تُسقط الصراعات بين الفرقاء اللبنانيين المبادرات من أجل إخراج البلد من الانسداد السياسي الذي يمر فيه، الواحدة تلو الأخرى، على طريق إطالة الفراغ الحكومي الذي يتحكم بحياة اللبنانيين سلباً، منذ 10 أشهر، وبعد مضي 8 أشهر بالتمام على تكليف زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري بتأليف الحكومة، ويفقدهم أي أمل بإمكان انتشالهم من الهوة السحيقة التي هم فيها لجهة تراجع الخدمات الحياتية الأساسية، وشح المحروقات والأدوية وحصر الاستشفاء بالمقتدرين فقط وغلاء المواد الغذائية.
قفز الصراع المسيحي - المسيحي إلى الواجهة مع تصاعد التأزم بين القوى السياسية المتناحرة على الساحة السياسية، في أكثر الظروف غموضاً حول مدى قدرة الخارج على ممارسة ضغوطه للدفع نحو حلول مرحلية للمأزق اللبناني.
آخر المبادرات التي جرى إسقاطها هي تلك التي سعى إلى إنفاذها رئيس البرلمان نبيه بري بمساعدة "حزب الله"، بتشكيل حكومة من 23 وزيراً من الاختصاصيين غير الحزبيين، ببرنامج إصلاحي يقوم على بنود خريطة الطريق الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون في 1 سبتمبر (أيلول) 2020، على ألا يحصل أي فريق فيها على الثلث المعطل وتتوزع فيها تسمية الوزراء على ثلاث تحالفات واسعة، بالتساوي، أي 8+8+8. حصل بري على موافقة الحريري على رفع عدد الوزراء من 18 وزيراً إلى 24 ثم سعى إلى تذليل بقية العقبات في لقاءات لموفديه مع رئيس "التيار الوطني الحر" صهر الرئيس اللبناني ميشال عون الموثوق والنافذ في الفريق الرئاسي، الذي يشترط عدم تسمية الحريري الوزراء المسيحيين، خارج حصة الوزراء الثمانية، التي عُهد إلى عون وحلفائه أن يسميها، ويرفض أن يمنح تكتله النيابي الثقة للحكومة في البرلمان بعد تشكيلها، متهماً الحريري بأنه غير أهل للقيام بالإصلاحات الاقتصادية والبنيوية المطلوبة، وبأنه يعتدي على صلاحيات رئيس الجمهورية في تشكيل الحكومة.
ضربة قاضية لصيغة الـ 24 وزيراً الحكومية
ومع أن باسيل سبق أن أعلن قبوله بصيغة حكومة الـ 24 وزيراً، وتأييده لمبادرة بري، فإنه لم يتراجع عن مطالبه الحكومية التي يعتبرها الحريري ورئيس البرلمان تعجيزية. كما أن محاولات موفدي بري، و"حزب الله" الحليف لباسيل وعون، أفضت إلى خلاف كبير بين رئيس البرلمان وبين رئيس الجمهورية، خرج إلى العلن فكال كل منهما الاتهامات للآخر، واعتبر عون أن بري الذي انحاز إلى الحريري، أسقط عن نفسه صفة الوسيط، فجاء ذلك بمثابة ضربة لمبادرته.
وعلى الرغم من إصرار بري على أن مبادرته "مستمرة"، فإن باسيل وجه ضربة قاضية لصيغة الـ24 وزيراً بإعلانه رفض منطق المثالثة في توزيع الحصص الوزارية، وأن الثلث المعطل في الحكومة حق رئيس الجمهورية، معتمداً على اجتهاد بأن الدستور ينص عليه. لكن الأهم أن باسيل طالب في مؤتمر صحافي مطول يوم الأحد 20 يونيو (حزيران)، بحق تسمية رئيس الجمهورية 12 وزيراً مسيحياً في إطار المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، مع أنه تحدث عن تنازلات كثيرة قدمها فريقه في تأليف الحكومة، واعتبر أن فريقه يخوض "معركة الدفاع عن الحقوق والوجود" (المسيحي) وصلاحيات الرئاسة. والأبرز أنه انتهى إلى الاستعانة بحليفه الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، ليكون وسيطاً "حكماً وأميناً على الموضوع، لأني أثق به وبصدقه وائتمنه على موضوع الحقوق". وقال: "هو يعرف أننا مستهدفون، وكل شي يصير هو للنيل منا"، وأنه يقبل بما يقبل به لنفسه، ويأتمنه على الحقوق.
جاءت مناشدة باسيل لنصر الله بعدما هاجم بري (الحليف الأول لـ"حزب الله" الذي يشكل معه الركن الثاني في الحلف الشيعي)، والحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ولم يستثنِ من انتقاداته البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي الذي رفض تعطيل الحكومة بمنطق الدفاع عن الصلاحيات، إذ قال في اليوم نفسه لبيان باسيل "نحن لا نشكو من قلة الصلاحيات بل من قلة المسؤولية". كما اتهم باسيل موقف "مرجعيات روحية بالخضوع والخوف على مصالحهم على مدى 30 سنة"، وقال إنهم "ساكتون" عن خوض فريقه معركة الصلاحيات الرئاسية والشراكة في السلطة".
تذكير بشعارات 1988
غالباً ما يعود بعض السياسيين اللبنانيين المخضرمين في وصف الانسداد الذي آل إليه المشهد السياسي اللبناني إلى تشبيهه بذلك الذي عاشه لبنان أواخر عام 1988، حين سقط البلد في الفراغ الرئاسي الكامل وتولى ميشال عون (كان قائداً للجيش) في حينها رئاسة حكومة انتقالية من أجل التمهيد لانتخابات رئاسية، فخاض حرباً عسكرية ضد الوجود السوري، ثم فتح حرباً ضد "القوات اللبنانية" وتسبب بخلاف كبير مع البطريركية المارونية، مشترطاً انتخابه رئيساً للجمهورية، إلى أن انتهى به الأمر في المنفى في فرنسا عام 1990 نتيجة التدخل العسكري السوري لإخراجه من القصر الرئاسي، بعدما توصل النواب اللبنانيون إلى اتفاق الطائف على توزيع جديد للصلاحيات الدستورية بين الطوائف مع إبقائه على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين. في حينها رفض عون كل الوساطات الخارجية العربية والدولية، والداخلية، ولم يأبه لحصار فُرض عليه. ويكرر باسيل اليوم الشعارات الشبيهة بالتي أطلقها عون آنذاك، حين رفض اتفاق الطائف. فباسيل أعلن أنه "لن تأخذوا منا بالضغط وبوجع الناس وأزماتهم، ولا بعقوبات من العالم كله، ما لم تأخذوه منا من الـ 2005 (سنة عودة عون من المنفى، الذي أعقبه عقده التحالف مع "حزب الله") لغاية اليوم". في العام 1989 كان عون قال "يستطيع العالم أن يسحقني لكنه لن يأخذ توقيعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحدي بوريل قبل بحث العقوبات في بروكسل
تزامن تصعيد باسيل لشروطه، وعودته إلى مطالب كان قال إنه تخلى عنها، مع زيارة الممثل الأعلى للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل الذي عقد اجتماعاً تميز باختلاف النظرة إلى أزمة الفراغ الحكومي مع عون. وكان الهدف من محادثاته ممارسة ضغط معنوي وسياسي على الطبقة السياسية ولا سيما الحاكمة كي تنهي أزمة تأليف الحكومة، خصوصاً أنه قال إنه يحمل "رسالة حازمة" في هذا الشأن. فبوريل غاص في أسباب استمرار الفراغ الحكومي، فاستمع من الرئيس اللبناني إلى شكواه ضد بري والحريري متهماً الأخير بأنه السبب في تأخير الحكومة، وبأنه يخضع لأسباب خارجية في عرقلتها، فخرج بوريل من القصر الرئاسي ليرد بطريقة غير مباشرة على عون مؤكداً أن الأزمة صناعة محلية وليست خارجية، رافضاً مقولة عون التي يرددها على الدوام بأن أحد أسباب الأزمة الاقتصادية وجود النازحين السوريين. وفي وقت لم يخفِ بوريل أن ملف العقوبات الأوروبية على شخصيات لبنانية متهمة بعرقلة الحكومة هو على الطاولة في اجتماعات بروكسل، فإنه أوضح بتصريحاته أنه يستكشف آخر معطيات الفراغ الحكومي الذي يصر المجتمع الدولي على إنهائه كي تنفذ الحكومة الجديدة الإصلاحات باتفاق مع صندوق النقد الدولي، كشرط لتقديم الدعم لانتشال لبنان من أزمته الاقتصادية المالية الخانقة. وخرج بوريل بانطباع بعد لقاءاته بأن عون ينفي تهمة السعي للحصول على الثلث المعطل في الحكومة، لكنه بمطالبته بحق تسمية الوزراء المسيحيين كافة، يريد أكثر من الثلث المعطل. وبهذا المعنى جاءت تصريحات باسيل بمثابة الصفعة للموفد الأوروبي وتحدياً للتلويح بالعقوبات الأوروبية. كما أن المجاهرة بتسليم مقاليد الأمور لنصر الله يشكل تحدياً للمسؤول الأوروبي في وقت تتزايد الدول الأوروبية التي تعتبر أن الحزب يمسك بمقاليد السلطة السياسية في لبنان.
تأجيج الصراع المسيحي ورفض الفتنة الشيعية
وبالإضافة إلى أن إسقاط باسيل مبادرة بري قطع الجسور معه لأنه "غير مرغوب به لظهوره منحازاً ومسيئاً لنا"، فإن الأوساط المتصلة بالثنائي الشيعي رأت في استنجاده بنصر الله في مواجهة رئيس البرلمان أمراً غير مقبول من الحزب، الذي يعتبر "الفتنة في البيئة السياسية الشيعية خطاً أحمر". وفي اعتقاد هذه الأوساط أن مخاطبة باسيل لنصر الله من موقع الند للند بعد اشتراك الأخير مع موفدي بري في دعوة الفريق الرئاسي إلى تقديم التنازلات، لا يروق لقيادة الحزب على الرغم من تحالفها مع "التيار الوطني الحر". وتضيف هذه الأوساط: "إذا كان حزب الله يعتبر أن الانقسام الشيعي الشيعي مخطط أميركي إسرائيلي لإضعافه على الساحة اللبنانية، فإنه لن يقبل ذلك من باسيل الذي يرتكز في طلب وساطة نصر الله إلى الهجوم على بري".
استدرج التصعيد من قبل باسيل ردوداً من قيادات مسيحية، كان من الطبيعي أن يكون حزب "القوات اللبنانية" في طليعتها، خصوصاً أنه اتهم جعجع ببيع الكرامة مقابل المال السياسي إذ سألت الدائرة الإعلامية في "القوات" في بيان: "هل من المسموح لرئيس أكبر كتلة مسيحية ولديه رئاسة الجمهورية أن يستعين بالسيد نصرالله ويجعله حكما في موضوع الحكومة؟ ما هو المثال الذي يعطيه باسيل؟ هل الحكم هو السلاح أم الدستور"؟ ورأى حزب "القوات" أن "قوة المسيحيين وضمانتهم هي الدولة والدستور والمؤسسات، ولم يتراجع دورهم وحضورهم سوى بعد بروز أمثال النائب باسيل يستقوون بالخارج أو بالسلاح غير الشرعي تحصيلاً لحقوق خاصة لا علاقة لها بحقوق المسيحيين".
قيادات مسيحية أخرى حملت على باسيل، وبعضها رأى أنه لا يحق لكتلة نيابية من 20 نائباً من أصل 64 نائباً مسيحياً، أن تنطق باسم المسيحيين، فيما قال رئيس حزب "الكتائب" سامي الجميل إن "جميعنا في خطر بمعزل عن الطائفة والتحدي لبناني وطني لاطائفي".
المظلومية العونية لاستعادة الالتفاف المسيحي
وفي المقابل سادت أجواء المظلومية في أوساط "التيار الحر" وانعكست في وسائل التواصل الاجتماعي، إذ رأى بعض قادته أن هناك "تحالفاً رباعياً جديداً" ينشأ (وهو تحالف حصل في بعض الدوائر الانتخابية في انتخابات العام 2005 بين تيار "المستقبل" وحركة "أمل" و"حزب الله" و"الحزب التقدمي الاشتراكي") الذي كان أدى إلى ردة فعل مسيحية أدت إلى حصد العماد عون في حينها أكثر من 65 في المئة من أصوات المسيحيين. ومع عدم وجود أسس لتحالف كهذا في الظرف لراهن، فإن التيار العوني يسعى لكسب العطف المسيحي عن طريق الترويج لتجدد هذا التحالف.
ويتحدث بعض نواب "التيار الحر" عن تحالف سني شيعي ضده في مسعى منه لاستعادة الالتفاف المسيحي حوله، بعدما خسر جزءاً من جمهوره جراء تحميله مسؤولية الأزمة الاقتصادية المالية والمعيشية الخانقة، ما يوحي بأن قيادته بدأت تحضر للتعبئة الانتخابية منذ الآن في ظل ما يتردد عن أن الأزمة الحكومية قد تستمر حتى موعد هذه الانتخابات في مايو (أيار) 2022.