بحلول يوم السبت الموافق 11 مايو (أيار)، يكون مرّ شهر على إزاحة الرئيس السابق عمر البشير عن الحكم، وعلى الرغم من نجاح المعارضة في دفع الجيش إلى التدخل لعزله، لا توجد بعد رؤية واضحة لشكل الحكومة العتيدة ومؤسسات الدولة بعد ثورة أبريل (نيسان) الماضي حتى الآن. ولم يتحرك الطرفان الممسكان بزمام الأمور في البلاد وهما "المجلس العسكري الانتقالي" الذي يدير الدولة، و"قوى الحرية والتغيير" التي تعبّر عن حركة المحتجين في الشارع، خطوةً متقدمة تساهم في الحل.
تشير الترجيحات إلى اتجاه الطرفين للتصعيد، العسكر عبر تمسكهم بالسلطة، والمعارضة لناحية الحشد وتعبئة الشارع. ويفاقم الخياران الأزمة الاقتصادية والسياسية التي يعشيها السودان منذ عهد البشير، كما أن تدهور قطاع الخدمات بدا واضحاً من خلال تكرار انقطاع المياه والكهرباء، وتردي الخدمات الصحية وندرة الأدوية.
كما أظهرت الأحداث الأخيرة عدم استفادة طرفي الصراع من تجارب "الربيع العربي" الذي شهدته بعض دول الإقليم ومن بينها دولتين مجاورتين للسودان هما مصر وليبيا.
تدهور الخدمات
يعيش السودان منذ شهر، وضعاً من التساهل في إحكام تطبيق القوانيين التي تنظم مسارات الحياة، وبدأت الأزمات في العودة بصورة معطِلة ومقيِّدة، إذ تعيش البلاد منذ العام الماضي أزمة محروقات حادة، وبات مألوفاً في الأسبوعين الماضيين، رؤية طوابير السيارات أمام محطات الوقود لساعات بغية التزود بالبنزين والغازولين. وتشهد أحياء في العاصمة الخرطوم انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي والمياه، إضافة إلى ندرة الأوراق المالية وصعوبة الحصول على السيولة من المصارف وماكينات الصرف الآلية. ونتيجةً لتدهور الأوضاع الاقتصادية، يعاني السودانيون من ندرةٍ في بعض الأدوية، بخاصة تلك المتعلقة بالأمراض المزمنة، مثل أدوية السكري والضغط، والمحاليل التي يتسخدمها مرضى الفشل الكلوي. أحد المواطنين قال إنه تعذر عليه خلال أربعة أيام، إدخال ابنه البالغ من العمر 17 سنة، إلى مركز لغسل الكلى، حيث توقفت غالبية المراكز المحيطة بهم في أحياء شرق الخرطوم، إما لعدم توفر أدوية مرضى الفشل الكلوي أو لانشغال غالبية ماكينات غسل الكلى". وأوضح "أخيراً وجدنا مركزاً للغسيل في الخرطوم بحري بعد دفعنا مبلغ مالي يقارب 70 دولار"، بعدما كانوا يتلقون تلك الخدمة مجاناً في مركز متوقف عن العمل حالياً.
على الجانب الآخر، يداوم بعض المواطنين في الاصطفاف أمام الأفران للحصول على رغيف الخبز، وهي أزمة مستمرة منذ أيام النظام السابق.
أزمات مفتعلة
قدمت دول عدة من بينها السعودية والإمارات في الأيام الماضية مساعدات مالية وعينية للسودان بلغت قيمتها 3 ملايين دولار، فيما قدمت مصر الأسبوع الماضي شحنة أدوية. و تكفي تلك المساعدات وفق مراقبين لضمان استقرار بعض الخدمات لمدة ثلاثة أشهر. وتعتبر غالبية السودانيين أن عناصر النظام السابق التي ما زالت تسيطر على مفاصل الدولة، تفتعل تلك الأزمات بهدف إثارة حال من التذمر بين المواطنين وترويج إشاعات، مفادها بأن مَن يديرون أجهزة الدولة من العسكريين غير مؤهلين، وأن المعارضة التي تطالب بنقل السلطة إليها هي أيضاً عاجزة عن وضع رؤى وحلول تعينها على الخروج من تلك الأزمات. ويختتم مؤيدو ذلك التحليل أن عناصر "الدولة العميقة" هي التي تتلاعب بمصير البلاد.
درس الربيع العربي
وكان النظام السابق يستخدم "فزاعة الربيع العربي" في الرد على دعاة الاحتجاجات. وسرت مخاوف من تحوّل السودان بعد استمرار الاحتجاج لأكثر من أربعة أشهر إلى النموذج الليبي أو السوري، بسبب وجود مناخات ملائمة لاندلاع نزاعات مسلحة، نظراً إلى وجود فصائل متمردة مسلحة في إقليم دارفور غرب البلاد، وولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، إضافة إلى انتشار السلاح في تلك الأقاليم، وبعض المدن الكبرى من بينها العاصمة الخرطوم. وكان هذا التخوف حاضراً أيضاً لدى نظام البشير الذي أطلق حملةً كبرى لجمع السلاح قبل نحو سنتين، بيد أنها تسببت في احتقانات قبلية.
وردد المعارضون السودانيون أن سيناريوهات الإنفلات الأمني بعيدة عن البلاد، نسبة لعوامل عدة من بينها التركيبة الاجتماعية للبلاد، وموقعها الجغرافي الذي يفتقر للتأثير الكبير في الخارطة الإقليمية والدولية، إذا ما قورن بدول شهدت حراكاً شعبياً مماثلاً، كمصر وليبيا وسوريا.
وشكّل العامل الأمني أحد أهم الدروس التي تعلمتها المعارضة السودانية باكراً، مستندةً أإلى إرث من الاحتجاجات الثورية التي نجحت لمرتين في النصف الأخير من القرن الماضي في تغيير أنظمة الحكم في السودان. كما تبنت المعارضة نهج السلمية وضبط النفس. وعلى الرغم من ارتفاع عدد قتلى الاحتجاجات حتى بعد سقوط نظام البشير إلى ما يفوق 90 قتيلاً، ظلت المعارضة تشدد على النهج السلمي حتى تحقق أهدافها السياسية وتجنب البلاد الانزلاق نحو نزاع مسلح.
تطمينات للجوار
وخلال إطلاقها الدعوات إلى تغيير نظام الحكم، نأت المعارضة السودانية بنفسها عن توجيه خطابات معادية لدول الجوار والمحيط الإقليمي، بخاصة تلك التي تضررت من نظام البشير. ويُعد ذلك أحد أهم دروس "الربيع العربي" التي تعلمها السودانيون باكراً، إذ أرسلت المعارضة رسائل تطمينية إلى دول الإقليم أكدت فيها أن السودان لن يتحول إلى بؤرة توتر جديدة. وكانت نتائج تلك الرسائل واضحة بعد سقوط البشير، إذ اعترفت غالبية الدولة العربية والمنظمات الإقليمية بنتيجة الحراك السلمي، داعيةً المجتمع الدولي إلى دعمه حتى يتسنى للسودان تحقيق انتقال ديمقراطي سلمي للسطة.
بناء المؤسسات
ورأى الصحافي عباس محمد إبراهيم أن أهم الدروس التي استفاد منها السودان هي "إعادة ترميم المجتمع المدني والنقابات، وذلك عبر تحركات تجمع المهنيين السودانيين، الذي استفاد من التجربة التونسية، في إعادة السلطة إلى الشعب عبر بناء مؤسسات شعبية تجنّب البلاد وقوع ثورات مضادة وأعمال التخريب التي يمكن أن يمارسها عناصر النظام السابق". وأضاف أن "الثورات المضادة تعمل على تفتيت الجبهة الداخلية وزرع الانقسام، ما يسهّل عليها إبعاد الكتلة القادرة على التأثير عن دائرة الفعل، بهدف إثارة البلبلة الاجتماعية والاقتصادية وتصويرها على أنها إحدى النتائج الحتمية للثورة. ومن هنا تبدأ سيطرة الثورة المضادة".
وأشار إبراهيم إلى أن "الربيع العربي أخّر الثورة السودانية التي بدأت من العام 2008، وأخذت تتصاعد وكان من الممكن أن تصل إلى نتائج بعد انفصال دولة جنوب السودان في العام 2011، لكن صعود الثورات في بعض الدول المجاورة أخّرها... الآن لدينا وعي تام من خلال مشاهدة نماذج الدول التي ثارت، والاستفادة من الأخطاء التي وقعت فيها، ومنها المعالجات السريعة للأوضاع السياسية. وتمثل ذلك في استمرار الاعتصام أمام مقر الجيش في الخرطوم على الرغم من عزل البشير. يُعد الاعتصام أحد دروس الربيع المتمثلة في حفاظ الشارع على ما حققه من خلال احتجاجه، كي نتجنب ما حدث في بعض الدول من التفافٍ حول المطالب".