Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوسف رخا في رحلة مع المتنبي شاعر الألفية الثالثة

كتابه الجديد يتخطى تخوم الأنواع الى النص الطليق المتحرر من الشروط

من رسوم الكتاب للفنان وليد طاهر (دار التنوير)

يلعب الكاتب المصري، يوسف رخا، مع قارئه لعبة في كتابه "ولكن قلبي.. متنبي الألفية الثالثة" الصادر حديثاً عن دار التنوير. تقوم اللعبة في شرطها الأول على الاعتقاد بحق الكاتب في تجاوز التصنيف التقليدي للأنواع الأدبية، أما الشرط الثاني فهو إلغاء فكرة المؤلف ذاتها، إذ يطل رخا من الكتاب بشحمه ولحمه وهمومه وأسئلته وهواجسه ويقدم "نصاً طليقاً"، حاملاً كل هذه المواصفات في صورة "يوميات" أو شذرات بالغة الذكاء، وقوامها الرئيس استعادة الشاعر العربي أبو الطيب المتنبي (303هـ - 354هـ) (915م - 965م).

تختلف تجربة رخا عن تجارب شهيرة سبقته في التعامل مع المتنبي، بداية من طه حسين والعقاد، مروراً بالشيخ محمود شاكر وصولاً إلى أدونيس، لأن ما قاده إلى المتنبي مختلف في دوافعه عن دوافع هؤلاء. فهو ليس دارساً أو باحثاً فاحصاً، وإنما هو شاعر وروائي مغامر، يكتب باللغتين العربية والإنجليزية، جاء للقاء الشاعر العربي الأشهر، لأنه أراد مقاومة "السأم" من الشعر المعاصر. وتزامن هذا اللقاء مع الوصول إلى "أزمة منتصف العمر" وإغلاق رخا حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، مدركاً "بشاعتها" خصوصاً أنه لم يجد فيها سوى "بروتوكولات استهلاكية مستوردة في منتهى السطحية والغباء".

رأى رخا أن أحلى ما في اتصال الناس بعضها ببعض، تبيده الإنترنت بدعم ممنهج، لكن كثيرين من الكتاب ما زالوا هناك يقفون على رؤوسهم ويكذبون بشكل مفضوح ليكون مرضياً عنهم. وبلغ صاحب رواية "التماسيح" ما بلغ من سأم ومرارة، حين شعر مثل الآخرين بخيبة الأمل عقب انتكاسات أكبر مرت، طاولت شعارات التغيير وخطابات الثورات والاحتجاجات التي انخرط فيها، ولمس في الوقت نفسه كثيراً من الخذلان في مواقف النخب التي يعرفها، ووجد أنها لا تزال عند الكلام القديم. ولما جاء وقت الكلام الحقيقي لم يكن عندهم غير الكليشيهات والنكتة والشعار، فقد كانوا غير معنيين بالشعر حتى في عز دفاعهم عن قداسته.

اكتشاف الذات الجديدة

لم يكن طريق يوسف رخا إلى المتنبي إلا تعبيراً عن رغبة في اكتشاف جديد يلائم التغييرات التي أرادها لجسده، بعد أن توقف عن التدخين وتعلم السباحة برفقة طفلته، واستعاد مع التجربة وعيه بطاقة هذا الجسد وحاجته إلى الانطلاق في أفق جديد، بعد أن أحس لأول مرة بأنه ناضج ورائق تماماً، يفضل القراءة على الكتابة، كما أنه بحاجة إلى اللقاء مع الأشخاص الذين يتواصلون معه فعلياً وليس افتراضياً.

ومن ناحية أراد أن تمر رحلته إلى هذه "الذات" الجديدة التي أوجدها عبر بوابة لم يدخلها من قبل، فكان المتنبي هو هذه البوابة. اقترنت لذة استعادة الطاقة بـ"لذة اكتشاف" الشعر في أرض لم يطأها من قبل وكتابة لا تشبهه، لكنها تستحق الاهتمام. فقد جاءها هارباً من زمنه الشعري، أملاً في التعرف إلى حساسية لغوية كانت تمثل في السابق تحدياً كبيراً.

خفة جمالية تبرز المفارقة

يقسم الكاتب كتابه إلى قسمين: الأول بعنوان "الديوان"، والثاني بعنوان "الشرح"، ويضع تحت كل قسم "شذرات" لا تزيد على حجم الصفحة، ويفصل بينها برسوم رائعة للفنان وليد طاهر، تنطوي على كثافة أسلوبية دالة، رائقة تقوم على الاختزال والاحتفال بالرسم ومرونة الخطوط والاسكتشات، لتأكيد الجانب الفانتازي المضمر في النص. ولم تتحول الرسوم إلى لوحات شارحة وإنما هي نصوص موازية تقوم على إبراز حالات بطل واحد تلتبس صورته بين الإنسان والحيوان وتقاوم سعيه إلى "تشييئه".

وفي افتتاحية كل نص يقدم رخا بيتاً من شعر المتنبي يماثل الحالة التي ينقلها، وتجمع النصوص بين اليوميات السردية والتأملات التي لا يغيب عنها الشعر وتساؤلاته، ولا تزيح في طريقها ما يعيشه صاحبها من قلق وتردد وشكوك، صاحبته بشأن جدوى الكتابة منذ أن بدأ وهو في سن السابعة عشرة.

يختلف القسم الأول عن الثاني من زاوية حرص صاحبه على تأكيد طابعه الفني الخالص، فما يحتويه هو نصوص شعرية تطغى عليها نبرة سردية تميز كتابات رخا التي سبقت هذا الكتاب، وكانت تجمع بين الرواية والشعر وكتابه، ولها حساسية فريدة بين الكتاب المعاصرين. وفي كتابة رخا يبرز هذا الميل إلى التقشف البلاغي والقدرة على التعامل مع اللغة اليومية وإبراز خفتها الجمالية، عبر دفقات شعورية تعمق ما فيها من مفارقات فلسفية، وتماثل النصوص السوريالية والكتابة ذات الطابع الفانتازي. يتعمد الكاتب تأسيس النص على مفردة مركزية شغلته في شعر المتنبي، لتبدو مثل وحدة رئيسة أو خلية أولى للنص الذي يحافظ على طابعه "السيري" وإيقاعه القائم على التشظي واللهاث.

وتحمل شذرات القسم الثاني من الكتاب تساؤلات مهمة عن الكتابة في اللحظة المعاصرة، وتنقل سيرته مع المتنبي الذي قرأه داخل عربات المترو، وهو ينتقل من البيت إلى مقر العمل، قبل هجمة "كورونا"، حين كان يقرأ مستعيناً بالقواميس والشروح التي وضعها على هاتفه، ومعها كثير من كتب القواعد وعلم العروض، ويبدي دهشته من قدرته على فهم العروض واستخراج البحور الشعرية، منحازاً إلى "البحر الطويل". كما ينقل لنا فرحه بتخطي صعوبة اللغة العربية، بل تعلم أصولها بعد ربع قرن من ممارسة الشعر، فقد كان يحصي يومياً ما توصل إليه من مفردات كان يجهلها تماماً.

الدفاع عن الشعر

يعلم الشاعر من لسان العرب أن "القلب سمي قلباً لتقلبه"، يقول: "عبر القلب تنعقد الصلة بين الشعر والتحول"، وبهذا المعنى تكون الثورة مرادفة للشعر ووجل القلب وامتعاضه من الركود هو الذي يدفع إلى الاحتجاج.

أحب رخا في شعر المتنبي قدرة الشعر على أن يقول شيئاً آخر أبعد من معناه المباشر، فيه جمال أدبي وخبرة إنسانية. شيء يتجاوز لحظته ويرتفع فوق معناه ليسافر عبر الزمن. وفي الكتاب يميل الكاتب إلى استعادة جوانب من خبراته الذاتية التي تتجاوز الكتابة إلى ما هو خارجها لتشمل الأحوال المعيشية والعلاقة مع أفراد العائلة. ونكتشف كيف تعامل مع المتنبي كـ"حل"، وكاكتشاف لتجاوز الضيق الذي حاصره. وليست المسألة -كما يقول- إحباطاً شخصياً بقدر ما هي سأم من حدود الممكن، وقد قاوم مع قراءته المتنبي الشعور السائد بأن كل شيء في الدنيا ضد الشعر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يبدو الكتاب في مضمونه اللافت دفاعاً لامعاً عن جدوى الشعر وتأكيداً إضافياً لضرورته والحاجة إليه. فالشعر "يغير العالم، حتى لو لم يقرأه إلا شخص واحد". ويؤمن الكاتب أن "خيانة الشعر لم تعد فقط في التوقف عن كتابته، وربما الأسوأ هو التصميم على الكتابة عندما لا يكون لذلك أي معنى". يرغب رخا في الارتقاء بالمعنى وهو يعرف الكتابة بأنها مثل الحب، تعري جلدك وتشغل دماغك لكي تكون مع شخص آخر أو تكون شخصاً آخر، وبهذه الطريقة تتغلب على الموت. والفرق أن الكتابة لا تحتاج إلى علاقات أو مساومات ولا تنتهي إلى خذلان أو إحباط ولا رفاه ولا بنين. فهم المؤلف أن الكتابة على غير كل الاستعمالات المطروحة للغة، تضع الواقع في خدمة الكلام وليس العكس، تساعد صاحبها على أن ينظر إلى العالم بلا مصلحة أو عقيدة.

يكشف الكتاب إجمالاً كل ألم عاشه رخا مع الكتابة، وينقل للقارئ الوصفة التي ميزته بين كتاب جيله ومعاصريه، فهو قريب وبعيد، معتزل ومنخرط، كاتب على الحافة، زاهد متأمل، وفاعل كما يليق بشيخ طريقة له كثير من المريدين الذين أدركوا إخلاصه لما أراد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة