Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يفغيني فودولازكين يدين في "الطيار" التجربة السوفياتية

يتخذ من التاريخ الروسي مادة أولية لرواياته فيعيد كتابته لا من خلال الأحداث الكبرى فيه بل من خلال التجارب الفردية والجزئيات الصغيرة

يدين الكاتب الحقبة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي السابق لا سيما في مرحلتها الستالينية (غيتي)

"الطيار" رواية روسية صادرة عن دار المدى بترجمة تحسين رزاق عزيز. وهي الثالثة، بعد "سولوفيوف ولاريونوف" 2009، و"لاوروس" 2012، للروائي والمؤرخ الروسي يفغيني فودولازكين، المولود في العاصمة الأوكرانية كييف عام 1964. وهو باحث في الأدب الروسي القديم من خلال عمله في معهد الأدب الروسي التابع لأكاديمية العلوم الروسية. ولعل جمعه بين وظيفتي الروائي والمؤرخ هو ما حدا به أن يتخذ من التاريخ الروسي مادة أولية لرواياته، فيعيد كتابته، لا من خلال الأحداث الكبرى فيه، بل من خلال التجارب الفردية والجزئيات الصغيرة، ما يصنع الحقيقة التاريخية. و"الحقيقة، إذا كان كل واحد يصف الجزئية الخاصة به من هذا العالم، وإن كانت صغيرة..."، على حد تعبير الشخصية المحورية في رواية "الطيار" التي لا تشذ عن هذا السياق.

العنوان والمتن

في العنوان، "الطيار" لقب يُطلق على بطل الرواية، إينوكينتي بتروفيتش بلاتونوف، الذي يحلم صغيراً بأن يصبح طياراً تيمّناً بطائر جميل كبير، ويترجم حلمه باستخدام طائرة ورقية، ويحفظ عن ظهر قلب قصيدة "الطيار" لألكسندر بلوك، ويشهد بأم العين مصرع الطيار الشجاع فرولوف في مهرجان هواة الطيران. غير أن البطل لا يستطيع تحويل حلمه إلى حقيقة، في ظل نظام سياسي لا يعترف بأحلام الأفراد ورغباتهم، ويغلّب عليها مصلحة الجماعة وإرادتها.

في المتن، تغطي "الطيار" القرن العشرين بكامله، في الاتحاد السوفياتي السابق. وتجري أحداثها بين جزيرة سلوفيتسكي ومدينة بطرسبورغ والضواحي المحيطة بها. وتتمحور حول شخصية إينوكينتي بلاتونوف والتجربة المريعة التي يعيشها، ما يفتح الفضاء الروائي على الخيال العلمي والواقعية السحرية في آن. ومن خلال هذه التجربة، يدين الكاتب الحقبة الشيوعية في الاتحاد السوفياتي السابق لا سيما في مرحلتها الستالينية، ويبيّن الانتهاكات المريعة لحقوق الإنسان التي تبلغ حد تحويله إلى فأر تجارب، وذلك باسم العلم والتقدّم.

التجميد والتذويب

على سرير في مستشفى، يستيقظ إينوكينتي وقد جرى تذويبه،  بعد عقود من التجميد، بين الثلاثينيات والثمانينيات من القرن العشرين، ليجد نفسه في مواجهة الطبيب غيغير، ما يشكّل بداية علاقة بينهما، تتخطى العلاقة بين الطبيب والمريض إلى نوع من الأبوّة المتبادلة، وتنتهي بالصداقة بينهما. فمن جهة، ثمّة مريض أقدمت السلطة البلشفية، على تجميده، جرّاء قلقها من التغيّرات التي طرأت على جثمان لينين، في محاولة منها لاستكشاف ممكنات التجميد، ريثما يصبح العلم قادراً على إطالة الحياة البيولوجية. وهو، إذ يتم تذويبه بعد عقود من التجميد، يستيقظ على حال من الوحدة والغربة وفقدان الذاكرة. ومن جهة ثانية، ثمة طبيب ينجح في تذويبه وإبقائه على قيد الحياة، ويجد نفسه أمام إنجازه العلمي، ويحرص كلّ الحرص على عدم ارتطام المريض العائد بالحياة الجديدة. لذلك، يلجأ إلى استخدام استراتيجية التذكّر/ التذكير، بجرعات محدّدة، ريثما يتكيّف المريض مع الواقع المستجد؛ فيقوم بتذكيره بذكريات معيّنة، مختارة بعناية. ويترك له مجال التذكّر المقنّن، ويستدرجه إلى ذلك بأدوات مادية كالكتب والأفلام، وبزيارات ميدانية إلى شخصيات وأماكن عرفها في حياته السابقة. ويطلب إليه تدوين كل ما يخطر على باله أو يعنّ على ذاكرته، ما يمنح الكتابة وظيفة علاجية، فيقوم إينوكينتي بتدوين مئة وسبعين يومية، تشكّل الجزء الأول من الرواية، وتشغل مائتين وثلاث عشرة صفحة. ويقوم بتدوين ثلث يوميات الجزء الثاني منها، بالتناوب مع الطبيب غيغير والحبيبة ناستيا اللذين يتكفلان بالثلثين الآخرين من جزء ثانٍ، يشغل مئة وأربع وثمانين صفحة من الرواية.

ذكريات ووقائع 

يترتّب على هذا التقسيم نتائج معيّنة، في الشكل والمضمون. في الشكل، يروي إينوكينتي الذكريات العائدة للحياة السابقة والوقائع المعيشة في الحياة الحالية. ويترجح في رويه بين مجموعة من الثنائيات، من قبيل: سلوفيتسكي/ بطرسبورغ، المعسكر/ المستشفى، الماضي/ الحاضر، موروتسيف/ غيغير، التجميد/ التذويب، الجدة أنستاسيّا/ الحفيدة ناستيا، وغيرها. وإذا كانت اليومية الواحدة تجاور بين الوقائع والذكريات أو تستقل بأحد النوعين، فإن الحيّز الذي تشغله الذكريات في رويه هو أكبر من ذاك الذي تشغله الوقائع، وهذا أمر طبيعي لأن الذكريات تمتد على سنوات حياته الماضية، بمراحل الطفولة والصبا والشباب، بينما الوقائع تقتصر على عدد من الأشهر، هي عمر استيقاظه من التجميد. أمّا ما يرويه الراويان الآخران، الطبيب والحبيبة، فيقتصر على الوقائع التي شهداها أو شاركا فيها، وهي متصلة بإينوكينتي، ومتمحورة حوله، ما يرسخ محورية الشخصية في الرواية.

ظلم الماضي

في المضمون، بذكرياته والوقائع، يشكّل القبض على إينوكينتي، من قبل دائرة المباحث السياسية، في الشقة التي يقيم فيها مع أمه، ويتشاركها مع البروفيسور فورونين وابنته أنستاسيّا، ومع العامل في مطعم النقانق زاريتسكي، بتهمة التآمر على الثورة مع الأول وقتل الثاني، الحلقة الأولى من  جلجلة، يُكتب عليه أن يقطعها. ويكون انفصاله عن حبيبته أنستاسيّا، ووفاة والدته في غيابه، وانقلاب حياته رأساً على عقب، بعض النتائج المترتّبة عليها. تليها حلقات التحقيق والتعذيب والاعتقال والأشغال الشاقة والسجن الانفرادي. وتتوجّها الحلقة الأخيرة المتمثّلة بتجميده وتحويله إلى فأر تجارب. هذه الممارسات تشكّل إدانة واضحة للحقبة السوفياتية في التاريخ الروسي. يسوقها الكاتب من خلال الأفعال التي تقوم بها الأجهزة الأمنية بحق المعارضين، من جهة، ومن خلال الأقوال التي يضعها على ألسنة الشخوص الروائية، من جهة ثانية، فيقول، على لسان الشخصية المحورية، على سبيل المثال: "فكّرت فجأة، ربما من الأفضل لو كان ماركس رساماً، هو وأتباعه الكثيرون. ليتهم استنسخوا رسم تمثال داود للفنان مايكل أنجلو، ومحوا الجرافيت الزائد بالخبز الجاف، وسافروا إلى مدينة بلييوس ليرسموا. أعتقد أنهم لو فعلوا ذلك لكان الحزن في العالم أقل" (ص199).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إنصاف الحاضر

على الرغم من قسوة الذكريات المستعادة، فإن استعادتها لا تخلو من متعة موجعة، وتتم في إطار التصالح مع الماضي. وفي هذا السياق، يعلمه الطبيب غيغير بوجود بعض معارفه القدامى على قيد الحياة، ويتدبّر أمر لقائه بهم؛ فيزور حبيبته التسعينية أنستاسيّا في المستشفى، ويزور الجلاد فورونين، المشرف على معسكر سلوفيتسكي الذي سامه أبشع أنواع العذاب. وتكون المفارقة الأولى أن مشاعر الحب إزاء أنستاسيّا لم تتغيّر على رغم زواجها مرّتين من سواه، ولا يتورّع عن الاهتمام بها وتنظيف جسدها على رغم فقدانها التركيز. وتكون المفارقة الثانية أنّه لا يشعر بالحقد على الجلاد. لعلّ مرور الزمن على الأحداث يوقظ الوعي الذاتي، ويحرّر الإنسان من رواسب الماضي.

إن استعادة ذكريات الماضي في الرواية، تتمّ بفعل وقائع الحاضر التي تعيشها الشخصية، لوجود قرينة معيّنة مشتركة بين الواقعة والذكرى. وإذا كان الماضي ظلم الشخصية، فإن الحاضر حاول أن ينصفها. ومن الوقائع التي يتمظهر فيها الإنصاف: العودة إلى الحياة. التمتّع بشباب بيولوجي، فيبدو إينوكينتي في الثلاثين جسدياً، على رغم تجاوزه التسعين عمراً. التعرّف إلى ناسيا، حفيدة أنستاسيّا المشابهة لها، والانخراط معها في علاقة حب تتكلّل بالزواج والحمل، فتعوّضه الحفيدة عن الجدة، ويمنحه الحاضر ما حرمه منه الماضي. الشهرة الإعلامية بعد المؤتمر الصحافي الذي عقده بمشاركة طبيبه. التهافت على تكريمه من المسؤولين. وغيرها.

وعلى الرغم من هذه الوقائع، يبقى إينوكينتي معلّقاً بين ماضٍ ينتمي إليه لا يستطيع استعادته، على قسوته، وحاضر غريب عنه لا يستطيع التكيّف معه، على مرونته. ويروح يتردّى في مشاعر الوحدة والغربة. وتأتي التغيرات التي تطرأ على حالته الصحية، وموت خلايا في دماغه، وتأثّر حركته وذاكرته بهذا الموت، وخوفه من الرحيل قبل مجيء ابنته إلى الحياة، وقلقه على مصير زوجته وابنته، وفشل زيارته العلاجية إلى ميونيخ، لتفاقم من مشاعر الوحدة والغربة. فيبقى معلّقاً بين الماضي والحاضر، الأمل واليأس، والحياة والموت. وتأتي واقعة عدم استجابة عجلات الطائرة التي تعيده إلى بطرسبورغ للهبوط، في نهاية الرواية، فتبقى معلّقة بين الأرض والسماء بانتظار معجزة ما، لتضيف تعلّقاً مكانياً إلى التعلّقات الزمنية والنفسية والوجودية الآنفة الذكر، ما يجعل "الطيار" اسماً على مسمّى وعنواناً على متن.

لعلّ يفغيني فودولازكين أراد القول إن مصير الإنسان في الأنظمة الشمولية ليس مصيراً ناجزاً بل هو قيد الإنجاز بشكل مستمر، ما يجعل سقوط هذه الأنظمة حتمياً. هذا ما حصل في الاتحاد السوفياتي السابق، وسيحصل في أنظمة شمولية كثيرة أخرى. وبذلك، يصدّر عن منظور سلبي للتجربة الشيوعية، يُوغل في تعداد سلبياتها، وهي كثيرة. ويغضي عن إيجابياتها، وهي كثيرة، بدورها.

المزيد من ثقافة