Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تجريبية رواية "الملف 42" توقع القارئ في متاهة معقدة

الروائي المغربي عبدالمجيد سباطة يخلط الشخصيات والأزمنة والأمكنة ويفقد الخيط الجامع

لوحة للرسام المغربي ماحي بنبين (صفحة الرسام على فيسبوك)

يقدم الكاتب المغربي الشاب عبدالمجيد سباطة روايته الثالثة بعنوان "الملف 42" (المركز الثقافي العربي 2021)، وهو عمل ضخم يربو على 400 صفحة، ويجسد بوضوح ثقافة صاحبه الواسعة وجهده الفكري وتعمق قراءاته الأدبية، ويتمكن قارئ هذه الرواية التي بلغت القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية (البوكر 2021) من معاينة اطلاع سباطة الواسع على الحركة الروائية العالمية ولو ظاهراً أو شكلاً، فكل فصل يملك عنواناً هو عنوان عمل أدبي عالمي، وكل فصل يتقدمه قول يعود لكاتب أو لشاعر بطريقة تجعل العنوان والمقولة والفصل على خط واحد.

ولعل ثراء هذه الرواية على صعيد المواضيع والأساليب الروائية المعتمدة يجعلها مجددة أو محدثة وفريدة من نوعها، فقد استعان الكاتب بعدد من الفنون ليسرع تقدم السرد، فوقع القارئ بين فصل وآخر على خبر من جريدة مثلاً أو إيميل أو بنود عقد أو مقتطف من رواية أو مقطع من فيديو أو مختارات من رسالة أو حتى إعلانات من الجرائد... إلخ، توسل الكاتب أساليب متعددة أسهمت في إثراء هذا العمل، وجعلته محفوفاً بما لم يستعن به روائي عربي معاصر آخر.

أنفاس القارئ

على الرغم من أن التجريب والتجديد في الأساليب الفنية أمر مفيد ومستحسن في الرواية العربية المعاصرة بشكل عام، إنما تبرز للأسف مواضع ضعف في هذا العمل الروائي لا يمكن غض الطرف عنها، فيلاحظ القارئ مثلاً ومنذ اللحظة الأولى أن الشخصيات كلها مثقفة، الشخصيات كلها تقرأ الكتب نفسها وتوظف في حوارها اقتباسات أدبية وعودات إلى روائع معينة النادل والشرطي والسجان وسائق التاكسي والقاتل الروسي والأصدقاء جميعهم من القراء، وهو أمر يخالف المنطق العام للأمور، حتى إن الخادم في الفندق هو طالب دكتوراه يصبح له دور مهم في الرواية وتقدم السرد، فذكاؤه وسرعة بديهته لا مثيل لهما، ويتمكن من أن يربط بين أمور غير بديهية بتاتاً ليحل الألغاز، حتى إنه يربط بين كاتب مجهول الهوية وحادثة اختفاء أستاذ رياضيات بسرعة وسهولة غير ممكنة فيقول، "سنة 1988 لم أضع في حسباني احتمال تناول الرواية لجريمة حقيقية، لكنني عثرت وقتها على قصاصة صحيفة قديمة عندما أردتُ التخلص من كومة جرائد تركها أحد موظفي دار النشر" (ص 210).

 

 

يُضاف إلى ذلك أن حل الألغاز في هذه الرواية سريع بشكل غير منطقي، فيُحرق الكاتب مراحل سردية جميلة ومشوقة، كما أنه يجد دوماً حلولاً غير متوقعة وغير منتمية إلى الفضاء السردي الذي يبنيه لقارئه، فيجد القارئ نفسه أمام وتيرة في السرد ترصف الحبكة فوق الأخرى بوتيرة سريعة تمحو وجود الوصف أو الرجعات إلى الوراء (flashback)، فلا يملك القارئ الوقت ليكتشف الشخصيات أو يكون رأيه فيها، أو أن يتعلق بها حتى، فالقصص متشابكة كثيرة، ولم يكن من الضروري جمعها كلها ضمن عمل واحد.

قصص وفنون

قصص كثيرة تمزج فنوناً سردية كثيرة وأنواعاً روائية متعددة تسرع السرد وتعقده، فهناك أدب السجون والأدب البوليسي والرواية الواقعية والرواية المشوقة والمذكرات وهي أنواع (genres romanesques) مختلفة لم يكن من الضروري أو المفيد جمعها على خط سردي واحد.

إن الكم الهائل من القصص الفرعية أو حتى الأساسية المتوازية التي كان يمكن أن تُوسع وتُوظف بطريقة متماسكة ومترابطة أكثر جعل السرد سريعاً وسطحياً، فلا نعرف شيئاً عن الشخصيات لا ماضيها ولا ذكرياتها ولا خصالها، لا قصص حبها ولا مشاعرها ولا حتى كثافتها العاطفية. إن كثرة القصص محت عامل الوصف المثري للسرد في العمل الأدبي عموماً.

ويلاحظ القارئ أن لا وحدة في الحبكة السردية، فهناك على الأقل خمس حبكات متوازية متراصفة يجب التركيز عليها. هناك قصة الكاتبة الأميركية كريستينا التي تحاول كتابة رواية "خارج العلبة" فتسافر إلى المغرب، وهناك قصة لغز والد الكاتبة الأميركية وقضية تجارة الزيوت السامة في خمسينيات القرن الـ 20، وهناك قصة أحجية الرواية وأبطالها التي يعمل عليها رشيد، وهناك قصة البحث عن هوية صاحب الرواية المجهولة وارتباط حياته بأستاذ الرياضيات الذي يملك هو الآخر قصة وخيوطاً سردية، ولا ننسى من ناحية أخرى وجود قصة المغربي زهير بلقاسم الذي اعتدى على الخادمة الفقيرة وهرب إلى روسيا حيث سُجن من بعد عملية اختطاف جماعي تعرض لها.

قصة زهير ووالده وعشيقاته وحادثة وفاته، وقصة القاتل الروسي الذي يثير الرعب في إحدى الحدائق العامة في روسيا والذي تُلبس السلطات الروسية جرائمه لزهير، كلها حبال سردية لفضاء روائي ثان مختلف ولا مبرر لوجوده في الرواية الأولى بتاتاً.

 

قضايا إنسانية واجتماعية رهيبة يُدخلها الكاتب في دوامة سريعة، تحول الرواية إلى مجموعة روايات متداخلة يتطلب التركيز على تفاصيلها مجهوداً هائلاً، وقضايا اجتماعية كان يمكن أن يُسلط الضوء عليها بشكل أفضل لو تروت وتيرة السرد مقداراً يسيراً.

غياب الخط السردي الواقعي

يتوقع كل قارئ أن تكون الرواية قائمة على زمان ومكان وشخصيات وحبكة يتلاعب بها الكاتب ويحملها ما يشاء من قضايا اجتماعية وهموم إنسانية، لكن قارئ "الملف 42" يلاحظ غياب الحبكة الواحدة والمكان الواحد والزمان الواحد، وهذه سمة من سمات الرواية التجريبية، فينتقل الكاتب من العام 1955 إلى العام 1988 فالعام 2002 ، ومن بعده يتوقف عند العام 2006 لينتهي السرد في العام 2009، وذلك في فصول تتواتر الأحداث داخلها ضمن هذه التواريخ المختلفة، وكذلك يختلف المكان باختلاف الفصل فيتم القفز السردي بين المغرب وروسيا والولايات المتحدة الأميركية وأخيراً فرنسا، بشكل سريع لا يتوقف بالضرورة عند الأماكن وخصائصها السردية أو الوصفية.

تعدد الأماكن والأزمنة والحبكات والأساليب الموظفة جعل من القضايا الأخرى ضبابية، فعالج عبدالمجيد سباطة الفساد والفقر واللامساواة الاجتماعية واستضعاف الفقراء والعبودية والعنصرية ضد النساء والأنظمة الديكتاتورية، وقضية الزيوت السامة في خمسينيات القرن الـ 20 في المغرب. طرق الكاتب أدب السجون من دون أن يتعمق في الديكتاتورية والفساد والاستبداد والبؤس والألم والوجع واليأس، وطرق الفقر من دون أن يصف الحرمان والجوع والعجز والضعف وطرق الخيانة والكذب، ولم يتعمق في أي منها بطريقة تجعل القارئ مشاركاً.

أما المشكلة الكبرى التي يعانيها هذا العمل فهي الصدف السردية المغرقة في المبالغة، وقد تحضر الكاتب اللبيب المثقف لهذا النقد نتيجة لقراءاته الكثيرة لا محالة، فأورد في نصه وفي مواضع متعددة ما معناه، "أليس روائياً ومن حقه أن يفعل بحبكته ما يريد؟" (ص 246)، أو مثلاً "عندما يقودك القدر إلى حيث يريد هو تُدرك أن بعض الممتعضين من وجود الصدف في الحبكات الروائية لم يخبروا الحياة جيداً" (ص167).

صدف سطحية

إن الصدف الروائية في هذه الرواية تبسط السرد وتجعل الحل سطحياً بسيطاً، فالكاتبة كريستينا الآتية من الولايات المتحدة الأميركية تختار فندقاً يعمل فيه طالب الدكتوراه رشيد الذي اختار أن يعمل بالتحديد على رواية واحدة محددة يرد فيها اسم والد كريستينا، فتقرأ كريستينا الأميركية الرواية هي التي تتقن الفرنسية، وتتمكن من قراءة العمل في غضون ساعات، ثم تلتقي خيوط السرد بحبكة بوليسية بسيطة جداً، تلعب فيها الصدف الدور الأكبر، فكيف تم الربط بين كاتب مجهول الهوية وأستاذ رياضيات عبر مقالة صادف وقرأها طالب الدكتوراه ذات يوم منذ سنوات؟ كيف تم إيجاد كاتب الرواية المغربية عبر مذكرات طبيبة أجنبية لا نعلم عنها الكثير؟ كيف تم العثور على حبيبة الكاتب المجهول من خلال تفاصيل غامضة قدمها ناشر مسنّ؟ كيف هرب زهير من السجن الروسي في لقائه صديقه منذ سنوات الدراسة الجامعية؟ كيف التقت شخصية السجين الهارب من روسيا بالكاتب عندما نسي الكاتب حقيبته في سيارة الأجرة، فبحث زهير الآتي من روسيا عنه في مكتبة صادف أن الكاتب يزورها بشكل دائم؟ كيف حُلت مسألة القاتل الروسي؟ حلها زهير قبل الآخرين بالعودة إلى عمل روائي وإلى الشطرنج. كيف التقت كريستينا برشيد مجدداً في فرنسا، حيث لها أخ لم تكن تعرف بوجوده وهو مقيم هناك؟ صدف كثيرة في رواية كان يمكن أن تُتقن بشكل أدق حتى إن الكاتب عبدالمجيد سباطة وجد طريقة ليُدخل نفسه في السرد ويجعل الترجيع (mise en abyme) معقداً أكثر بعد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"الملف 42" رواية غزيرة مجددة، تحتمل أن تكون 42 رواية وليس رواية واحدة وملفاً واحداً، ففيها من القضايا ما يهز النفس البشرية بعمق. يطرق الكاتب بشجاعة كما كبيراً من الهموم البشرية، منها ما هو سياسي ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما ينتمي إلى أبسط حقوق الإنسان في دول العالم الثالث، وعلى الرغم من كل ما قد يشوب هذه الرواية يظهر مجهود عبدالمجيد سباطة الجبار، ويظهر كذلك توهج ثقافته على صفحاته الـ 400 بشكل واضح، ولا يمكن للقارئ إلا أن يتوقع من هذا الكاتب الشاب روايات عميقة ومميزة في المستقبل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة