أعاد الجيش الأميركي في عام 2006، عندما كانت الحرب التي تخوضها عناصره في العراق قد بلغت أدنى مستوياتها، إحياء "عقيدة مكافحة التمرد" (COIN) Counterinsurgency (مجموعة إجراءاتٍ عسكرية ومدنية تستهدف هزم القوى غير النظامية). ووفق هذه العقيدة، التي كان قد عمل على تطويرها مبتكرون عسكريون في خمسينيات القرن الماضي، كالماريشال البريطاني السير جيرالد تمبلر في مالايا، والعميل السري الأميركي إدوارد لانسديل في الفيليبين، فإن القوى العسكرية لا يمكنها إلحاق الهزيمة بحالات التمرد، بمجرد القضاء على المتمردين. وقد يفضي القتل العشوائي في واقع الأمر إلى زيادة الأعداء بدلاً من تقليص عددهم. أما الطريق إلى تحقيق الهدف، بحسب "عقيدة مكافحة التمرد" COIN، فيتمثل في إرساء الأمن وتقديم الخدمات الأساسية للناس العاديين. ومن شأن هذا النهج أن يساعد عمليات مكافحة التمرد على كسب ثقة الناس، وأن يضاعف احتمالات جمع معلوماتٍ استخبارية حيوية ضرورية للقضاء على المتمردين المتشددين أو اعتقالهم من دون إلحاق ضررٍ بمدنيين أبرياء.
وفي هذا المجال، تعاون جنرالان - هما ديفيد بترايوس من "القوى البرية في الجيش الأميركي" U.S. Army ، وجيمس ماتيس من "سلاح مشاة البحرية الأميركية" U.S. Marine Corps - على إعداد دليل ميداني مبتكر، صدر في ديسمبر (كانون الأول) عام 2006، وأسهم في نشر "عقيدة مكافحة التمرد". وقد طبق بترايوس في الأعوام التي تلت، هذه الاستراتيجية، خلال توليه قيادة القوات الأميركية في العراق. وأسهمت عملياته العسكرية المكثفة في هذا المجال، في تخفيض العنف هناك بأكثر من 90 في المئة. وعلى الرغم من أن القوات الأميركية لم تفلح في فض النزاعات العرقية الكامنة والاضطرابات الطائفية المتجذرة، أو تحويل العراق إلى دولةٍ ديموقراطية نموذجية يُحتذى بها، إلا أن النجاح الذي حققته في مكافحة التمرد (عبر تعزيز خطة الزيادة العسكرية [رفع أعداد القوات الأميركية]) في مدة قصيرة، أسهم في زيادة شعبيتها في مختلف أوساط الأمن القومي الأميركي. وفي المرحلة التي تلت، واصل كل من بترايوس وماتيس ترؤس "القيادة المركزية الأميركية" U.S. Central Command (المسؤولة عن الشرق الأوسط)، وتسلما مناصب على أعلى المستويات الحكومية: بترايوس عُين مديراً لـ "وكالة الاستخبارات المركزية" CIA، فيما تولى ماتيس وزارة الدفاع.
وفي المقابل، قاد بترايوس القوات الأميركية والدولية في أفغانستان في الفترة الممتدة ما بين عامي 2010 و2011، أشرف خلالها على تحقيق خطةٍ أخرى لزيادة القوات العسكرية هناك. إلا أن هذا الإجراء، لم يتمخض عن نتائج جذرية كتلك التي شهدها العراق. فالتحذيرات التي أطلقها بترايوس قبل توليه المنصب - من أن أفغانستان "تمثل مشكلةً أكثر تعقيداً" - سرعان ما اتضحت مؤشراتها وتحولت إلى حقائق على الأرض [ميدانية]. أما الآن، وبعد نحو عقدين من الزمن من التدخل العسكري الأميركي، قرر الرئيس الأميركي جو بايدن سحب قوات بلاده المتبقية في أفغانستان والبالغ عددها 3500 جندي، على الرغم من عدم إحراز تقدم في محادثات السلام بين الحكومة الأفغانية وحركة "طالبان". فالحركة تبدو أقوى من أي وقتٍ مضى، وهي تتهيأ لتحقيق مكاسب ميدانية واسعة. وفي هذا الإطار، حذرت أوساط استخباراتية أميركية من وقوع أفغانستان بكاملها تحت سيطرة الجماعة، بعد سنتين أو ثلاث سنوات من رحيل القوات الدولية. وفي حال حدوث ذلك، فإن النتائج ستمثل أكبر هزيمةٍ عسكرية مذلة للولايات المتحدة منذ حرب فيتنام - حيث انتصر العدو أيضاً بعد انسحاب القوات الأميركية.
تقوم استراتيجية بايدن بشأن الانسحاب الأميركي من أفغانستان على الحاجة إلى التركيز على أولوياتٍ أخرى، لا سيما منها طريقة إدارة واشنطن للمنافسة بين القوى العظمى التي تخوضها مع كل من الصين وروسيا. فقد بدأ تحويل وجهة سلاح مشاة البحرية الأميركية، التي تعتبر نفسها منذ عشرينيات القرن الماضي القوة "الحربية الصغيرة" الأولى للولايات المتحدة، نحو تنفيذ حملات تنقل سريع بين الجزر في المحيط الهادئ (استراتيجية عسكرية استخدمها الحلفاء في حرب المحيط الهادئ ضد اليابان خلال الحرب العالمية الثانية)، التي تختلف كثيراً عن نطاق عمليات "عقيدة مكافحة التمرد" COIN التي نفذتها وحدات المارينز منذ وقتٍ ليس ببعيد، في محافظة الأنبار في العراق ومحافظة هلمند في أفغانستان.
وبعد مرور نحو عشرين عاماً على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، بدأ عصر مكافحة التمرد يقترب من نهايته، وأخذت "عقيدة مكافحة التمرد" تفقد تأثيرها سريعاً في دوائر الأمن القومي الأميركية. لكن في موازاة ذلك، سيشكل أي استخفافٍ بهذه العقيدة خطأ فادحاً اليوم، إذ لا توجد في الواقع استراتيجية أفضل لمواجهة الإرهابيين والعصابات. وإذا تناست الولايات المتحدة مبادئ "مكافحة التمرد"، كما فعلت بعد حرب فيتنام، فستدفع ثمناً باهظاً في ساحات المعارك في المستقبل.
كر وفر
لا بد من الإشارة، قبل إطاحة "عقيدة مكافحة التمرد"، إلى أنها حققت نجاحاً بالفعل في أفغانستان عندما وحيثما التزمت الولايات المتحدة تخصيص قواتٍ كافية لتنفيذها. وقد أمكن لأي شخص زار هلمند وقندهار في الفترة الممتدة ما بين عامي 2011 و2012 - عندما كانت الجهود الأميركية لمكافحة التمرد في أفغانستان في ذروتها - أن يشهد تقدماً واضحاً في هذا المجال هناك. فقد عمل الجنود ومشاة البحرية على تطهير حركة "طالبان" من معاقل لطالما كانت تحكم السيطرة عليها، وأسهموا في تحسين الظروف الأمنية، وإن كان ذلك قد كلفهم خسائر كبيرة. وقد حذر الجنرال ستانلي ماكريستال عندما كان قائداً للقوات الأميركية في أفغانستان ما بين عامي 2009 و2010 في أحد تقاريره، من أن حركة "طالبان" كانت تحقق مكاسب سريعة إلى درجة أن العملية الأميركية في أفغانستان كانت تواجه خطر "الفشل في مهمتها". وأدت زيادة عدد القوات التي أمر بها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، من خلال رفع عديد القوات الأميركية إلى 100 ألف عنصر، إلى تفادي هذا الخطر وتقويض تقدم "طالبان".
لكن المشكلة كانت في أن التحسينات الأمنية كانت محصورةً في مناطق محددة ولم تدم طويلاً. ولم تلتزم الولايات المتحدة كما يجب تأمين قواتٍ كافية لتنفيذ عملياتٍ في إطار "عقيدة مكافحة التمرد" على مستوى البلاد برمتها، وعلى الرغم من انتقاد أوباما لطريقة بناء الدولة هناك، أصر على إرسال قواتٍ إضافية إلى أفغانستان لكنه أرفق أمر العمليات بجدول زمني مدته 18 شهراً. وهذا ما شجع كما كان متوقعاً حركة "طالبان" على التريث والانتظار بكل ببساطة حتى انتهاء الهجوم الأميركي، كي يعود مقاتلوها إلى المناطق التي أُخرجوا منها، وذلك بمجرد انسحاب الولايات المتحدة منها. وفي المقابل، أدى الموعد النهائي للانسحاب الأميركي إلى تعطيل آفاق إجراء مفاوضات سلامٍ ناجحة. ونُقل عن أحد قادة "طالبان" قوله في هذا الإطار: "تمتلكون ما شئتم من الساعات، لكننا نملك ما شئنا من الوقت".
عصر "مكافحة التمرد" إلى زوال بعد مرور 20 عاماً على اعتداءات 11 سبتمبر
كانت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) تأمل في أن يحل أفرادٌ من قوى الأمن الأفغانية الذين تلقوا تدريباتٍ أميركية، مكان القوات الأميركية عند انسحابها من أفغانستان. لكن القوات العسكرية الأفغانية ووحدات الشرطة كانت دائماً ما دون مستوى تلك التوقعات المتفائلة. فعلى الورق، يبلغ عدد قوات الأمن الأفغانية قرابة 300 ألف فرد. أما الحجم الفعلي للجيش فهو أقل بكثير، وغالباً ما يطالب القادة الفاسدون بدفع رواتب لقواتٍ وهمية. وتُعد وحدات العمليات الخاصة الأفغانية العنصر الأكثر فاعليةً وقدرةً في إطار تلك القوات، لكن اضطرارها إلى ملء الفراغ على الخطوط الأمامية الناجم عن نقص الكفاءة في قوات الشرطة وعناصر الجيش، ينهكها ويثقل كاهلها. وحتى بعد مرور عقدين من الزمن، فإن الجيش الأفغاني لم يقترب من النقطة التي يمكن أن يكون قادراً فيها على تولي زمام الأمور بمفرده. والولايات المتحدة لا تكتفي بدفع رواتب القوات الأفغانية فحسب، بل تساعدها أيضاً على المستويين اللوجيستي والاستخباري، وفي مجالي التخطيط والدعم الجوي.
وفي الواقع، تعكس محدودية الأداء لدى القوات الأفغانية، عيوباً أكثر عمقاً وتغلغلاً داخل بنية الحكومة الأفغانية. فخطط الولايات المتحدة التي كانت تقضي بنشر الخدمات العامة بسرعة في المناطق التي كان يتم تطهيرها أخيراً من حركة "طالبان"، نادراً ما كانت تحقق الكثير. وحتى اليوم، ما زالت الدولة الأفغانية تعاني من فسادٍ كبير وقلة كفاءة وانقسامات متفشية في أوصالها. وتسببت إخفاقات الحكومة في المقابل في بلورة فرصةٍ مميزة لـ "طالبان" كي تعاود الظهور من جديد. وإذا كانت "عقيدة مكافحة التمرد" تهدف أساساً إلى أن تشكل ميزة تنافسية في معايير الحكم، فإن العدو هو الذي انتصر فيها في عددٍ من المناطق الريفية في جنوب أفغانستان وشرقها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما السبب الأخير الذي يقف خلف عدم استمرار نجاح "عقيدة مكافحة التمرد" في أفغانستان، فيتمثل في وجود ملاذات آمنة لمقاتلي حركة "طالبان" في باكستان المجاورة. وقد أثبتت التجارب تاريخياً أنه لم يكن هناك عاملٌ مرتبط ارتباطاً وثيقاً بنجاح تمردٍ ما أو فشله، أكثر من تلقيه الدعم عبر الحدود أم لا. فعلى مدى الأعوام العشرين الأخيرة، كانت الولايات المتحدة تأمل في أن تتمكن من وضع حد للمساندة التي تقدمها "وكالة الاستخبارات الباكستانية" منذ فترةٍ طويلة لحركة "طالبان". إلا أن هذا لم يحدث أبداً، ويعود السبب جزئياً إلى أن الباكستانيين كانوا دائماً ينظرون إلى الولايات المتحدة على أنها حليفٌ متقلب (وهذا أمر يمكن تفهمه). وحتى الآن، ما زال قادة "طالبان" يتمتعون بمزية اللجوء إلى باكستان، ويمكن حتى لمقاتلي الحركة عبور الحدود عندما يتعرضون لضغوطٍ في أفغانستان. وكانت هذه الميزة التي تمتع بها "المجاهدون" قائمةً أيضاً أثناء القتال ضد "الجيش الأحمر السوفياتي" في فترة الثمانينيات، وأثبتت النجاعة نفسها في ذلك الوقت.
البدء في تحقيق نتائج
قد تكون "عقيدة مكافحة التمرد" أخفقت في أفغانستان، لكنها أعطت ثماراً في أماكن أخرى من العالم. ففي العقود الأخيرة من الزمن، حققت عمليات مكافحة التمرد مكاسب ملحوظةً للقوات الإسرائيلية التي واجهت المسلحين الفلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية ما بين عام 2000 وعام 2005، وكذلك لأجهزة الأمن الكولومبية التي قاتلت متمردي "القوات المسلحة الثورية لكولومبيا" Revolutionary Armed Forces of Colombia (FARC) على مدى أكثر من 50 عاماً، إلى حين نجاح اتفاق السلام الذي وُقع عام 2016 في وضع حد للحرب الأهلية هناك. وفي كلا الوضعين، تولت القوات الحكومية ضمان الأمن على مدار الساعة للمدنيين، بدلاً من مجرد محاولة القضاء على المتمردين أفراداً أو قادة. وما بين الحملتين، كانت الحملة الكولومبية هي الأكثر نجاحاً لأن الحكومة الديمقراطية في تلك البلاد كانت قادرةً على بسط سلطتها على المناطق التي كان يسيطر عليها المتمردون في وقتٍ سابق. وفي المقابل، كان الإسرائيليون يفتقرون للمشروعية في حكمهم المناطق الفلسطينية، وكان عليهم إسناد المهمة إلى السلطة الفلسطينية - التي تعاني من طيف العيوب نفسه الذي يطبع الحكومة الأفغانية.
تمكنت الولايات المتحدة من تحقيق نجاح ضمن "عقيدة مكافحة التمرد" في الحملة الأخيرة التي شنتها قواتها على تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام" (المعروف أيضاً باسم "داعش")، والتي بدأت في عام 2014 وبلغت ذروتها مع انهيار الخلافة المزعومة المعلنة من جانب التنظيم في عام 2019. وفيما تمثل الخطأ الأحمق من جانب "داعش" في القتال كجيش أكثر منه كقوة حرب عصابات، إلا أن هزيمته لم تكن واضحة وبالكاد كانت محسومةً سلفاً. وقد اختلفت العملية الأميركية ضد التنظيم بشكلٍ واضح عن غزو أفغانستان والعراق، بحيث عملت القوات الأميركية على تنفيذ عملياتٍ برية بواسطة جنودها. وكان أوباما بعد سحب القوات الأميركية بشكل غير حكيم من العراق في عام 2011، قد تصرف بحكمة عندما قرر جعل دورها يقتصر في غالبه على تقديم النصح والمساعدة، عندما أعادها إلى هناك في عام 2014. وفي حينه لم يكن عدد القوات الأميركية في العراق وسوريا يتجاوز أكثر من 8 آلاف جندي (6 آلاف في العراق وألفان في سوريا). وباستثناء عددٍ قليل من وحدات العمليات الخاصة، لم تكن القوات الأميركية بشكلٍ عام تشتبك مباشرةً مع العدو. وتحملت في المقابل قوى الأمن العراقية والميليشيات الكردية السورية وطأة القتال الذي تسبب لها بسقوط جميع الضحايا إلى حد ما. وعملت القوات الأميركية على مساندة تلك القوى المحلية بالمعلومات الاستخبارية والدعم الجوي والإمدادات اللوجستية.
وتعكس الحملة المناهضة لتنظيم "داعش" طبيعة النموذج المستدام الذي يمكن تكراره على مستوى العمليات الأميركية المستقبلية ضد الإرهابيين والمقاتلين. هذا النموذج يقوم على مساعدة الحلفاء في إطار "عقيدة مكافحة التمرد" من خلال تنفيذ عمليات نشرٍ صغيرة فقط، لعددٍ محدد من المستشارين الأميركيين والقوات الجوية. إلا أن واشنطن أنهت تنفيذ عملياتٍ ضخمة في إطار "عقيدة مكافحة التمرد" يقوم بها عشراتٌ أو حتى مئات الآلاف من القوات. فببساطة، لا توجد إرادة سياسية على مواصلة مثل هذه العمليات. ومن الصعب تصور أن يحدث تغييرٌ في هذا المنحى، ما لم تتعرض الولايات المتحدة لهجوم آخر يوازي في حجمه هجمات الحادي عشر من سبتمبر. لكن هذا لا يعني أن صناع القرار السياسي يمكنهم أن يتجاهلوا التهديدات الإرهابية بالكامل، أو القضاء عليها فقط من خلال تنفيذ ضرباتٍ جوية وغاراتٍ تقوم بها قوات العمليات الخاصة وحدها.
لا أنصاف حلول
إن مكافحة الإرهاب تختلف عن مكافحة التمرد: فالأولى تتضمن استهداف أفرادٍ وجماعاتٍ محددة، في حين أن الثانية تركز على وجوب توفير الحماية للسكان. وبالنسبة إلى الجيوش ذات التقنية العالية، قد تبدو مكافحة الإرهاب استراتيجية أكثر عمليةً وأقل طموحاً من غيرها. إلا أن المشكلة، كما اكتشفت إسرائيل في المعارك ضد "حماس" و"حزب الله"، تكمن في أن عمليات مكافحة الإرهاب قد تتمكن من تعطيل عمليات الجماعات الإرهابية، لكن من دون إلحاق هزيمة بها. وما دام الإرهابيون ينشطون انطلاقاً من الأراضي الخاضعة لسيطرتهم، فإنهم سيتمكنون دائماً من تجديد قواهم التي فقدوها خلال الضربات الجوية أو غارات الوحدات الخاصة (الكوماندوز).
وفي هذا الإطار، تأكدت الولايات المتحدة بنفسها من محدودية استراتيجية مكافحة الإرهاب خلال حربها التي لا تنتهي ضد تنظيم "القاعدة" والجماعات الإرهابية الإسلامية الأخرى. ففي النهاية، نجح أسامة بن لادن، بعد كل ما حصل، في تنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، على الرغم من الضربات الأميركية بصواريخ "كروز" الأميركية التي استهدفت منشآت "القاعدة" وبنيتها في أفغانستان في عام 1998. وعلى الرغم من استمرار عمليات الهجوم الأميركي عشرين عاماً، فإن تنظيم "القاعدة" ما زال قائماً، ليس فقط على مستوى البنية الأساسية التي يُفترض أن يكون مقرها الرئيسي في باكستان، بل أيضاً على مستوى الفروع التابعة له في شمال أفريقيا والصومال واليمن وأماكن أخرى. ولا يزال لدى "داعش"، الذي انشق في الأساس عن "القاعدة"، آلافٌ من المقاتلين والفروع حتى الآن، في أماكن مختلفة مثل أفغانستان وموزمبيق ونيجيريا. وقدر المحلل السياسي بروس هوفمان أنه ما زال يوجد اليوم "على الأقل أربعة أضعاف عدد المنظمات الإرهابية المؤمنة بالسلفية الجهادية، مقارنةً بما كان الوضع عليه يوم الحادي عشر من سبتمبر". ومن شأن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، الذي سيترك وراءه بالتأكيد مساحاتٍ شاسعة غير خاضعة لأي حكومة، أن يؤدي كذلك إلى تعزيز وضع كل من تنظيمي "القاعدة" و"داعش".
وفيما تُعد عمليات مكافحة الإرهاب ضرورية، لكنها تبقى غير كافية للتعامل مع التهديد الذي تشكله الجماعات الجهادية أو المنظمات المتطرفة. فقد تمكنت "قيادة العمليات الخاصة الأميركية المشتركة" U.S. Joint Special Operations Command من قتل عددٍ من قادة الإرهابيين في العراق أو القبض عليهم في الفترة الممتدة ما بين عام 2003 وعام 2006، لكن الوضع العام في البلاد لم يشهد تغيراً إلا عندما لجأ الجنرال بترايوس إلى تطبيق استراتيجية شاملة لمكافحة التمرد تستدعي مقاربةً من ثلاث ركائز تُعرف بـ "الإخلاء، والحفظ، والبناء". ولا تقتصر هذه الاستراتيجية فقط على التخلص من معاقل المتمردين، بل الحرص أيضاً على فرض الأمن في تلك المناطق، وإحكام السيطرة عليها من خلال نشر قواتٍ متمركزة فيها على مدار الساعة، وطوال أيام الأسبوع، إضافةً إلى تقديم الدعم الحكومي اللازم لها، وتشمل أيضاً تنظيم حملةٍ تستهدف التواصل مع المتمردين السنة.
إن الحكومات هي في حاجةٍ اليوم إلى حملاتٍ مماثلة في الدول التي ينشط فيها إسلاميون عنيفون وجماعاتٌ متمردة أخرى. ومع ذلك، لا يمكن للقوات الأميركية وحدها تنفيذ هذا النوع من المهمات، بشكل حصري أو رئيسي. إذ يتعين على الولايات المتحدة التركيز على مد الجيوش والحكومات المتحالفة معها بالمساعدة التي تمكنها من التعامل مع التهديدات بنفسها.
"مكافحة التمرد" عقيدة ذات قيمة مستدامة تستدعي مواصلة تعليمها وتطبيقها
يُفترض أن تكون هذه المهمة من مسؤولية الفرق المدنية والعسكرية المؤلفة من مستشارين عسكريين إلى جانب ممثلي وكالات غير عسكرية مثل "وكالة الاستخبارات المركزية"، ووزارة الخارجية، ووزارة الزراعة، و"الوكالة الأميركية للتنمية الدولية". وما زال هناك عددٌ من هذه الإدارات المدنية التي تحتاج إلى بناء قدراتها وتطويرها للاضطلاع بدورٍ في تلك الجهود.
أما في ما يتعلق بالجانب العسكري، فترتكز العمليات المتمحورة حول تقديم المشورة والمساندة، على مجموعة المهارات الأساسية التي تمتاز بها القوات الخاصة التابعة للجيش (القبعات الخضر) Army Special Forces (The Green Berets) و"كتائب دعم قوى الأمن التابعة للجيش" Army Security Force Assistance Brigades (SFABs) التي تأسست حديثاً في عام 2018، وهي معدة لتعزيز قدرات الجيش الأميركي على تقديم المشورة للقوات الخارجية من دون تعطيل عمل الوحدات القتالية القائمة. ويصل عدد تلك الكتائب اليوم إلى ست - ينشط خمسٌ منها في الخدمة الميدانية، وتعمل الوحدة السادسة في "الحرس الوطني". وعلى غرار القوات الخاصة، تمتاز هذه الوحدات بتناسق عملياتها على المستوى الجغرافي، بحيث تغطي أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط ومنطقة المحيط الهادئ وأميركا الجنوبية.
هذا التخصص الجغرافي من شأنه أن يساعد "كتائب دعم قوى الأمن التابعة للجيش"، على تطوير خبراتها في المناطق التي توجد فيها، والحفاظ على الاستمرارية في عملياتها - وكلاهما يشكلان معاً توليفة حيوية وبالغة الأهمية في تنفيذ المهمات التي يعتمد نجاحها أو فشلها على كسب ثقة القوات العسكرية في الدول المضيفة. ويمكن لهذه الكتائب أيضاً أن تستفيد من المزايا التكنولوجية الأميركية المتفوقة - بما فيها الطائرات من دون طيار والذخائر دقيقة التوجيه - لمساعدة حلفاء الولايات المتحدة على محاربة الأعداء المشتركين بكلفةٍ منخفضة نسبياً، وبمخاطر أقل على القوات الأميركية.
وعلى الرغم من أن "عقيدة مكافحة التمرد" لن تكون بالمقدار نفسه من الأهمية بالنسبة إلى العمليات العسكرية الأميركية خلال العقدين المقبلين، كما كانت عليه في العقدين الأخيرين، لكنها تبقى عقيدةً ذات قيمة مستدامة يتعين مواصلة نشر مبادئها وتطبيقها. فبكل بساطة، ما من طريقة أخرى للقضاء على المعاقل الآمنة للإرهابيين، ما لم يكن الجيش الأميركي مستعداً للانخراط في عمليات الأرض المحروقة (كما فعلت روسيا في الشيشان)، ما يمثل في الواقع سياسة ممقوتة من جانب أنظمة ديمقراطية كالولايات المتحدة.
في الخلاصة، تبقى كلفة الإبقاء على عمليات مكافحة التمرد في الخارج بقيادة الولايات المتحدة، باهظة للغاية بالنسبة إلى الأميركيين. لكن لا يزال بإمكان واشنطن مساعدة حلفائها على تنفيذ مثل هذه المهمات، من خلال تقديم التوصيات والمساعدات عند الحاجة. وتُظهر تجربة أفغانستان أن "عقيدة مكافحة التمرد" يمكن أن تفشل بسهولة، كما يزعم منتقدو هذه المقاربة. إلا أنه على الرغم من ذلك، لا يوجد بعد بديلٌ مطروحٌ أفضل منها.
*ماكس بوت هو زميل بارز [باحث رفيع المستوى] في مركز جين جيه كيركباتريك لدراسات الأمن القومي في مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب "طريق لم يُسلك: إدوارد لانسديل والمأساة الأميركية في فيتنام".
@ مترجم من فورين أفيرز، 6/2021