Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

النصب التذكاري لمعركة نورماندي يعكس آراءنا المتغيرة بشأن قتلى الحرب

مع تلاشي ذكرى إنزال النورماندي أو ساعة الصفر من ذاكرتنا الحية، تغيرت مواقفنا إزاء قتلى الحرب. بالأمس، كنا ندفن جنودنا حيثما قُتلوا؛ أما اليوم، فنحرص على إعادة جثامينهم إلى أرض الوطن، تفيد ماري ديجيفسكي

ديفيد ميلكريست (97 سنة) المحارب المخضرم الوحيد في حملة نورماندي الذي حضر افتتاح النصب التذكاري لهذا الحدث (غيتي)

في السادس من يونيو (حزيران)، انضمت مجموعةٌ صغيرةٌ من البريطانيين إلى مجموعةٍ أكبر بقليل من الشخصيات الفرنسية المرموقة لتدشين النصب التذكاري الوطني البريطاني الوحيد لتخليد ذكرى إنزال النورماندي، أحد أكثر العمليات العسكرية طموحاً وأهمية في الحرب العالمية الثانية. وكما أصبح معروفاً، فإن إنزال النورماندي قد حدث قبل 77 عاماً من اليوم وكان إيذاناً ببدء الحملة التي طال انتظارها لوضع حد للاحتلال الألماني شمالي فرنسا.

ولا خلاف أو اعتراض على أهمية إنزال النورماندي أو ما يُعرف رمزياً بعملية "أوفرلورد". فهبوط الحلفاء على سواحل منطقة النورماندي كان ولا يزال أكبر غزوٍ برمائي في تاريخ العصر الحديث، حيث تكللت الحملة التي أعقبته، بتحرير باريس على يد الفرنسيين والقوات الأميركية في 25 أغسطس (آب) 1944، وتحرير روان على يد الكنديين بعدها بخمسة أيام – والتقدم نحو برلين وتحقيق النصر. لكن للأسف، لم يكن حفل افتتاح النصب التذكاري الجديد على قدر عظمة الحدث التاريخي والتصورات المتوخاة له.

وما كان من المفترض أن يكون لم شمل عاطفي لقدامى المحاربين الذين لا يزالون على قيد الحياة في حضرة زعماء وطنيين من كلا البلدين، واحتفال رسمي بنصب تذكاري طال انتظاره، تحجم جراء تفشي فيروس "كوفيد-19"، الذي لم يكتفِ بتأخير بناء النصب وحسب، بل فرض إجراءات وقائية صارمة لا تزال قائمة إلى اليوم عند جانبي القناة الإنجليزية، وهذه الإجراءات هي التي حالت دون سفر كثيرين إلى فرنسا في هذه المناسبة.

ومن بين الأشخاص الذين تمكنوا من السفر عبر القناة، ديفيد مايلكريست، النقيب البريطاني الذي شارك في حملة النورماندي ويبلغ من العمر الآن 97 سنة. وقد كان مايلكريست المحارب القديم الوحيد بين الحضور. يُضاف إليه اللورد ريكيتس، سفير سابق للمملكة المتحدة في باريس، والمشرف على المشروع بصفته رئيساً لـ"صندوق النورماندي التذكاري". والظاهر أن قيود السفر المفروضة من الجانب البريطاني في ظل الجائحة المستجدة لم ترق لريكيتس. ولدى عودته، عبر عن امتعاضه منها في تغريدة جاء فيها "توجهنا إلى فرنسا للمشاركة في تدشين النصب التذكاري لمعركة النورماندي. وفي الرحلة، خضعنا لأربعة اختبارات للمسحة الطبية (PCR) في المملكة المتحدة (اختبار أول عند السفر + اختبار ثانٍ عند العودة + اختبار ثالث بعد ثمانية أيام + اختبار رابع اختياري للحصول على إذن بالخروج). وقد بلغت كلفة هذه الاختبارات لشخصين 750 جنيهاً استرلينياً، مقابل لا شيء للاختبارين اللذين أجريناهما في فرنسا (إذ أخذت فرنسا على عاتقها تقديم اختبارات مجانية لمواطنيها وزائريها هذا الصيف)".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبفضل معجزات التكنولوجيا الحديثة، لم تضِع المناسبة هباء. ونُقلت فعالياتها في بث مباشر من النورماندي إلى "المشتل الوطني التذكاري" في ستافوردشر، حيث تجمع أكثر من 100 محارب ومحاربة، وتمكن الأمير تشارلز، بصفته رئيس الصندوق، من إلقاء خطابه عن بعد. وقد لا تُضاهي هذه الترتيبات الحضور الشخصي لإحياء مناسبة ستبقى أبداً فريدة، لكنها وفت بالغرض ولم تكن اعتيادية بقدر ما كان إصدار تكليفات بإنشاء معلمٍ تذكاري وطني رفيع على أرضٍ أجنبية وبعد مرور فترة طويلة على انتهاء الحرب التي باتت ذكراها حكراً على من شارك فيها، غير اعتيادي.

ويُمكن إرجاع الأصول المباشرة لمشروع بناء النصب التذكاري لمعركة النورماندي إلى عام 2015، وتحديداً اجتماع جورج باتس، الأمين الوطني السابق لـ"جمعية محاربي نورماندي القدامى" (NVA) -التي حُلت أخيراً جراء انخفاض عدد أعضائها- مع صحافي قناة الـ"بي بي سي"، نيكولاس ويتشيل، وحديثه عن الأمل في أن يكون هناك نصب تذكاري للمعركة. وبحسب اللورد ريكيتس، لطالما كانت هذه الفكرة حاضرة في أذهان المحاربين القدامى، لكنها لم تُوضع يوماً قيد التنفيذ. وكان ويتشيل الشخص الذي اتخذ خطوةً حيوية باتجاه إرساء "صندوق النورماندي التذكاري" وطلب الدعم الحكومي.

لكن خطوته هذه لم تكن الأولى من نوعها. فقبل أشهر قليلة فقط، اجتمع رؤساء الدول والحكومات ممثلي الحلفاء وقت الحرب، في منطقة النورماندي لإحياء الذكرى السبعين لعملية الإنزال ويوم النصر. وكان من المقرر أن يكون هذا التجمع آخر احتفالٍ كبير مماثل برئاسة الملكة والرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند. آنذاك، أدى المحاربون القدامى آخر عرضٍ عسكري لهم على "الشاطئ الذهبي" -أحد شواطئ الإنزال البريطاني- وقدم رئيس الحكومة ديفيد كاميرون جائزةً لباتس تكريماً له وتقديراً لجهوده في خدمة "جمعية محاربي نورماندي القدامى".

وعلى خلفية هذا التجمع أو بتأثير من دعم ويتشيل التالي للقائه باتس، أبدى كاميرون اهتماماً كبيراً بفكرة إنشاء النصب التذكاري المنشود، وكذلك فعلت خليفته تيريزا ماي. وفي 2017، أُعلن عن نية الحكومة البريطانية تخصيص 20 مليون جنيه استرليني لبناء المعلم إياه. وفي بادرة لطيفة، ذُكر على سبيل التوضيح أن هذا المبلغ هو جزء من الأموال التي جُمعت من الغرامات المفروضة على المصارف الكبرى في أعقاب فضيحة التلاعب بأسعار الليبور، وأن مبلغ الملايين العشرة المتبقي سيُجمع من التبرعات الخاصة. وحُددت الذكرى الخامسة والسبعون ليوم النصر، في السادس من يونيو (حزيران) 2019، موعداً لإزاحة الستار عن النصب التذكاري المكتمل.

ومن ذلك الحين، شهد المشروع الكبير تطورات سريعة غير عادية. وفي وقتٍ قصير، أُوكلت إلى المهندس ليام أوكونور، مصمم المعلم التذكاري للقوات المسلحة البريطانية في ستافوردشاير، والنحات ديفيد وليامز-إيليس مهام التنفيذ، وحُددت الأرض المناسبة للبناء ودُفع ثمنها. وبحسب رواية ريكتيس، كانت الأرض المختارة أرضاً زراعية، لكنها لم تكن صالحة للاستخدام ومع ذلك كان من الصعب على المالكين التخلي عنها.

وقد واجه مشروع النصب معارضة من قبل السكان المحليين، لا خوفاً من تذكيرٍ جديد ومفاجئ بماضٍ أرادوا نسيانه والمضي قدماً -أو حتى أرضٍ مفقودة- بل خوف من عدد السياح والتجار الذين يمكن أن يؤموا المنطقة ويغيروا ملامحها. وفي مقابل هذه المعارضة، برزت أصوات مؤيدة رأت في فورة الزائرين والأعمال التجارية فرصةً ذهبية لتحسين حياة المجتمعات المحلية التي يُمكن أن تفقد مكانتها من دون موقعٍ يخصها على خريطة شواطئ النورماندي.

يُذكر أن الموقع المتاخم لقرية فير سور مير، يطل على "الشاطئ الذهبي" -وفي يوم صافٍ- يمكن للرواد رؤية آرومانش، حيث أنشأ البريطانيون ميناءً صناعياً بارزاً لتيسير عملية إنزال العتاد والإمدادات. وكان تشييد المعلم التذكاري، قبل 70 عاماً، ثمرة جهدٍ تعاوني جبار.

وقد علمنا أن شركة البناء الرئيسة فرنسية، وكذلك الأحجار المستخدمة في إنشاء الأركان الـ160 التي يتألف منها الجزء الأساس من النصب التذكاري – لكنها شُحنت إلى إيرلندا الشمالية حتى يُنقش عليها وتُرد بعدها إلى فرنسا. ويتميز الصرح ككل بـ"هيكلية هندسية تُشبه المعابد" وجدار ضخم نُقشت عليه أسماء الذين لقوا حتفهم يوم النصر، ومنحوتة نحاسية لوليامز-إيليس تجسد ثلاثة جنود مشاة يُصوبون بنادقهم نحو البحر.

ولم تكن أعمال بناء النصب التذكاري ما استغرق وقتاً طويلاً، بل جمع أسماء الضحايا المنوي تخليد ذكراهم. وفي النهاية وبعد جهدٍ جهيد، تمكن الباحثون المحترفون من جمع 22 ألفاً و442 اسماً والتحقق منها، مستعينين بمقابر الحرب والسجلات العسكرية ومتوجهين بنداءات للأسر عبر الجمعيات الخاصة بالمحاربين القدامى. وبالإضافة إلى أسماء الذين خدموا في القوات البريطانية المسلحة والبحرية التجارية، هناك لائحة كاملة بأسماء مَن قدموا من أكثر من 20 دولة وحاربوا معهم جنباً إلى جنب، ناهيك بأسماء البحارة والطيارين الذين فُقدوا في البحر وكل من توفي متأثراً بجروحه بعد إعادته إلى بريطانيا، من دون أن ننسى طبعاً المدنيين الفرنسيين الذين قضوا في المعارك مع تقدم الحلفاء.

وبناءً على ما تقدم، لم يوفَّ تماماً بالجدول الزمني الطموح لاستكمال المشروع واقتصر الحفل الذي كان مقرراً في 2019 على وضع الحجر الأساس بحضور تيريزا ماي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. وعلى الرغم من بعض التأخير الذي تسببت به الجائحة، فقد انتهى العمل على النصب التذكاري في خريف 2020، قبل وقتٍ كافٍ من موعد تدشينه الرسمي هذا العام. فمع تقلص عدد الباقين على قيد الحياة من قدامى المحاربين الذين شاركوا في إنزال النورماندي، كان لا بد من الإسراع في الإنجاز.

ولكن قد تسألون: لماذا استغرق تخليد ذكرى ما يعتبره البريطانيون فصلاً حاسماً وبداية حقبة جديدة في تاريخهم كل هذا الوقت؟ أو ربما، لماذا اعتُبر النصب التذكاري ضرورياً بوجود مقابر متفرقة للكومنولث على مستوى المنطقة، أكبرها وأشهرها "مقبرة بايو" الكائنة على بعد عشرات الأميال فقط؟

المثير للاهتمام أن الإجابات على هذين السؤالين مرتبطة بعضها ببعض. برأي العديد من المحاربين القدامى، وبرأي كثيرين على مر السنين، مقابر الحرب غير مكتملة أو ناقصة في بعض النواحي. ولا أحد يُنكر أنها مبهرة لناحية سجلاتها الدقيقة ومواقعها العريقة والجميلة وتصاميمها المتسقة الأناقة وصيانتها الممتازة، لكنها تفتقد لرفات أولئك الذين لم يُعثر عليهم أبداً، ولا نعني بهم البحارة والطيارين الذين قتلوا أو توفوا في عرض البحر، إنما أولئك الذين فُقدوا ولم يُدفنوا. وماذا عن المدنيين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين في أرض المعارك؟ أولا يُفترض تخليد ذكراهم بطريقةٍ ما؟

وماذا عن الولايات المتحدة وكندا اللتين حاول المحاربون القدامى لفت النظر إليهما؟ أولم تكونا الدولتين الأخريين اللتين أرسلتا قواتهما للمشاركة في هجوم الحلفاء على النورماندي؟ أوَلا تمتلكان نصباً تذكاريا خاصاً بالواقعة؟ ولمَ لا يكون فيهما نصب تذكاري للذين خدموا وماتوا تحت إمرة القوات البريطانية؟ يبدو أن هذه كانت واحدة من الحجج التي استعان بها باتس في لقائه مع ويتشيل، والأهم من ذلك أنها كانت الحجة التي استقطبت تأييد كاميرون ودعمه.

هذا بالنسبة إلى الإجابة عن السؤال الأول. أما الإجابة الأخرى، فتتعلق أكثر من أي شيء آخر بتحولٍ ملحوظ في الرأي العام.

في الأمس، كان البريطانيون -وليس فقط البريطانيين- معتادين على دفن قتلى المعارك في المكان الذي سقطوا فيه. وكانت الدواعي آنذاك عملية إلى حد ما: حجم الخسائر البشرية والصعوبات اللوجيستية لنقل الجثث إلى أرض الوطن، سواء أثناء الصراع أو بعده مباشرةً، والنطاق الجغرافي الواسع للحروب، كما في حرب القرم وحرب البوير أو حملة غاليبولي.

وكانت هذه العادة تنم عن إحساس مشترك بأن هذا هو الشيء المناسب للقيام به. و"زاوية حقل أجنبي/ هو إنجلترا إلى الأبد..." الموثق في قصيدة روبرت بروك عن الحرب العالمية الأولى هو أروع تجسيد لهذا الشعور وقد ظل قائماً حتى حرب الفولكلاند عام 1982.

وفي حين كان ضحايا الحروب يُدفنون في الأماكن التي سقطوا فيها ليُنقلوا بعدها إلى مقابر الحرب المبنية خصيصاً لهذه الغاية، كانت النصب التذكارية تُقام على شرفهم في أرض الوطن. ولهذا ترون نصب الحرب العالمية الأولى وحرب القرم في كل بلدة ومدينة بريطانية تقريباً. وفي ما يخص "نصب سينوتاف" في وايتهول، حيث تُنظم الاحتفالات الرسمية بـ"يوم الهدنة" في "أحد الذكرى" من كل سنة، فيُخلد ذكرى "الموتى الأمجاد". وفي العام نفسه، 1920، الذي بُني فيه هذا المقام، تقرر وضع جثمان جندي بريطاني مجهول في ضريحٍ خاص في ويتسمنستر ودفن جثمان جندي فرنسي مجهول الهوية تحت هيكل قوس النصر، تكريماً للجنود الآخرين.

وقد ظلت هذه العادة على حالها لغاية وقوع حرب الفولكلاند التي أسفرت عن مقتل 255 عنصراً من عناصر الخدمة العسكرية البريطانية. في البداية، دُفن الضحايا البريطانيون في "مقبرة بلو بيتش" العسكرية في سان كارولس، بالقرب من موقع هبوط القوات البريطانية الأولى في حملتها لاستعادة الجزر من الأرجنتين. لكن بعد فترةٍ وجيزة من الحرب، تقدمت إحدى عائلات الضحايا بطلبٍ لاستعادة جثمان ابنها. وما لبثت أن حذت عائلات أخرى حذوها، وسريعاً تحولت الطلبات إلى حملة جماهيرية واسعة النطاق.

ونتيجة ذلك، وافقت الحكومة على إعادة رفات جميع من طالبت بهم أسرهم، لينخفض عدد الجثث البريطانية في الجزر إلى 13 جثة في سان كارولس، بينها جثة العقيد اتش جونز الذي منُح وسام "صليب فيكتوريا" لقيادته الهجوم على "غوس غرين"، وجثتين أخريين في قبرين منعزلين.

وقد يُعزى هذا التغير في الممارسة إلى تطور مرافق النقل وانخفاض حصيلة وفيات الحروب الحديثة -أقله في صفوف المحاربين من الدول الصناعية- مقارنةً بحصيلة الحربين العالميتين أو الحرب الكورية. فحرب الخليج الأولى (1990-1991) مثلاً، كلفت حياة 47 بريطانياً، وحرب العراق (2003-2009) 222 بريطانياً، والنزاع الطويل في أفغانستان (2001-2015) 455 بريطانياً، من دون أن ننسى طبعاً المصابين بإصابات بالغة وأضرار مستمرة في الصحة النفسية، ولائحتهم طويلة.

كما قد يُعزى إلى الممارسة التي تتبعها الولايات المتحدة منذ ما بعد الحرب الكورية – تخليها عن دفن قتلى الحرب في مقابر عسكرية قريبة من الموقع الذي قضوا فيه لصالح إعادة الجثامين إلى أرض الوطن وتقليدها أوسمة شرف. ويُقدر أن أكثر من 47 ألف أميركي لقوا حتفهم في حرب فيتنام (1964-1975) وقد حرصت الإدارة الأميركية على إعادة جثامين معظمهم إلى أرض الوطن.

وهذا يُوحي بأن المقابر الفردية والنصب التذكارية في الوطن ستكون، منذ هذه اللحظة، الطريقة المُعتمدة لتكريم من لقوا حتفهم في الحروب والنزاعات الأجنبية – بدلاً من مقابر الحرب الخاصة خارج الوطن. وعلى هذا الأساس، افتُتح "المشتل التذكاري الوطني" بالقرب من ليتشفيلد في 2001 – فـ"مركز الذكرى" في 2017، في العام نفسه الذي شُيد فيه المبنى الجديد لإحياء ذكرى الجنود والمدنيين الذين قضوا في العراق وأفغانستان، بالقرب من وزارة الدفاع في لندن.

ويُمكن النظر إلى النصب التذكاري البريطاني لمعركة النورماندي على أنه مزيج بين الممارستين ووسيلة للتقريب بين المملكة المتحدة وبعض البلدان القارية، إذ التمييز بين النصب التذكارية الوطنية ومقابر الحرب أقل وضوحاً مما هو عليه هنا. ومن الأمثلة الكلاسيكية على ذلك "مدفن دوومونت" في فردان، وهو المكان الذي وضع فيه الرئيس ميتران يده بيد المستشار كول في مبادرة أصبحت رمزاً للمصالحة الفرنسية الألمانية عام 1984، ولمناسبة الذكرى الـ70 لاندلاع الحرب العالمية الأولى.

وقد تكون إعادة رفات قتلى الحرب إلى الوطن مصدر تعزية بالنسبة إلى الأسر المكلومة، لكنها تمثل مشكلة بالنسبة إلى الحكومات. إذ لما تكون المشاركة الأجنبية من دون شعبية سياسية أو لما تفقد شعبيتها السياسية، يتحول مشهد النعوش المنوي إعادتها إلى أوطانها منبعاً لتأجيج مشاعر العداء؛ وأي محاولات جدية لتعتيم هذا المشهد تُهدد بالمزيد من الاضطهاد العام إذا ما اكتُشف أمرها أو عندما يُكتشف أمرها.

وهذا صحيح حتى في البلدان التي لا تتحلى بالشفافية الرسمية، على غرار الاتحاد السوفياتي السابق وروسيا. كيف لا وقد أدت إعادة ضحايا التدخل السوفياتي في أفغانستان على مدى عشر سنوات -التي وصفها ميخائيل غورباتشوف بـ"الجرح النازف" عندما أعلن نهايتها في 1989- إلى إثارة الاحتجاجات في صفوف أمهات الجنود اللواتي ضافرنَ الجهود وشكلنَ جماعة ضغط شديدة الفعالية ضد الحرب نفسها وضد طريقة التعامل مع الجنود السوفيات الذين أُعيدوا إلى الوطن في نعوشٍ غير محددة. وبفضل هذه الاحتجاجات، ظهرت الحركة المناهضة للحرب التي لا تزال موجودة إلى اليوم، وهي واحدة من الأسباب الرئيسة وراء تحفظ روسيا إزاء انخراطها العسكري في جنوب شرق أوكرانيا وتدخلها الحذر في سوريا واقتصاره على التغطية الجوية.

وفي المملكة المتحدة كذلك، توضح بعض من التبعات المحتملة لإعادة قتلى المعارك إلى الوطن أثناء حرب العراق، حينما أُعيد الضحايا إلى قاعدة لينهام التابعة للسلاح الجوي الملكي وأتاح مرورهم في بلدة ويلتشاير الصغيرة في ووتون باسيت وهم في طريقهم إلى "مستشفى جون راتكليف" في أكسفورد، فرصةً للحداد العام وللاحتجاج ضد الحرب وضد الشعور بأن الموتى لم يُكرموا بالطريقة التي تليق بهم.

يوماً بعد يوم، ومع كل خبر جديد عن رحلات إعادة الجثامين إلى الوطن، كان سكان ووتون باسيت يحتشدون في الشوارع الرئيسة، بالمئات وأحياناً بالآلاف، رافعين الأكاليل والأعلام تكريماً للموتى. واستمروا على هذه الحال واستمرت عروضهم الضخمة والعاطفية حتى انقسم الرأي العام بشأنها وأدانها البعض باعتبارها مقززة ومبالغاً فيها. وفي خريف 2011، توقفت الرحلات وعادت إلى قاعدة بريز نورتون التابعة للسلاح الجوي الملكي وحازت بلدة ووتون باسيت تقديراً ملكياً من الملكة على وطنية أهاليها.

ولا شك أن النصب التذكاري البريطاني لمعركة النورماندي هو تسوية ناجحة بين إحياء ذكرى ضحايا الحرب في ساحة القتال أو بالقرب منها من جهة، وتلبية مطالب الأسر بإعادة أبنائهم وبناتهم إلى ديارهم من جهة أخرى، لكنها تواجه حالياً تحديين محتملين. يكمن التحدي الأول في أن يُحافظ الصرح على أهميته بعد مرور فترة طويلة على انتهاء الأحداث التي يخلدها.

وهل سيستمر الجيل القادم من تلاميذ المدارس في زيارة النصب التذكارية والمقابر العائدة لأبطال الحرب العالمية الثانية عبر القناة؟ وماذا عن الجيل الذي سيليه؟ هل سيظل يتوق إلى هذه الزيارات مع تلاشي ذكرى الحرب من الذاكرة الحية، مخلفةً وراءها وهج النصر الذي لم يكن ليتحقق لولا سقوط أكثر من 20 ألف شخص في المعارك من أجل شمالي فرنسا؟

الحقيقة أن ما يمتلكه نصب النورماندي اليوم هو شرط أساس لنجاح مثل هذا النوع من المواقع: تطبيق مصمم خصيصاً لتقديم المزيد من المعلومات ونفخ الحياة في الأحجار الميتة؛ أسماء ذات صفة خاصة، مع تفاصيل عن عائلات الضحايا ومقتطفات وقراءات من رسائلهم إلى الوطن. ناهيك بخطط وأراضٍ محددة ضمن الموقع لبناء مركز يُمكن فيه شرح التاريخ والمعلومات الأساسية.

وهذا يقودنا إلى التحدي الثاني: المال، ونعني به المال الضروري لتنفيذ الخطة التي تقضي ببناء المركز التعليمي وصيانة النصب الجديد. وقد جرت بالفعل مناقشات ودية، ولو حذرة بعض الشيء، مع "هيئة الكومنولث لمقابر الحرب" بشأن الترتيبات ذات الصلة. ففي النهاية، نصب النورماندي ليس مقبرة ولا يدخل ضمن صلاحيات الهيئة. وإن كان على الخدمات التي تقدمها الهيئة حاضراً، فقد أُوكلت إليها بموجب عقد.

لكن هذا الوضع لن يدوم إلى الأبد، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل سيكون هناك دعم شعبي كافٍ لجمع الأموال اللازمة للحفاظ على المعلم، أم ستكون حكومة اليوم مستعدة للتدخل؟ حسناً، ممكن جداً، بالنظر إلى تسمية النصب التذكاري بالنصب البريطاني لمعركة النورماندي. ولكن مرة أخرى، عندما تشح الأموال وتنضب، تُصبح الأمور التاريخية والثقافية الموجودة في الخارج في طليعة ما ينبغي التخلي عنه.

وما قد يزيد الأمور سوءاً ويُعثر الزيارات وعمليات التمويل، خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. فمنذ أيام قليلة، وردت أخبار عن أن جمعية "بريتش ليجون" (British Legion) الخيرية الناجحة والمحترفة، ستتوقف عن بيع الخشخاش وغيره من السلع في الجانب الآخر من القناة الإنجليزية، بسبب المستندات والرسوم الجمركية المستجدة. ومع مرور الوقت، قد تتغير الأحوال؛ وما لم تتغير، ستجد المملكة المتحدة والدول التي حاربت قواتها المسلحة من أجل تحرير أوروبا، نفسها مضطرة إلى الابتعاد بعضها عن بعض أكثر من أي وقتٍ مضى.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات