Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المسرحي وجدي معوض يفضح مخاطر الشهرة الفنية

نصه الدرامي الجديد بالفرنسية كوميديا تسخر من آثار مجتمع الفرجة على الإبداع

الفرقة المسرحية الفرنسية على خشبة "تياتر دو لا كولين" (الخدمة الإعلامية للفرقة)

صحيح أن الشهرة الدولية التي اكتسبها اللبناني الفرانكفوني وجدي معوض تعود إلى جدارياته الملحمية، وفي مقدمها رباعيته المسرحية "دم الوعود"، لكن هذا لا يعني أن موهبته الفريدة ككاتب ومخرج مسرحي تقتصر على هذا النوع الأدبي، كما تشهد على ذلك رواياته الثلاث الرائعة ونصوصه المسرحية الغزيرة اللاحقة، وآخرها نص "الوفاة المبكرة لمغن شعبي في أوج عطائه" الذي لجأ فيه، للمرة الأولى، إلى الكوميديا العبثية لمساءلة وضع الفنان اليوم ومصانع الشهرة وسلبياتها. وحصد إخراجه على خشبة "مسرح لا كولين" الباريسي الذي يديره منذ 2016 نجاحاً كبيراً. النص صدر حديثاً عن دار "أكت سود" في مناسبة تقديمه قريباً في مهرجان "أفينيون"، ويشكل نقداً لاذعاً لمجتمع الفرجة ومحترفيه.

خلف هذا العمل المهم، ثمة فكرة اختصرها معوض على النحو الآتي: "خطأ طفيف لدى إطلاق مركبة فضائية يجعلها تنحرف آلاف الكيلومترات عن وجهتها ويرمي بها في الظلام الفلكي، نحو أقل المصائر احتمالاً. ومثلما تنطبق هذه الحقيقة على جميع المركبات الفضائية، تنطبق أيضاً على الأحلام والأفكار والبشر". وهذا ما يحصل لبطل مسرحيته، أليس، وهو مغن خمسيني ينعم بشهرة كبيرة بفضل شحنة التمرد التي كانت تلف أغانيه، لكنه يعاني من نضوب حماسة البدايات. في مطلع النص، نراه بعد واحدة من حفلاته محاطاً بناقد أتى لمحاورته، بمصور فوتوغرافي يريد التقاط بورتريه له لغلاف إحدى المجلات، وبملحقته الصحافية، وغير راض عن حفلته، لا بل غاضباً لكونه لم يعد يعرف من أصبح. هل هو آلة النجاح التي صنعها منه أولئك المحترفون في فبركة النجوم؟ هل تخلى عن أحلامه كي يصل إلى المكان الذي هو فيه حالياً؟ وما حدث لقناعات ومثل بداياته؟ هل خانها على مذبح الشهرة؟ خلال حواره مع الناقد المذكور، يظهر أليس قلقاً، مجرداً من الأوهام، وغير مكترث لما يحصل في العالم على المستوى السياسي والاجتماعي والبيئوي، ما يدفع الناقد إلى انتقاده بعنف في مقال يغرقه في حالة اكتئاب عميقة. 

انتحار وحلم

وماذا لو أن الحل الوحيد لرأب تصدعاته والعثور مجدداً على الفنان الذي كانه يكمن في قتل النجم الشهير الذي باته؟ انتحار إعلامي لا يلبث أن يتبدى كحلم من ضل طريقه ولم يعد قادراً على تمييز "أناه" داخل صورته. ولذلك، وبتحفيز من مدير أعماله السابق، يضع خطة تقتضي بالتظاهر بالموت من أجل جعل ألبومه الأخير يسجل رقماً قياسياً في مبيعاته، ثم العودة بعد عام مسلحاً بكل المديح الذي كاله النقاد له إثر هذه الوفاة المبكرة، للتنديد بصناعة الموسيقى ودور الإعلام، وفضح نتائج الكسب المادي الوخيمة على الفنان وشرك الشهرة الذي حطم أحلام شبابه المجنونة. لكن حين يضع هذه الخطة موضوع التنفيذ، لا تسير كما رسمها، إذ تنكشف الخدعة خلال جنازته بسبب حبة المنوم التي ابتلعها ولم تفعل مفعولها، ما جعله يستيقظ داخل نعشه المفتوح، باثاً الرعب في قلوب جميع الحاضرين. وكما لو أن ذلك لا يكفي، يفقد بصره من جراء الحبة المذكورة.

وبما أننا لا نتلاعب بمشاعر الآخرين من دون عقاب، حتى وإن كنا من المشاهير، لا يتحمل المقربون من أليس صدمة "عودته إلى الحياة"، فيديرون ظهورهم له، بينما يتعرض لعملية تمزيق منهجية في وسائل الإعلام. ولحسن حظه، يحظى برعاية معجبة كندية تدعى نانسي، عبرت المحيط الأطلسي لمتابعة جولته، فتحتضنه وترشده أثناء تيهه الليلي تحت المطر...

باختصار، يخط معوض في الجزء الأول من نصه بورتريهاً قارصاً لعالم الموسيقى، كاشفاً كواليسه، شكوك وإرهاق فنان في قمة مجده، بينما تتخذ عودة هذا الفنان إلى الحياة في الجزء الثاني طابعاً هزلياً، وتتدفق الرموز بطريقة تتناقض مع واقعية الجزء الأول، ويحل بحث روحي مكان إعياء أليس وسأمه، ينتهي بطقس سحري مزيف تنظمه نانسي بهدف العودة به إلى عالم الأحياء ورد إليه بصره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وسواء في الجزء الأول أو في الجزء الثاني، يزعزع معوض أعراف الفن المسرحي بغية تسليط الضوء على تلك الغريزة العميقة داخلنا التي تحثنا على تحريك الأشياء وعدم الاستسلام للرتابة القاتلة والسقوط في الاتباعية. وفي هذا السياق، وعلى طريقة كورس إغريقي، يمنح كل واحدة من شخصياته صوتاً من شأنه أن يغير مسار الأحداث بعمق، وفي مقدمها قائد الجوقة أليس الذي، بإخراجه عملية موته بنفسه، يغير ديناميكية دور البطل ومنطقه. تضحية ضرورية تسمح بالانحراف عن المخطط السردي التقليدي وبإلقاء مزيد من الضوء على الشخصيات غير النمطية والغنية بالألوان التي تحيط به: ديزل، ملحقته الصحافية، المرهقة بفعل طاقتها لكن المخلصة له؛ نانسي المليئة بالمحبة والكرم، والمعجبة به بشكل غير مشروط، وتبدو بأطوارها الغريبة وطرافتها الشخصية الأكثر جاذبية داخل النص؛ فوستان، مدير أعماله السابق، المصاب بخيبة أمل من مجتمع الفرجة التجاري والذي يحن بمرارة إلى حقبة موسيقى الـ"بانك" الثورية؛ المصورة الفوتوغرافية ماجدة، زوجة أليس الشابة، التي ولدت في فرنسا، لكن والدتها حبلت بها في مخيم صبرا الفلسطيني، في لبنان، عشية المجزرة، من دون أن ننسى التقنيين الذين يبقون عادة في الجانب المعتم من كل عرض فني، لكن بالدور الذي يؤدونه في عملية إخراج موت أليس، يحددون في لحظة ما قدره.

شخصيات تتصادم

بالتالي، "الوفاة المبكرة لمغن شعبي..." نص مسرحي على شكل إعصار يجعل شخصياته تتطاير داخل قصة تفلت منها وتتجاوزها، فتتصادم على طوله وتسحبنا وراءها بطاقتها الكبيرة. نص انبثق في الأساس من لقاء خصب بين صاحبه والمغني الفرنسي أرتور هيجلان، ونتلقاه كسردية قلق. قلق جيل تائه بسبب تخليه عن نقاط استدلاله. من هنا الأسئلة الوجودية الغزيرة التي تعبره، وأبرزها: كيف نتحرر من نظرة العالم التي تحددنا، وإن كانت كلفة ذلك فقداننا كل شيء؟ وكيف نستمر بعد خيانة قناعاتنا الأولى؟

وبموازاة تأمله في عملية الإبداع الفني والمخاطر التي تتهددها، يخصب معوض نصه بتلك الموضوعات الثابتة التي تتسلط عليه منذ بداية مسيرته، كالخيانة التي تطال هذه المرة المثل العليا لمرحلة الشباب، والفقدان المتمثل في النص بوفاة الجنين في أحشاء ديزل الذي يشكل استعارة للطفل المنسي الذي يحمله كل واحد منا داخله، والحلم بالسلام الموضوع بين يدي ماجدة التي ستقبل، على الرغم من وفائها لأصولها الفلسطينية، بعرض صورة فوتوغرافية لها في نيويورك، على مدخل معرض حول آلاف اليهود الذين رحلوا من مدينة درانسي الفرنسية إلى معسكرات الموت النازية، ومجزرة صبرا وشاتيلا ومذبحة الأرمن، وإن حضرتا بشكل خاطف.

موضوعات تتفرع بذكاء من الموضوع الرئيس ويلجأ معوض لمقاربتها جميعاً إلى لغة بلورية نابضة بالحياة وصائبة، إلى دعابة تارة سوداء وتارة بيضاء كنا نجهل أنه يملك حسها، وإلى موهبته السردية الفريدة التي تحملنا حتى الصفحة الأخيرة من نصه بخفة وإثارة نادرتين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة