فاز رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان في الانتخابات التشريعية المبكرة التي أُجريت الأحد، 20 يونيو (حزيران)، بغالبية 53.9 في المئة من الأصوات، في اقتراع دعا إليه لتخفيف الغضب الشعبي بشأن الهزيمة العسكرية في إقليم ناغورنو قره باغ واتفاق السلام (الاتفاق الثلاثي) الذي وقعه مع أذربيجان برعاية روسية.
بعد عد جميع الدوائر الانتخابية، فاز حزب باشينيان "العقد المدني" بغالبية الأصوات، وجاءت كتلة الرئيس السابق، روبرت كوتشاريان، في المركز الثاني بنحو 21 في المئة. هذه النتيجة من شأنها أن تحدد مستقبل الصراع بين أرمينيا وأذربيجان بشأن إقليم ناغورنو قره باغ، شبه المستقل الذي يقطنه أغلبية من السكان الأرمن، والذي استطاعت الأخيرة السيطرة على سبع من القرى به، في حرب استمرت نحو شهرين وأسفرت عن تهجير آلاف الأرمن من منازلهم وقتل المئات.
وبقدر ما تحدد نتائج الانتخابات كثيراً في الصراع بين باكو ويريفان، فإنها تصب في مصلحة الخطة التوسعية التي عمل عليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في آسيا الوسطى.
وتشمل القضايا الرئيسة التي لا يزال يتعين حلها، بين أرمينيا وأذربيجان، الوضع النهائي لإقليم ناغورنو قره باغ وترسيم الحدود بين البلدين، وخطط إنشاء خطوط نقل بين تركيا وأذربيجان تمر عبر أراضي أرمينيا، على النحو المنصوص عليه في بيان وقف إطلاق النار الصادر في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019.
استمرار الانقسام
فوز باشينيان يعني استمرار الانقسامات والاستقطاب السياسي الداخلي في أرمينيا، الذي أدى إلى هذه الانتخابات نفسها، فضلاً عن رفض فصيل واسع الاتفاق الذي عقده مع باكو.
وهذا المشهد ربما هو ما كان يصبو إليه جيران يريفان في الشرق والغرب، إذ يشير مراقبون إلى أن الاستقطاب الأرميني يفيد أذربيجان من ناحيتين رئيستين. أولاً، يعني تآكل مؤسسات الدولة المتمثل في الاستقالات الجماعية في وزارة الخارجية، وثانياً عدم القدرة على تكريس الطاقة ورأس المال السياسي لمصير ناغورنو قره باغ، أو للدفاع عن أرمينيا ضد التعديات الأذربيجانية على أراضيها.
ويمكن لباكو تأطير أرمينيا كدولة فاشلة مع مقارنتها بمؤسساتها، وتشير هذه الرواية إلى أن الاستقرار "الاستبدادي" الذي تبنته باكو أفضل من الفوضى والهزيمة التي جلبتها الديمقراطية إلى أرمينيا، بحسب قول المستشار السياسي للتحالف التقدمي للاشتراكيين والديمقراطيين في البرلمان الأوروبي، إلدار محمدوف.
خطط التوسع
تهتم تركيا وأذربيجان بشكل خاص بإنشاء ممر بري في اتجاه مدينة ناخيتشيفان يمر عبر الأراضي الأرمينية وتحديداً إقليم سيونيك. ما يعني فتح خط مباشر بين تركيا والجمهوريات ذات العرق التركي في آسيا الوسطى في الشرق، التي لطالما سعت أنقرة لتأكيد علاقتها العرقية المشتركة معها، في إطار خطط العثمانية الجديدة التي تصبو إلى التوسع شرقاً في آسيا الوسطى وجنوباً عبر الشرق الأوسط.
تحظى باكو في هذا الصدد باهتمام خاص من تركيا، ولم يكن من المتعجَّب أن يدعو الرئيس التركي أذربيجان إلى التنقيب عن النفط في ليبيا، وهي الدعوة التي أثارت جدلاً واسعاً بين الليبيين الذين تساءلوا عن صفة أردوغان، الذي بدا أنه يتحدث عن أراضٍ له سيادة عليها. فخلال زيارته العاصمة الأذرية باكو، الجمعة، قال أردوغان للصحافيين إن تركيا وأذربيجان يمكنهما "العمل في قطاع الهيدروكربونات في تركيا أو ليبيا أو دول أخرى، ويمكنهما أيضاً التشارك في أعمال تكرير النفط".
ويعكس ذلك التصريح الإصرار التركي على عقيدة "الوطن الأزرق"، على الرغم من الضغوط الدولية الواسعة على أردوغان لاحترام سيادة جيرانه بعد سنوات من التجاوزات. وتمثل هذه العقيدة المساعي القومية التركية نحو التوسع والسيطرة على البحار الثلاثة، التي تحيط بتركيا من الشمال حيث البحر الأسود، والغرب، والجنوب حيث بحرا إيجه والمتوسط، التي أشار إليها الرئيس التركي خلال خطابه في عيد الجمهورية أكتوبر (تشرين الأول) 2019، بكلمة "بحارنا"، قائلاً "أثناء قيامنا بواجباتنا، نحن فخورون بأن نرفع رايتنا التركية المجيدة في جميع بحارنا. أقر بأننا على استعداد لحماية كل مساحة من وطننا الأزرق البالغة مساحته 462 ألف متر مربع بتصميم كبير، والقيام بكل واجب ممكن قد يأتي".
وفي إطار تحقيق هذا الحلم، وقع أردوغان، في نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، اتفاقاً مع حليفه في ليبيا فائز السرّاج، رئيس الحكومة السابقة التي كانت تسيطر على العاصمة طرابلس، يقيم بموجبه ممراً بحرياً في شرق البحر المتوسط بين البلدين، يمنح تركيا السيطرة ليس على المياه الليبية فحسب، لكن يسمح لها بالاستيلاء على مياه تقع ضمن سيادة اليونان. وبموجب هذا الممر تقطع تركيا الطريق على مشروع خط أنابيب "إيست ميد"، الذي اتفقت عليه كل من إسرائيل، وقبرص، واليونان لتوريد الغاز إلى أوروبا.
ووفقاً للمعهد الدولي للهجرة وأبحاث الأمن (مركز أبحاث أوروبي في بلغاريا)، فإن الهيمنة التركية وتنفيذ مبدأ "الوطن الأزرق" تعتمد على الهيمنة البحرية التركية في هذه المناطق، بما في ذلك السيطرة على مكامن النفط والغاز.
القواعد العسكرية
جانب آخر لإرساء الهيمنة هو وإنشاء قواعد عسكرية، وتدريب القوات العسكرية التي ستقف إلى جانبها. فلقد تم الاتفاق بين أنقرة وباكو على بناء قاعدة عسكرية تركية في أذربيجان، وهو ما أثار الحذر الروسي، كما أنشأت تركيا قواعد عسكرية وبحرية في الصومال والسودان وليبيا، بما في ذلك تدريب الجنود وتوريد الأسلحة والذخيرة وغيرها من أشكال الدعم العسكري. وللتمكن على الأرض، أرسلت تركيا إلى ليبيا آلاف المقاتلين الموالين لها من سوريا، وترفض الآن سحبهم على الرغم من الضغوط الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا تنفي تركيا التقارير الدولية الخاصة بإرسالها مقاتلين إلى ليبيا، بما في ذلك تقرير صادر عن وزارة الدفاع الأميركية "البنتاغون"، في يوليو (تموز) 2020، يقول إن الحكومة التركية أرسلت ما لا يقل عن 5000 مقاتل سوري عملوا بشكل وثيق مع أنقرة في الحرب الأهلية السورية، إذ أُرسلوا لمساعدة العناصر المتحالفة مع طرابلس في قتال قوات القائد العسكري المتمركز في الشرق خليفة حفتر.
وفي مايو (أيار) الماضي، قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إن المقاتلين الأجانب يجب أن يغادروا ليبيا، لكن أنقرة لديها اتفاق ثنائي مع الحكومة الليبية بشأن تمركز قواتها هناك. وأضاف "أعتقد أنه ينبغي عدم الخلط بين المرتزقة الأجانب والوجود الشرعي"، لكنه لم يوضح ما إذا كان سيجري سحب المقاتلين السوريين.
دولتان وأمة واحدة
ومع نهاية الاتحاد السوفياتي، سعت تركيا إلى إعادة بناء التضامن القائم على "التركية"، الذي يربط جميع الدول الناطقة بالتركية، وكانت أذربيجان الأكثر حماسة في الاستجابة لهذه الدعوة. والتقارب بين البلدين وطيد إلى حد محو الاختلافات الدينية، حيث إن تركيا دولة ذات غالبية سنية و65 في المئة من شعب أذربيجان ينتمون إلى المذهب الشيعي. ولا تعود هذه المكانة التي تتمتع بها باكو لدى الأتراك إلى التقارب الثقافي واللغوي فحسب، بل بسبب أهميتها في قطاع الطاقة والمصالح السياسية والاستراتيجية. وغالباً ما توصف العلاقات الثنائية بينهما بأنها "دولتان وأمة واحدة"، فعديد من الأتراك من أصل أذربيجاني.
ويقول بيرم بالسي، الباحث التركي لدى مركز كارنيغي للسلام الدولي، المدير السابق للمعهد الفرنسي لدراسات آسيا الوسطى بأوزبكستان، إن نهاية العالم ثنائي القطب كانت لحظة فاصلة في تاريخ السياسة الخارجية لتركيا، التي أصبحت تطمح في أن تصبح فاعلاً سياسياً رئيساً وتفرض نفسها على المشهد الإقليمي في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي.
ويضيف أن الجمهوريات المتحدثة بالتركية في المنطقة تحظى بأهمية خاصة لدى أنقرة. ففي قلب القوقاز تقف أذربيجان، ثقافياً وسياسياً، الأقرب إلى تركيا. وخوفاً من أن تقع هذه المنطقة الجديدة تحت تأثير الدول المُعادية للغرب، مثل إيران أو لتجنب عودتها إلى روسيا، شجع حلفاء تركيا الغربيون أنقرة بشدة على تقديم نفسها نموذجاً للتنمية العلمانية.
ممر ناخيتشيفان
ومن الناحية الجيوسياسية، يقول محمدوف إن مشروع ممر ناخيتشيفان أكثر أهمية من سيطرة أذربيجان على كامل ناغورنو قره باغ، لأنه سيعزز نفوذ باكو وأنقرة في المنطقة ويفتح الطريق لتركيا باتجاه التوسع نحو الشرق. وفي الوقت نفسه تعرف باكو أنها ترسٌ لا غنى عنه في هذه الاستراتيجية. لكن، لكي تتطور هذه الاستراتيجية تحتاج باكو إلى حكومة في أرمينيا قادرة على تنفيذ البيان الثلاثي، ولا سيما إنشاء طريق نقل ناخيتشيفان.
الفكرة لا تحظى بشعبية كبيرة في أرمينيا، إذ يُنظر إليها على أنها تهدد السيادة الأرمينية. وبالفعل توجد قوات عسكرية أذرية على مقربة من القرى الحدودية داخل محافظة سيونيك وفي طرقات التقاطع بين القرى، وهو أمر يتعارض مع القانون الدولي، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى دعوة باكو مراراً إلى التوقف عن الاستفزازات العسكرية في المنطقة.
ويطالب حقوقيون بإنشاء نطاق آمن في مقاطعة سيونيك وسيلةً لحماية حقوق المواطنين الأرمن الذين يعيشون في القرى الحدودية بالمقاطعة. هذه المنطقة تتعلق بقضية أخرى وهي تعيين الحدود بين الجانب الأرميني والأذربيجاني، إذ تتداخل في هذه المنطقة القرى الأرمينية والأذرية.
ولتأمين إنشاء الممر، يقول محمدوف إنه سيكون على باكو أن تفعل ذلك من جانب واحد بالقوة. ولكن، على عكس ناغورنو قره باغ، فإن ذلك قد يعني الاعتداء على أرمينيا نفسها، المحمية بموجب معاهدة الدفاع المشترك مع روسيا.
ويضيف أن الخيار الثاني هو الضغط المتزايد على أرمن ناغورنو قره باغ، لكن مثل هذا الخيار يمكن اعتباره تهديداً لقوات حفظ السلام الروسية المنتشرة هناك بموجب الاتفاق الثلاثي. وفي الأثناء، استطاع رئيس أذربيجان، إلهام علييف، تأمين رصيد كبير في علاقته مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وبالتالي من غير المرجح أن يخاطر بتصعيد كبير. علاوة على ذلك، فإن السابقة الجورجية بمهاجمة قوات حفظ السلام الروسية في أوسيتيا الجنوبية عام 2008 تشغل بال الجميع في المنطقة. وبالنظر إلى هذه البدائل، فإن فوز باشينيان في الانتخابات هو الخيار الأفضل لباكو لتحقيق أهدافها، إذ سيوفي على الأرجح بالاتفاق الذي وقعه بنفسه.