداث وزارة الرقمنة والإحصاء، التي يتمثل دورها في تسريع وتيرة إدخال الرقمنة في الهيئات العمومية، من خلال بحث سبل ووسائل التنسيق والتعاون بين القطاعات الوزارية في البلاد.

وفي هذا السياق، أعلنت وزارة الداخلية الجزائرية إطلاق خدمة "الشباك عن بعد"، التي تتيح للمواطنين إيداع مختلف الملفات الإدارية ذات الصلة بصلاحيات الإدارة المركزية والولاية والدائرة والبلدية، عبر أرضية رقمية، ويتعلق الأمر، في مرحلة أولى، بـ "50 ملفاً، تمس مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين"، تحسباً للتخلي التدريجي عن المعاملات الورقية.

"داتا" اللبنانيين مهددة بالضياع

لا يزال لبنان بعيداً جداً من الدول التي قفزت من عالم البيروقراطية الإدارية إلى المعاملات الرقمية، وفي نتائج أحدث مسح عالمي لتنمية الحكومة الإلكترونية أجرته في 2020 إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية لدى الأمم المتحدة، حل لبنان في المرتبة 127 من أصل 193 دولة عالمياً بمؤشر 0.4955 لتنمية الحكومة الإلكترونية، وحل في المرتبة 148 عالمياً بمؤشر 0.333 بالنسبة إلى المشاركة الإلكترونية، أي أدنى من المعدل العالمي ومعدل منطقة غرب آسيا التي ينتمي إليها في كلتا الحالتين.

علماً أن مصطلح الحكومة الإلكترونية برز للمرة الأولى عام 2005 في بيان وزاري، حيث وعدت الحكومة آنذاك بإجراء إصلاحات إدارية وتطبيق أحدث التقنيات لتحسين أداء القطاع العام والخدمات المقدمة للمواطنين، إلا أن أبرز التحديات التي طوقت أي انتقال بهذا الاتجاه، ثقافة كبت المعلومات التي تسود الإدارة العامة على مختلف المستويات، على الرغم من إقرار قانون الحق في الوصول إلى المعلومات عام 2017، بهدف تعزيز الشفافية والمحاسبة، إذ يشير تقريران أطلقتهما "مبادرة غربال" إلى أن عدد المؤسسات العامة التي استجابت إلى مساءلات القانون لم يتجاوز 38 من أصل 133 في عام 2018، وارتفع العدد إلى 68 في عام 2019، غير أن عدد المؤسسات التي كشفت عن بيانات ميزانيتها لم يتجاوز 34.

وقد تجنب كثير من المؤسسات الرسمية الاستجابة إلى مساءلات القانون، إن من خلال تبريرها أنها لا تعرف بوجود القانون، أو من خلال تقديم أعذار واهية لعدم الامتثال، وهكذا، فإن انعدام الشفافية السائد في القطاع العام في لبنان، إضافة إلى عدم الامتثال للقانون، يجعلان أي مبادرة حكومية تجاه تطبيق سياسة البيانات المفتوح"Open Data" شبه مستحيلة.

 وعلى الرغم من وضع لبنان المتأخر على صعيد الانتقال من المعاملات الورقية إلى الرقمية، أُطلقت أخيراً مبادرتان حكوميتان مرتبطتان بالحكومة الرقمية، هما منصة "IMPACT" و "منصة التنسيق الخاصة بالجهات المانحة" Donor Coordination Platform" ما يشكل مؤشراً جيداً نحو الحوكَمة الرقمية في لبنان وإمكانية التعاون بين مختلف الوزارات وعلى مستويات عدة.

إن الخطوة الأولى في هذه العملية، وهي حتماً غير سهلة، تشمل شرط استجابة المؤسسات الرسمية لقانون الحق في الوصول إلى المعلومات، وتوفر موقعاً إلكترونياً نشطاً ومنصات فعالة للتواصل الاجتماعي، يلي ذلك إقامة شبكة تعاون صلبة بين الدولة والمجتمع المدني لإنشاء منصة موحدة للبيانات المفتوحة، تتم إدارتها وتحديثها بشكل جيد.

أما بالنسبة إلى الاستشاري في التنمية البشرية محمد عويد، فإن فرص نجاح التحول الرقمي في لبنان متاحة لناحية قدرة المواطنين على التأقلم معها وفقاً لدراسات عديدة، موضحاً أنه حتى الإمكانات المادية متاحة، إذ إن هناك برامج عديدة يتيحها البنك الدولي للمساعدة في برامج الحكومات الرقمية، في حين أن الإدارة الحالية نتيجة بيروقراطيتها تكلف أضعاف التحول إلى المسار الرقمي، واعتبر عويد أن النظام السياسي في تركيبته يشجع على الفساد، وأن المعاملات الورقية تشكل البيئة المناسبة لإنجاح صفقات الفساد، على عكس المعاملات الرقمية التي تؤدي حكماً إلى نموذج شفاف، وإلغاء حلقات غير مجدية في النظام البيروقراطي، لا سيما المركزي منه.

المزيد من تحقيقات ومطولات