في غمرة الانشغال الرسمي اللبناني بدراسة مشروع قانون الموازنة العامة للسنة الحالية تحت وطأة الضغوط الاقتصادية والمالية، برزت في اليومين الماضيين مسألة ترسيم الحدود التي أثارتها زيارة سفيرة الولايات المتحدة الأميركية في بيروت إليزابيت ريتشارد لكل من رئيسي الجمهورية ميشال عون والمجلس النيابي نبيه بري، لتُستتبع بزيارة وزير الخارجية جبران باسيل إلى رئيس مجلس النواب، إذ أثار معه هذا الملف، كاشفاً أن البحث تناول تنسيق الموقف "لمزيد من المتانة ولنحافظ على حقوقنا".
وعُلم أن زيارة ريتشارد إلى قصر رئاسة الجمهورية في بعبدا جاءت بناءً على طلب رئيس الجمهورية، وعشية توجهها إلى واشنطن، وحمّلها عون موقف لبنان الرسمي من هذا الملف، وكذلك فعل أيضاً رئيس مجلس النواب، الذي أكد أن موقفه يتطابق مع موقف رئيس الجمهورية.
كما عُلم أن رئيس الجمهورية قرر استدعاء ريتشارد بعد ورود معلومات عن زيارة مرتقبة لمسؤول أميركي رفيع إلى بيروت هو السفير ديفيد ساترفيلد، الأسبوع المقبل، على الرغم من أنه لم يعد يشغل موقعه في وزارة الخارجية، وعُيّن سفيراً لبلاده في أنقرة، لكنه كان حتى الأمس القريب مسؤولاً عن هذا الملف، وعن توقف المفاوضات فيه عند اقتراح السفير فريديريك هوف للترسيم. ويُنتظر أن تشكل زيارة ساترفيلد مناسبة للبحث مع المسؤولين اللبنانيين في ما آلت إليه المقترحات في هذا الشأن، والرد الأميركي على طلب لبنان الوساطة الأميركية، علماً أن ساترفيلد سيعرِّج على إسرائيل قبل زيارة بيروت.
رئيس الجمهورية حمّل ريتشارد، وفق الدوائر الإعلامية في قصر الرئاسة، "أفكاراً تتعلق بآلية عمل يمكن اعتمادها لترسيم الحدود البحرية الجنوبية"، فيما كشف مصدر مسؤول في رئاسة الجمهورية اللبنانية أن الرئيس، وتفادياً لأي إشكاليات يمكن أن يطرحها الخلاف حول مسألة الترسيم البحري والبري، سلم ريتشارد اقتراحاً بطلب المساعدة الأميركية في تأمين المتابعة عبر اللجنة الثلاثية المشتركة (لبنان وإسرائيل والأمم المتحدة). وتقتضي آلية عون التلازم بين الترسيم البري والبحري وعدم الفصل بينهما. ويتوقع المصدر المسؤول أن تحمل ريتشارد جواب إدارتها بعدما تنقل إليها الموقف اللبناني الرسمي.
تفاهم رئاسي لبناني
تأتي دعوة عون للديبلوماسية الأميركية إثر التفاهم الذي تحقق في اللقاء الثلاثي لرؤساء الجمهورية والبرلمان والحكومة في قصر بعبدا، مساء الإثنين الماضي، والذي كان مخصصاً في الأساس لبحث ملف الموازنة في ضوء الإضرابات والاحتجاجات النقابية. وقد تناول هذا اللقاء موضوع ترسيم الحدود البرية والبحرية بين لبنان وإسرائيل، ضمن ورقة أعدها رئيس مجلس النواب وحملها معه إلى الرئيسين تركز على أهمية توحيد الموقف اللبناني، بعد التباينات التي برزت بين رئيس المجلس ووزير الخارجية في شأن الربط بين الترسيم الحدودي في البر والبحر وعدم الفصل بينهما.
وتوصل اللقاء الثلاثي إلى التوافق على الطلب الأميركي الداعي إلى تشكيل لجنة رباعية تضم إلى لبنان، الولايات المتحدة الأميركية والأمم المتحدة وإسرائيل. وتجدر الاشارة في هذا المجال إلى أن المفاوضات في شأن الترسيم كانت توقفت بعد الطرح الأميركي الذي حمله الموفد الخاص فريديرك هوف إلى السلطات اللبنانية في العام 2012 ورفضه لبنان. والطرح يقضي بترسيم الحدود وفق ما بات يُعرف بـ "خط هوف" على أساس تقاسم المنطقة المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل على الحدود البحرية وتمتد لنحو 860 كيلومتراً مربعاً، بحيث يعطي هذا الخط لبنان ما نسبته 60 في المئة مقابل 40 في المئة لإسرائيل. وقد رفض لبنان خسارة حوالى 360 كيلمومتراً مربعاً بسبب هذا التقسيم. كما أن طرح هوف يقضي بفك الربط بين الحدود البحرية والبرية.
الترسيم مع قبرص
لا بد أيضاً من الإشارة إلى اتفاقية الترسيم التي وقعها لبنان مع قبرص، إذ لجأ لبنان إلى نقاط مؤقتة جرى الترسيم فيها، لا تلامس الحدود البحرية الجنوبية أو الشمال، بل بعيداً عن مناطق التماس مع المناطق المحتلة جنوباً أو غير المرسّمة شمالاً مع سوريا. وقد عزا لبنان موقفه هذا إلى أنه لا يمكن الترسيم في تلك المناطق قبل تأمين رعاية الأمم المتحدة لعملية الترسيم هذه. وقد اعتبرت إسرائيل أن النقاط التي لم يرسمها لبنان نقاطاً إسرائيلية، وجرى الترسيم على هذا الأساس، ما أدى إلى منح إسرائيل حصة في البلوك رقم تسعة المتنازع عليه.
وعلى هذا الأساس أيضاً، جاء اقتراح السفير فريديرك هوف، ما دفع لبنان إلى تقديم شكوى إلى مجلس الأمن، حول ما اعتبره اعتداءً إسرائيلياً على حقوقه. والأمر عينه ينسحب أيضاً على الحدود الشمالية مع سوريا، إذ لم يقدم الطرفان على أي خطوات من شأنها أن تضع الترسيم على سكة المعالجة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في سياق متصل، يلاحظ المراقبون من حركة الزيارات الرسمية التي شهدها لبنان لكل من الرئيسين اليوناني والقبرصي أنها هدفت إلى تحريك المفاوضات بين لبنان وقبرص واليونان بغية ترتيب الاتفاقيات على خطوط النفط ما بين هذه الدول. ولا بد للبنان من ترسيم الحدود لضمان أمن عمليات التنقيب. وتأتي اللقاءات بعد إقرار لبنان دورة التراخيص الثانية للتنقيب عن النفط في البلوكات 1 و2 و5 و8 و10. وهذه الإجراءات ستكون مرتبطة بترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة مع قبرص وفي الشمال مع سوريا.
على خط آخر، تفيد المعلومات المتوافرة بأن لبنان قد عمل على خط روسيا من خلال المبادرة الروسية المطروحة على الطاولة ومن ضمن سلة بنودها موضوع ترسيم الحدود الشمالية. ونُقل عن دبلوماسيين أن لبنان حصل على ضمانات روسية حول البلوكات الشمالية، ما قد يسّهل عملية الترسيم، كون روسيا تسيطر على الساحل السوري.
ويؤكد مستشار رئيس البرلمان علي حمدان أن "لبنان يأمل في تحقيق تقدم على صعيد ترسيم الحدود الجنوبية"، مشيراً إلى أن "اللقاء الثلاثي للرؤساء في القصر الجمهوري ساهم في وضع آلية عمل واضحة وتحظى بإجماع لبناني من القوى السياسية، وتوحد الرؤية والموقف اللبنانيين الرسميين. وتشكل الوساطة الأميركية مسهلاً لتحقيق خطوات متقدمة، خصوصاً أن الموقف اللبناني واضح حيال استحالة الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل من دون رعاية أممية ومواكبة أميركية".
ورداً على سؤال حول ما يُثار عن خلاف مع سوريا حول ترسيم الحدود، أوضح حمدان أن موضوع الترسيم للحدود الشمالية مع سوريا ليس مطروحاً في المرحلة الراهنة، وهذا يتوقف على مبادرة الحكومة اللبنانية إلى طرحه مع الحكومة السورية.
وحول المبادرة الروسية للترسيم شمالاً، نفى حمدان علمه بهذا الموضوع.