Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لا يجتمع دين وسياسة

لو نظرنا إلى الفترة الذهبية التي يعتبرها الكثيرون كذلك، ونقصد بها حكم الخلفاء الراشدين، لما وجدنا خليفة كالآخر، سواء في وصوله إلى المنصب أو في طريقة إدارته لشؤون الحكم

نيكولو مكيافيلي بريشة سانتي دي تيتو

رحم الله الشيخ علي عبد الرازق (1888-1966)، وهو القائل في كتابه "الإسلام وأصول الحكم": ألتمس بين دفّتي المصحف الكريم أثراً ظاهراً أو خفياً لما يريدون أن يعتقدوا من صفة سياسية للدين الإسلامي ثم ألتمس ذلك الأثر مبلغ جهدك بين أحاديث النبي، صلّى الله عليه وسلّم. تلك منابع الدين الصافية في متناول يديك، وعلى كثب منك، فألتمس منها دليلاً أو شبه دليل، فإنك لن تجد عليها برهاناً إلا ظنّاً وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً (منشورات دار الحياة، 1978، ص 151). ويقول محدثكم هنا، في كتابه: "السياسة بين الحلال والحرام: أنتم أعلم بأمور دنياكم": "ان السلطة في الإسلام مبدأً وتاريخاً، لا بدّ وأن تكون مدنية التكوين، وإلا سقطنا، دون أن نشعر، في ثيوقراطية أوروبا في عصورها الوسطى. نعم السلطة واجبة، عقلاً ونقلاً، ولكن شكلها وكيفية ممارستها مسألة متروكة لجماعة المسلمين، حيث أنه لا عصمة بعد النبي، صلّى الله عليه وسلّم، إلا للجماعة (لا تجتمعوا أمّتي على ضلالة)، وليس لأيّ، مهما كانت منزلته". (السياسة بين الحلال والحرام. دار الساقي، الطبعة الخامسة، 2009، ص 69).

لا شك بأن السلطة، والسلطة السياسية تحديداً، هي من الأمور الواجبة في الإسلام، ولكن أن يكون الأمر كذلك لا يعني تحديد شكل أو مضمون معيّن لهذه السلطة، فهي خاضعة للظروف التاريخية وأحوال الناس في فترة من الفترات، ولو نظرنا إلى الفترة الذهبية التي يعتبرها الكثيرون كذلك، ونقصد بها حكم الخلفاء الراشدين، لما وجدنا خليفة كالآخر، سواء في وصوله إلى المنصب أو في طريقة إدارته لشؤون الحكم. قد يكون وصول الحاكم إلى منصبه عن طريق اختيار الجماعة، وقد يكون بالقوة القاهرة، وقد يكون ديمقراطياً أو حتى شمولياً، فإن الإسلام لم يحدّد شكلاً معيّناً لنظام الحكم، وإن حاول البعض إعطاء صيغة معيّنة لنظام الحكم في الإسلام بناء على هذا المفهوم أو ذاك، كمفهوم الشورى مثلاً، ولكن ليس هناك شكل محدّد لنظام الحكم في الإسلام، المهم أن يكون هنالك سلطة سياسية، أمّا شكلها فمتروك للظرف التاريخي والاجتماعي. ولا أدلّ على ذلك من أنّ كل أنظمة الحكم في تاريخ الإسلام، من دولة الخلافة الراشدة وحتى الدول المعاصرة من دول المسلمين، كلها تتبنّى الإسلام ديناً ولكنّها تمارس السياسة عملاً وواقعاً، فالسياسة في جوهرها هي فن الممكن وأفضل من عبّر عنها كما هي هو نيكولو مكيافيلي (1469-1527)، في كتابه "الأمير"، رغم لعنه ظاهراً والأخذ بكل ما قال به باطناً، ولا اختلاف في ذلك بين دولة مسلمين أو غير مسلمين، فالسياسة واحدة هنا وهناك تدور حول المصلحة في الداخل والخارج وغير ذلك هو مجرّد شعارات لا تعني في النهاية شيئاً. بل أنه حتى تلك الأحزاب والتيارات "الإسلامية"، التي لديها تصوّر معيّن عن شكل النظام السياسي الإسلامي، تمارس السياسة في النهاية بكلّ أبعادها، سواء وصلت إلى الحكم أو لم تصل إليه، وما الإخوان المسلمون مثلاً على المكيافيلية الصارخة التي يتبرأ منها الجميع.

يُؤثر عن عبد الملك بن مروان (646-705)، أنّه كان تقيّاً ورِعاً وكان يقرأ القرآن الكريم حين أتاه نبأ تولّيه الخلافة، فأطبق المصحف وقال: "هذا آخر العهد بك". وسواء صحّت هذه الرواية عن عبد الملك بن مروان أو لم تصحّ فإن المراد منها هو القول إن منطق السياسة يختلف عن منطق الدين، فالسياسة كما ذُكر آنفا تدور حول مصلحة الدولة وأمنها واستقرارها بكافة الوسائل، سواء السلميّة أو حتى استخدام العنف إذا لزم الأمر، فهو ما فعله الحجّاج بن يوسف الثقفي (661-714)، وكذلك أبو العبّاس عبدالله السفّاح (721-754)، وهما يوطّدان أركان الدولتين الأمويّة والعبّاسية على تلال من الجماجم البشريّة، وما هما إلا مثالاً على واقعيّة السياسة، حتى وإن شجبناها أخلاقياً، والأمر يتكرّر في كلّ مكان وزمان وُجد فيه البشر ومُورست فيه السياسة. أمّا الدين فمحوره يدور حول الفرد تحديداً، وجوهره يقوم على السمو بهذا الفرد أخلاقياً وروحياً، وما تسييس الدين وتديين السياسة إلا وسيلة من وسائل ممارسة السياسة، ولكنها لا تمُتّ لمنطق الدين وغاياته الإنسانية بأي وشيجة، والحديث النّبوي الشريف:" إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، يلخّص لنا بكل بلاغة هذا المنطق.

توظيف الدين كورقة سياسية أوردنا المهالك حقيقة، بل أنه أورثنا صدوعاً لا زلنا نعاني منها حتى اليوم، فمنذ يوم سقيفة بني ساعدة، بعد وفاة الرسول الأعظم وحتى يومنا هذا، كان اللجوء إلى الحجّة الدينية من أجل مآرب سياسية هو الوسيلة الأنجع للوصول إلى السلطة أو مغازلتها، وما معركة "صفّين" مثلا، وما أعقبها من حكاية التحكيم وخديعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري (رضوان الله عليهم جميعا)، إلا غيض من فيض على مدى تناقض منطق السياسة مع منطق الدين وهو التناقض الذي لا زلنا نعاني منه حتى اليوم. فداعش، والقاعدة والحوثيّون، وملالي إيران، وطالبان، والإخوان المسلمون، ناهيك عن الحركات الدينية السياسية في تاريخنا العربي الإسلامي، كلّ يدّعي وصلاً بالإسلام، وأنه صاحب التفسير الأوحد للدين، وبه أعني أخلاق النفس الداخليّة قبل سلوك النفس الخارجيّة، وبذلك شوّهنا الدين ولم نكسب السياسة. بل أنه حتى ما يُسمّى "بالصحوة"، وهي التي أضاعت من حياتنا عقوداً كان من الممكن أن تكون عقود رقيّ وازدهار، تلاعب بها الجميع من أجل أغراض سياسية، ورقة سياسية ليس إلا، وأقصد بذلك من نصّبوا من أنفسهم رموزاً لهذه الصحوة، أما الأتباع فقد كانوا على سجيّتهم، سحرهم البيان، وفجر معجزات جديد. بل أنه حتى الدول استغلّت هذه الصحوة (الغفوة) كورقة سياسية رابحة، بعد أن رأت أنّها، أي الصحوة، عبارة عن تيّار عام من الصعب، وكما سبق أن ذُكر، فإن منطق السياسة يفرض على الدولة أن تبحث عن مصلحتها، ومصلحتها فقط.

في ندوة متلفزة، سُئل أحد مشائخ الإخوان، وهو سلامة عبد القوي، من شخص ربما يأخذ بفتواه ويقتل السيسي، فيقول الشيخ إن قتل السيسي هو قربى لله عزّ وجلّ، وأنّ القاتل إذا قُتل فهو شهيد. ثم يضيف أنه لا يأتي بشيء من عنده، فهذا هو دين الله. هنا نرى تداخلاً واضحاً بين منطق الدين ومنطق السياسة، بل تناقض واضح بين المنطقين. فأن تُعارض السيسي، فهذا شأنك ولا مشاحة في ذلك، طالما بقيت المعارضة في حدود السلم والبعد عن العنف والتحريض، فهكذا تكون السياسة ومنطقها. أمّا أن يُعتبر قتل أحدهم، زعيماً كان أو غير ذلك، قربى إلى الله تعالى، فهذا أمر فيه إقحام قسري للدين في السياسة، لا يختلف كثيراً عن قتل عبد الرحمن بن ملجم لعلي بن أبي طالب، أو خالد الإسلامبولي قاتل السادات. متى ما استطعنا التفرقة بين الدين والسياسة، فإننا نكون أمسكنا بأوّل الطريق نحو الحياة، فما دخل الدين في السياسة (الصحوة مثلا) إلا كانت الكارثة، وما دخلت السياسة في الدين (الإخوان المسلمون مثلا)، إلا كان الفساد بعينه.

المزيد من آراء