Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيليب الثاني كما رسمه "تيسيانو" ورافقه منذ الصبا حتى النهاية

العلاقة الأطول في تاريخ الرعاية الفنية والدروب التي فتحتها

الملك فيليب الثاني بريشة تيسيانو (متحف ألبرادو في مدريد)

في واحدة من دراساته المرجعية والعديدة عن الرسام الإسباني دييغو بيلاسكويث، وهي الدراسات التي جعلت منه أكثر دارسي الفن الإسباني وفن صاحب "لاس مينيناس" بالذات شهرة وموثوقية في العالم، يقول الأميركي جوناثان براون إن رسام البندقية الإيطالي الأشهر تيسيانو كان هو الذي فتح الباب أمام نوع جديد من العلاقة بين أصحاب السلطة وأصحاب الريشة واللون، وكان ذلك التأكيد لمناسبة معرض أقيم عام 1999 في مدريد حول فن بيلاسكويث وروبنز وفان دايك في علاقة هذا الثلاثي بالسلطة والانتقال العظيم الذي أحدثوه من عالم الرسم الديني إلى عالم الرسم الذي يتخذ من الملوك موضوعاً له في العقود التالية على عصر النهضة.

من مهد الطريق؟

في تلك الدراسة يقول براون إن أولئك الفنانين الثلاثة ما كان من شأنهم أن يحققوا ذلك الانتقال بكل وضوح وموضوعية لولا أن فاسيلو تيسيانو كان سبقهم إلى ذلك وفتح لهم الطريق، بالتالي فإن لهذا الأخير ديناً ليس على هذا الثلاثي الأعظم في فن رسم البورتريهات الملكية، بل كذلك على الملوك أنفسهم، إذ سهل عليهم مهمتهم في "إقناع" كبار الرسامين برسمهم، لكن تيسيانو لم يقتصر طبعاً على رسم الشخصيات البارزة في مدينة البندقية ولا في غيرها من المدن في إيطاليا وطنه، بل هو تجاوز ذلك لينهمك، ولا سيما في السنوات الأخيرة من حياته في رسم ملوك فرنسيين، فرانسوا ملك فرنسا مثلاً، ولكن خاصة اثنين من كبار الملوك الإسبان شارلكان، ثم ولي عهده وخليفته فيليب الثاني. وفيليب الثاني الذي خلف شارلكان يعتبر من أطول ملوك إسبانيا حكماً، وهو نفسه الذي توسعت في عهده حدود إسبانيا وممتلكاتها في أنحاء عديدة حول العالم، ولا سيما في القارة الأميركية إضافة إلى توسع بحريته في الجنوب الآسيوي إلى درجة أن المنطقة التي تعرف اليوم بدولة الفيليبين إنما سميت على اسمه يوم كانت مستعمرة إسبانية. ولم يكن من الصدفة أن يخص المؤرخ الفرنسي الكبير فرنان بروديل هذا الملك وعهده بكتابه العمدة الضخم حول "البحر الأبيض المتوسط في عهد فيليب الثاني"، غير أن ليس هذا ما يهمنا هنا، بل تلك العلاقة الطويلة التي قامت بين تيسيانو وفيليب الثاني، والتي تعتبر عادة أطول علاقة قامت بين ملك وفنان على مدى التاريخ، ناهيك بأن عمق منتوجهاً الفني كان الإشارة التي فتحت الأبواب أمام علاقات عميقة ومجدية قامت دائماً بين رؤوس السلطة وكبار المبدعين وأمام هؤلاء وأولئك مثال تيسيانو الذي يمكن دائماً الرجوع إليه.

ذلك الملك الهادئ

إذاً، خلال المرحلة الأخيرة من حياته وحين كان تيسيانو يمارس الرسم والدبلوماسية كما سيسير على خطاه روبنز لاحقاً، كاد تيسيانو يكون متفرغاً لرسم فيليب الثاني وأفراد أسرة هذا الأخير في لوحات حفظت للأزمان التالية كتحف فنية رائعة، بل أحياناً كنوع من "دراسات سيكولوجية" لأحوال ذلك الملك الذي لئن كان استثنائياً في التاريخ الإسباني، فإن ريشة تيسيانو وألوانه جعلته يبدو كإنسان هادئ متأمل، بل كمثقف من نوع خاص. والحال أنه حتى من قبل أن يصبح ولي عهد شارلكان ملكاً على إسبانيا وتوابعها كان تيسيانو قد تعرف عليه وهو بعد في شرخ شبابه من خلال انكباب الرسام البندقي على رسم الملك الأب.

لقاءان حاسمان

خلال حياة شارلكان تقول سيرة تيسيانو إنه كان قد التقى الأمير الشاب مرتين على الأقل أنتج كل لقاء منهما بضع لوحات برزت من بينها في كل مرة تحفة فنية صورت من سيدعى لاحقاً فيليب الثاني وهو بعد في أول شبابه. وكان اللقاء الأول في ميلانو الإيطالية التي زارها ولي العهد الشاب بين أواخر عام 1548 وبدايات العام التالي له، أما اللقاء الثاني فحدث في آوغسبورغ بعد اللقاء الأول بعامين. لقد أتاح اللقاءان للرسام أن ينجز سلسلة لوحات للأمير الشاب، ولكن كذلك أن يرتبط معه بتلك الرعاية التي جعلته ما إن ارتقى الملك الشاب العرش بعد تنازل أبيه له يرتبط به ذلك الرباط الذي سيدوم حتى آخر حياة تيسيانو الذي لم يكن غريباً أنه ومنذ بداية الارتباط تفهم توجهات فيليب الجمالية فأهداه مجموعة من لوحات أخرى أنجزها انطلاقاً من قراءتهما العميقة والمشتركة لأشعار اللاتيني أوفيد، ناهيك بأنه أهداه مجموعة من رسوم تخلد انتصاره في معركة ليبانتي التي أوقفت الزحف العثماني على القسم الغربي من البحر الأبيض المتوسط مسجلة دخول فيليب التاريخ كـ"منقذ لأوروبا" وكواحد من كبار سادة هذا التاريخ.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سيكولوجية ملك المستقبل

والحقيقة أن من يتأمل اللوحتين الأوليين اللتين رسمهما تيسيانو للأمير الشاب قبل أن يصبح ملكاً وانطلاقاً من اللقاءين المبكرين الأولين بينهما: لقاء ميلانو ولقاء آوغسبورغ، يمكنه أن يلتقط ما يمكننا اعتباره ملامح العظمة المبكرة التي لمحها تيسيانو ليس فقط في سمات "صديقه" الجديد الشاب، ولكن كذلك في وقفته كما في المناخ الذي أحاط به الرسام إطلالة ملك المستقبل. ففي لوحة ميلانو التي أنجزت عام 1549، ويبلغ ارتفاعها أكثر من 183 سم، وعرضها أكثر من متر يقف فيليب مستبقاً وقفة ملك واثق من مكانته ومهامه مرتدياً ثياباً ملوكية في غاية الأناقة ويحمل في الغمد سيفاً وقفازاته بيده فيما يحيط عنقه بسلسلة تحمل أرفع أوسمة الدولة. أما نظرته فتصل إلى البعيد في تأمل عميق.

قلق بداية الأزمنة الجديدة

أما اللوحة الثانية التي نتجت عن لقاء آوغسبورغ، والتي أنجزت مباشرة قبل اقتران فيليب بماري تيودور ملكة إنجلترا عام 1554، بالتالي قبل فترة يسيرة من خلافته أبيه، والبالغ ارتفاعها أقل من مئة وعشرة سنتيمترات وعرضها أكثر قليلاً من 92 سم (وهي معلقة اليوم في متحف "سنسناتي آرت ميوزيوم الأميركي"، فيما الأولى معلقة في رواق بالاتينا بقصر بيتي الإيطالي)، اللوحة الثانية تحمل نفس الحس التأملي، لكنها على الرغم من خلفيتها الملوكية هي الأخرى، ترينا الأمير أقل ثقة بنفسه، حيث يبدو وكأنه يتحسب للمرحلة المقبلة من حياته في سنوات كان من الواضح أنها ستشهد النقلة الكبرى في تلك الحياة. إن ثمة قلقاً ما ههنا على الرغم من أن أناقة الأمير لا تزال هي هي، والبيئة المكانية التي اختارها له الرسام تبدو ملوكية حتى وإن كانت صلابة العمود في اللوحة الأولى قد استبدلت هنا بما يبدو أقل تماسكاً على الرغم من تلوينه الأرابيسك الجميل. ولا بد أن نتنبه إلى أن الأمير الشاب هنا يضع تاج ملك على رأسه، ويبالغ في إظهار العقد الرمزي حول عنقه كما أن الصولجان في يده اليمنى، ما يجعل اللوحة، غير المكتملة تماماً في رأي كثير من الخبراء، تبدو وكأنها "بروفة عامة" تحضيرا للوحة مقبلة تصور فيليب الثاني وقد أضحى ملكاً بالفعل. ولئن كانت هذه اللوحة تمهيداً لتالية لها من المؤسف أن تلك التالية لا تزال مفقودة حتى اليوم.

الرسام والسلطة في معرض جامع

ولعل ما هو جدير بالذكر أخيراً في هذا السياق، هو أن السنوات التي أمضاها تيسيانو في خدمة مولاه فيليب الثاني، لم يضيعها تاريخ الفن هباءً ولم يتناساها، بل اعتبرها علامة فارقة في مجال ربط تاريخ تيسيانو بمسألة السلطة، ومن هنا لم يكن غريباً أو مستهجناً أن يقيم متحف قصر لوكسمبورغ وسط العاصمة الفرنسية عام 2005، أي بعد سنوات من المعرض المدريدي الذي تحدثنا عنه أول هذا الكلام وبعد سنوات من ظهور دراسة جوناثان براون التي انطلقنا منها في هذا الحديث، معرضاً تحت عنوان "تيسيانو أمام السلطة" ضم العدد الأكبر من اللوحات التي رسمها تيسيانو ليس لشارلكان وفيليب الثاني فقط، بل كذلك لعدد كبير من أركان السلطتين السياسية والدينية في إيطاليا وإسبانيا، وكان معرضاً مثيراً فتح المجال واسعاً من جديد للتعمق البحثي والتاريخي في العلاقة الغريبة المضطربة أحياناً والمثمرة غالباً التي قامت بين المبدعين والسلطة على مر الأزمان.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة