Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فرانك رونوفييه يبتكر جزائر يوتوبية بهويات متعددة

الحكواتي محمد يسلك طريق ألبير كامو في رواية "حكاية القافلة التائهة"

مشهد جزائري بعين استشراقية (لوحات استشراقية)

فن الحكواتي يكمن خصوصاً في عدم ترك أي لحظة للمُصغين إليه لالتقاط أنفاسهم. وهذا ما ينتظرنا في الرواية الثانية للفرنسي فرانك رونوفييه، "حكاية القافلة التائهة"، التي صدرت حديثاً عن دار "موريس نادو" الباريسية. ويبتكر هذا الكاتب اللامع فيها ليس أقل من جزائر منفتحة، مُصغية إلى ماضيها المتعدد، من خلال قصة لها كل مميزات الحكاية الشرقية، بالتالي كل ما يلزم كي تفتننا. ولا عجب في ذلك، فجد رونوفييه من "الأقدام السوداء" وعائلته، مثل ألبير كامو، ناضلت خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي من أجل جزائر متعددة الطوائف والهويات.

بطل الرواية يتيم الأب والأم، حكواتي وأمين الأرشيف في بلدة "عليكا" الجزائرية الخرافية التي تقع على قاب قوسين من الحدود التونسية. وبما أنه يدعى محمد فيليكس بوريشي، لا يفوت بعض أبناء البلدة فرصة للهزء منه عبر مناداته "السيد فيليكس"، مشككين بذلك في أصوله الجزائرية ووفائه كموظف حكومي. وفي أحد الأيام، وبعد أن ضاق ذرعاً من ذلك، يقرر محمد استثمار امتيازات وظيفته من أجل وضع يده على الوثائق الدامغة التي من شأنها، ليس فقط إصلاح الأضرار التي لحقت بذاكرة عائلته بسبب هذه السخرية، بل أيضاً تعرية المخفي والمحرج في تاريخ "عليكا" الرسمي. هكذا سيكتشف أنها تأسست إثر إيقاف الاستعمار الفرنسي، قافلة في هذا المكان عام 1840 ومنعها من مغادرته. معلومة لا تلبث أن تحثه على التوجه إلى تونس، حيث يتأكد من صحتها. وبفضل الجهد الذي سيبذله لإعادة تشكيل نسب عائلات البلدة، لا يتمكن من فك لغز أصوله الشخصية فحسب، بل يكتشف أيضاً أن "عليكا" خضعت على مدى عدة أجيال لنظام أمومي!

أصول متعددة

وفعلاً، يتبين لمحمد أن سكان البلدة ينحدرون جميعاً من نساء حريم أمير كان ضمن القافلة. نساء من أصول أمازيغية، مسيحية، يهودية، شيعية إيرانية، نوبية، هندية، صينية، غجرية... وبما أنهن كن الممثلاث الوحيدات لجنسهن لدى تسمير القافلة، يمنحهن الإمام بشكل استثنائي، بعد وفاة الأمير، ليس فقط حرية الزواج مع من يشأن، بل أيضاً الحق في عشق ومعاشرة من يرغبن من رجال القافلة. وبفضل تعدد الأزواج والعشاق هذا، تخضع الأجيال الأولى لـ"عليكا"، بحكم الواقع، لسلطة الجنس اللطيف الفعلية.

لكن في جزائر تدعي هوية عربية ودينية حصرية، يزعج اكتشاف محمد التنوع الإثني والطائفي لسكان بلدته وعزمه على كشفه السلطات السياسية، فتحاول تكميمه. وحين تؤدي هذه المحاولات إلى وضعه تحت دائرة الضوء ومنحه شهرة إعلامية كبيرة داخل البلاد، تغير السلطات استراتيجيتها وتقنعه بأن يكون مرشحها للانتخابات النيابية الوشيكة. وبما أن الأمر يتعلق بحكاية خرافية، ينجح محمد في الانتخابات ويصير نائباً. ولأن ذلك لن يكفي لإسكاته، تبعده السلطات من البلاد عبر تعيينه سفيراً في كولومبيا، قبل أن تعود فتستدعيه ليس لأقل من التربع على سدة الرئاسة.

باختصار، رواية فاتنة لا تستمد قيمتها فقط من طرافة قصتها والمهارات الفريدة التي يبديها صاحبها لكتابتها وسردها، بل من تشكيلها أيضاً تأملاً سياسياً مثيراً ومشبعاً بالأمل يسائل رونوفييه من خلاله النقاء العرقي والديني المزعوم للجزائر، وعموماً لكل بلد، بأداة الخرافة، مؤدياً في طريقه رسالة نستشفها على طول نصه، ومفادها أننا جميعاً ننحدر من بدو رحل. وفي هذا السياق، يندرج وصفه الأخاذ والطريف للحياة اليومية لأفراد القافلة، لتحضرهم القسري وتملكهم البطيء للفضاء الصحراوي الذي أوقفوا فيه وتدجينهم إياه، بالتالي لخلقهم كل شيء في هذا المكان انطلاقاً من لا شيء، وتأسيسهم مجتمعاً متجانساً على الرغم من هوياتهم المختلفة.

تكمن قيمة الرواية أيضاً في استثمار رونوفييه الحاذق إعادة تشكيله الدقيقة لأحداث متخيلة من الماضي من أجل تخيل مستقبل مثالي للجزائر، لبلدان حوض المتوسط، وللعالم أجمع عموماً. مستقبل يرى النور فيه مجتمع يوتوبي إثر تواري الحدود التي تفصل بين الدول والشعوب، ويبدأ باستفتاء إيجابي في الجزائر عام 2022، يتبعه مرسوم يوقعه محمد بعد انتخابه رئيساً يمنح حق العودة لـ"الأقدام السوداء" وذريتهم، وتتدفق نتيجته على الشواطئ الجزائرية السفن التي يستقلها هؤلاء للعودة، ما يمنحنا مشهداً مؤثراً يشكل نقيض مشاهد وأجواء النزوح الذي حصل عام 1962.

خطابات طريفة

وثمة قيمة أخرى أكيدة في الرواية، ونقصد الخطابات الرسمية العديدة التي يلقيها محمد في كل مناسبة، وتشكل صفحات رائعة، سواء في طرافتها أو في مغزاها، كالخطاب الأول الذي يرتجله أمام أبناء بلدته وتنكشف فيه ليس فقط طلاقة لسانه، بل سعة ثقافته التي تتجلى في قراءته تاريخ بلده وانتقاده سياسة الاستعمار والسلطات الجزائرية انطلاقاً من قصتي ثمرة الشمام وطبق الكسكس. أو خطابه الأول في البرلمان، بعد انتخابه نائباً، ويتطرق فيه إلى طبيعة الحكاية الشعبية والرسائل المضمرة فيها، وتبعاتها التلفظية، وإلى الفضائل الشعرية للغة العربية وفروقها اللامتناهية وعلاقتها التاريخية باللغة الفرنسية. ومن طريق ذلك، إلى سياسات المستعمر الفرنسي الوخيمة في الجزائر والتأثير السلبي للأيديولوجيات الغربية على أنظمة الحكم في العالم العربي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكما لو أن ذلك لا يكفي، تنتظرنا داخل الرواية توريات ومبالغات مضحكة، تسويات طريفة لأئمة مع قواعد الدين، خيال جامح وقفز ثابت في عملية السرد من مكان إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، ومن بربروسا إلى فيدل كاسترو، مروراً بدبلوماسي من أصول سورية يدعى سليمان فرنجيه، ويلتقي محمد به في بوغوتا. تنتظرنا أيضاً إلهاءات مرحة تقابلها ملاحظات تاريخية دقيقة حول الأماكن التي سيقيم محمد فيها، وإعادة تشكيل علمية لمشاهد حية من حقب مختلفة، ومقتطفات من طلاسم ووثائق أرشيف وأدلة قديمة وإحصاءات ديموغرافية... باختصار، عناصر لا تحصى تثري النص وتشارك في تعزيز قيمته وجاذبيته وفرادته.

أما حكمة الرواية أو الفلسفة التي يمكن استخلاصها منها، فنجدها في خاتمتها داخل الكلمة التي تلقيها زوجة محمد الوفية، زبيدة، بعد اغتياله: "تقول القليل، لكنها تقوله بحكمة جنية وضعت أمامها أمنية يتعذر تحقيقها. أمنية كانت تشكل الأمل الأخير لزوجها أن يجمع حوض المتوسط يوماً تحت علم واحد جميع الدول التي تحده. أن تتحد الدول المطلة على هذا البحر لتشكل "ولايات اللازوردي المتحدة". أن يعمل أبناؤها المسلمون والمسيحيون واليهود على نشر نوره، وأن يستأنفوا، معاً هذه المرة، عملهم الحضاري في اتجاه شعوب الشمال البربرية، الميسورة والصناعية اليوم".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة