Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جذور "وول ستريت" و"سيليكون فالي" في مسرح كليفورد أوديتس

"الفتى الذهب" الصراع بين المادة والروح على خلفية الحلم الأميركي

المسرحي الأميركي الراحل  كليفورد أوديتس  (موقع غيتي)

تقول لنا سيرة حياة الكاتب الأميركي كليفورد أوديتس أنه حين استدعي العام 1952، أي في ذروة الحملة المكارثية، من قبل لجنة النشاطات المناهضة لأميركا، للاستماع إلى شهادته ومعرفة ما إذا كان سبق له، أو لا يزال حتى الآن، منتمياً إلى الحزب الشيوعي، استجاب الكاتب ليعلن بكل وضوح أنه بالفعل انتمى إلى ذلك الحزب عام 1934، ثم عاد وتركه بعد عام واحد إذ تبين له أن مسؤولي الحزب يريدون منه أن يُخضع كتاباته لقواعد أيديولوجية محددة، وهو أمر ما كان في إمكانه أن يتجاوب معه على الإطلاق بوصفه مبدعاً، فـ"الإبداع يتناقض في جوهره مع أي قواعد أيديولوجية ملزمة"، بحسب أوديتس.

البحث عن أخلاق ما

والحقيقة أن ذلك العام الذي أمضاه أوديتس، بحسب إقراره، عضواً في الحزب الشيوعي الأميركي، يتطابق مع تاريخ كتابة مسرحيته الأشهر "في انتظار ليفتي" وتقديمها من قبل فرقة "غروب ثياتر"، الفرقة المسرحية التي اشتهرت في تاريخ الفنون الأميركية بكونها مهد الفن المسرحي اليساري الذي أنتج عدداً كبيراً من الممثلين والمخرجين والكتاب، الذين سيكونون لاحقاً هدفاً للجنة المكارثية. ومن أبرزهم، إلى أوديتس، المخرج المسرحي ثم السينمائي إيليا كازان، وبالتالي فإن "في انتظار ليفتي" كانت العمل الذي على أساسه استدعي أوديتس للتحقيق معه. ومن اللافت أن عدداً من النقاد والكتاب الذين دافعوا عنه كتبوا مطولات حينها حول نزعة فكرية لديه "عرفت دائماً كيف تنصر النزعة الروحية على نظيرتها المادية"، مستشهدين في هذا خاصة بواحدة من أكثر مسرحياته شعبية وهي "الفتى الذهب" التي كتبها وقُدمت مباشرة بعد "في انتظار ليفتي" وبدا فيها واضحاً، بحسب أولئك المدافعين كيف أن الكاتب يعود إلى القيم الأخلاقية على حساب النزعة المادية.

من المادة إلى الروح

والحقيقة أن "الفتى الذهب" يمكن اعتبارها نقيض "في انتظار ليفتي" من الناحية الفكرية، حتى وإن كانت هذه الأخيرة تعتبر دائماً العلامة الفارقة في ذلك النشاط المسرحي الأميركي الذي تفاقم في زمن الركود الاقتصادي القاتل الذي طاول الولايات المتحدة طوال السنوات الأولى من ثلاثينيات القرن الـ 20، وتزامن مع وصول الرئيس روزفلت إلى السلطة.

ولعل اللافت في ذلك كله هو أن الحركة المسرحية الأميركية، لا سيما في نيويورك، عرفت خلال تلك السنوات نشاطاً فكرياً يسارياً، لم يضاهيه في يساريته أي نشاط فني آخر في العالم، وكان ذلك في وقت راح فيه الزعيم السوفياتي ستالين يحاكم اليساريين في موسكو ويقتلهم وينفيهم أو في أحس الأحوال يكتفي بسجنهم. هي على أي حال فترة غامضة وغريبة في تاريخ الفن الأميركي، من اللافت أنها لم تدرس حقاً، إلا على ضوء موقف المكاراثيين منها لاحقاً. ولكن من اللافت أيضاً أن معظم أقطابها انتقلوا من الدعوة إلى الحلول اليسارية إلى نوع من فكر يحمل في ثناياه فكراً ليبرالياً يتسم بروحية عالية مناهضة، ليس فقط للنزعة المادية التي راحت تخبو بل خاصة لأوهام الحلم الأميركي، ولعل الفتى الذهب تغوص في هذا الفكر حتى أعماقه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جذور الفتيان الذهب

وقبل التوقف عند هذه المسرحية، لا بد من الإشارة إلى أن عنوانها الذي كان من ابتكار أوديتس نفسه سيكون هو في الثمانينيات من القرن الـ 20 رمزاً للتوصيف الذي سوف يُسبغ على العدد الأكبر من الشباب الأميركيين الذين، لا سيما في مؤسسات وول ستريت كما في سيليكون فالي وغيرهما من حصون الليبرالية الأميركية الاقتصادية الجديدة، سيصنعون ذلك العالم الحديث الذي يقوم على المعلوماتية والعولمة والأرقام، ولكن في الحقبة التي تدور فيها أحداث مسرحية أوديتس كان التوصيف لا يزال وقفاً على لعبة النجاح الاجتماعي الساعية إلى ذلك الحلم الأميركي الشهير القائم على النجاح بأي ثمن بخاصة إذا كان الثمن أحلام المرء.

بين الموسيقى والملاكمة

تدور "الفتى الذهب" حول الشاب الأميركي من أصل إيطالي جو بونابارتي الذي يحلم منذ صباه بأن يكون موسيقياً كبيراً من خلال إتقانه البارع للعزف على آلة الكمان، ومن هنا لا يكون من الغريب أن يشتري له أبوه المؤمن بموهبته كماناً فاخراً يريد تقديمه له في عيد مولده الـ 21، ولكن الأب قبل أن يفعل يعلم من خلال ابن آخر له أن جواً مزمعاً على خوض مباراة في الملاكمة يعتقد أنها ستكون أكثر ربحاً له من عزفه على الكمان. كان لسان حال جو يقول، فلنحقق مكسباً مالياً من الملاكمة كمباراة وكمراهنات، وبعد ذلك نتفرغ للعزف، لكن الذي يحدث هو أن جو ينجح في الملاكمة بحيث ما إن يمر شهران حتى ويكون قد غاص فيها ونحّى الموسيقى من حياته، وكل ذلك تحت رعاية متعهد للمباريات في مناخ يشبه حروب العصابات وكواليسها، ولكن ما العمل وجو قد بات جزءاً من تلك الألاعيب والمناورات؟ مهما يكن، ها هو أبوه يقدم له آلة الكمان بعد شهرين من تلك البداية لعلها تغريه بالعودة للموسيقى، وبالفعل يعزف جو بمهارة فائقة، لكنه يسخر من "سذاجته" ويطلب من أبيه إعادة الكمان إلى البائع. لقد اختار مصيره وها هو يتوجه الآن في جولة مباريات شديدة القسوة.

إعادة جو إلى الديار

بعد ذلك بستة أشهر كانت مسيرة جو في الملاكمة قد وصلت إلى أقصى درجات النجاح، مما يدفع رجل عصابات معروف إلى الانضمام للمجموعة كشريك في وقت يرى فيه المتعهد مودي أن النجاح بدأ يفقد جو صوابه، فيطلب من فتاته لورنا أن تتحدث إلى البطل لتخفف من غلوائه، وهي حين تفعل تدرك أنها باتت متعلقة بجو وأنه هو الآخر يبادلها عواطفها، وتحت تأثير هذا الشعور الجديد يبدأ نوع من الوهن يعتصر جو الذي حتى وإن كان سينتصر بعد حين على خصم له في مباراة تالية، لا يتمالك نفسه عن توجيه ضربة قاتلة للخصم تضرّ بطريقها بقبضته، جاعلة منه عاجزاً عن مداعبة أي حلم بأن يعود ليعزف على الكمان بعد ذلك، فهو الآن ملاكم وحسب، وملاكم شرس أيضاً، إذ بات في لكماته لا يحاول أن ينتصر على منافسيه وحسب، بل يسعى إلى إيذائهم وهو ما تأخذه عليه لورنا التي تقطع معه وتعود إلى مودي، معتبرة أن جو قد أضحى مجرد قاتل باحث عن الربح والمادة لا أكثر، ويؤثر هذا كله في جو الذي يعتبر أنه قد خسر الآن حقاً كل معاركه وما عاش من أجله، وفي المشهد الأخير الذي يدور في بيت السيد بونابارتي والد جو، وفيما يكون الجميع في انتظار وصول هذا الأخير مع لورنا يصل إليهم خبر موت جو ولورنا في حادثة اصطدام، وتنتهي المسرحية على الأب وهو يقول إن الوقت قد حان الآن لإعادة جو إلى الديار!

كثر يفضلونها

تحمل "الفتى الذهب" الرقم خمسة بين مسرحيات أوديتس، لكنها تعتبر من أنجح مسرحياته جماهيرياً، وكذلك كان نجاحها كبيراً حين حولت عام 1939 فيلماً من تمثيل ويليام هولدن، ثم عام 1964 مسرحية غنائية من بطولة سامي دايفيس.

 ولا بد من أن نشير هنا أخيراً إلى أنها المسرحية التي كتب الناقد جون غانستر بصددها أن كاتبها كان حدثاً مهماً في تاريخ المسرح الأميركي، وحتى إذ لا تزال "في انتظار ليفتي" تعتبر مسرحيته المرجعية حتى اليوم، فإن كثراً يفضلون عليها أعمالاً أخرى للكاتب مثل "الفتى الذهب" و"شجرة الدراق المثمرة" أو "فتاة الريف"، ولا بد من أن نذكر هنا أن أوديتس، الليتواني الأصل المولود في فيلادلفيا، كان واحداً من أولئك الكتاب الذين عرفت هوليوود كيف تجتذبهم ذات مرحلة، لكنهم أخفقوا في أن يتماهوا معها فدمرتهم، وهو ما عبر عنه في واحدة من آخر مسرحياته "السكين الكبيرة" (1949).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة