Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائي خالد النصرالله يحول عالم الكتب إلى متاهة

"الخيط الأبيض من الليل" ترسم صورة للصراع السري بين جهاز الرقابة والمؤلفين

لوحة للرسام ساي سرحان (صفحة الرسام على فيسبوك)

لطالما شكّلت العلاقة بين المثقف والسلطة محور عديد من الأعمال الروائية، تتناولها كل رواية من منظورها الخاص، فتتعدد تمظهراتها، وتختلف من عمل إلى آخر. ولا تزال هذه العلاقة تشغل الروائيين، فيبدون فيها ويعيدون. ولعل رواية "الخيط الأبيض من الليل" لخالد النصرالله (دار الساقي) هي أحد أواخر الأعمال التي تتمحور حول هذه العلاقة. والنصرالله كاتب وقاصّ وروائي كويتي، فاز بجائزة القصة القصيرة التي تنظمها مجلة "العربي" وإذاعة "بي بي سي" العربية، عام 2013، ووصلت روايته "الدرك الأعلى" إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد عن فئة المؤلف الشاب عام 2017. و"الخيط الأبيض من الليل" هي روايته السادسة بعد "يوم الحدث" 2008، و"الحقيقة لا تقال" 2009، و"هرطقة" 2009، و"زاجل" 2013، و"الدرك الأعلى" 2016. فكيف تتمظهر علاقة المثقف بالسلطة في هذه الرواية؟

تتمثل السلطة في الرواية بإدارة حكومية تعنى بمراقبة الكتب، فتحظر منها الكثير، وتجيز القليل، هي "إدارة المدونات المنشورة" التي تشغل مبنى قديماً آيلاً إلى الانهيار، وهو إلى المتاهة أقرب منه إلى المقر الحكومي. ولعل قيام الكاتب بوصف المكان وأقسامه وموقعه وصعوبة الوصول إليه، يندرج في إطار توظيف المكان روائياً بحيث يتخطى وظيفته المكانية إلى الوظيفة الروائية، ويشير إلى سلطة متقادمة بأدواتها وأساليب عملها ومعرضة للانهيار. أما الأدوات فهي مجموعة من الموظفين الذين يقومون بمراقبة الكتب باسم الأخلاق والقوانين والأنظمة، فيمنعون أكثرها لأسباب واهية، ويجيزون أقلها للأسباب نفسها، ويقومون بحرق الممنوع في محارق دورية. وبينهم المسؤول الذي يرى في المسؤولية مبرر وجوده، ويمارس بواسطتها سلطته على الأشخاص والمدونات، ويجترح أساليب التضييق على حرية التفكير والتعبير، والمدققون الذين يقومون بعملهم بشكل آلي، في ضوء معايير سطحية، لا تسبر أعماق الكتب، بل تطفو على سطوحها، ما يجعلهم يرتكبون المجازر اليومية بحق الكتب المراقبة.

أساليب العمل

أما أساليب العمل فتتمظهر في قراءة الكتب في ضوء معجم معين، يتم تعزيزه دورياً بمفردات جديدة، حتى إذا ما عثر المدقق الموظف على إحدى المفردات المعنية، يقوم بمنع الكتاب. وهكذا، نكون إزاء آلية عمل متخلفة، سطحية. تقوم بها سلطة مصابة بالكتابفوبيا، تقيم خارج التاريخ، وتظلم الكتب والكتاب والقراء معاً، ما يولد حركة اعتراض على أدائها، في أوساط هؤلاء، حتى إذا ما فازت إحدى الروايات الممنوعة لروائية مغامرة بجائزة عالمية، تشكل هذه الواقعة نقطة تحول في مجرى الأحداث، فتتفاقم حركة الاعتراض على المنع، وتتخذ أشكال التظاهر والاحتجاج والشعارات المكتوبة على الجدران. وتؤدي مواكبة الإعلام العالمي والصحافة المحلية لهذه الحركة إلى إصدار البرلمان قانوناً يلغي بموجبه حظر الكتب، ما يترتب عليه إلغاء "إدارة المدونات المنشورة" ونقل موظفيها إلى إدارة أخرى، في محاولة من السلطة للانحناء أمام العاصفة. غير أنه ما إن تمر العاصفة، حتى تعود الإدارة الملغاة إلى العمل، بعد نقل مقرها إلى مكان آخر، وتزويدها بآلات حديثة، وإخضاع جميع الكتب للمراقبة، وإضافة مفردات جديدة إلى معجم الممنوعات، واقتراح مجموعة من الحوافز للكتب المطابقة للمواصفات. وهكذا، يقتصر التجديد على الشكل، بينما يتم الإمعان في امتهان المضمون، وتغرق السلطة في خوفها المرضي من الكتب، وتنظم المحارق الدورية لها. وحين يجترح المعترضون أساليب مواجهة جديدة تلجأ السلطة إلى أساليب بوليسية، فتراقبهم، وتطاردهم، وتداهم أماكن وجودهم.

صورة المثقف

في المقابل، المثقف في الرواية هو مجموعة من الروائيين والكتاب الذين يبخل الكاتب عليهم بالتسمية مكتفياً باللقب، فنجد بينهم: الروائي الفارس الذي يلعب دوراً محورياً في مقاومة المنع، والروائية المغامرة التي تربح جائزتين إقليمية ودولية، وتعبر عن رأيها بصراحة ما يؤدي إلى اعتقالها، وآخرين. ولعل اكتفاء الكاتب باللقب الوظيفي دون الاسم يشي بعمومية الوظيفة وتعميم الحالة. وإذا كانت الصورة التي يرسمها النصرالله للسلطة كاريكاتيرية، تتوخى أدوات تقليدية وأساليب عمل بائدة في عملها، وتأتي بالغرائبي من التصرفات، وتعيش خوفاً مبالغاً به من الكتاب والكاتب والرأي الآخر، وتغلف إجراءاتها القمعية بالدفاع عن القيم الأخلاقية والمحافظة على الاستقرار، فإن الصورة التي يرسمها للمثقف هي أقرب إلى المثالية، والتطرف، والمبدئية، ذلك أن الروائي الفارس يرفض تغيير كلمة واحدة من روايته لإجازة نشرها، والروائية المغامرة تدفع ثمن التعبير عن رأيها الحر من دون تردد. على أن كلتا الصورتين تفتقر إلى الواقعية، لا سيما حين يجنح كل من السلطة والمثقف إلى سلوكيات غرائبية.

على هذا الصعيد، تتراوح أساليب المواجهة التي يستخدمها المثقف بين المشروع وغير المشروع، ما يطيح نسبياً مثالية الصورة ومبدئيتها؛ فنراه يرفض إجراء أي تعديل في نصه، ويمارس الاحتيال على إدارة التدقيق فيقدم لها نسخة مستوفية الشروط من الكتاب المزمع طبعه، ويعمد إلى طبع أخرى، وينخرط في أعمال التظاهر والاحتجاج، ويلجأ إلى إقامة مكتبات ومطابع سرية، ويخفي الكتب في أنفاق تحت الأرض، ما يجري التعبير عنه في الرواية بمقولة "المعرفة في جوف الأرض، وليست في عنق السماء" (ص 10). وبذلك، يكيل للسلطة بمكيالها، ويواجهها بأسلوبها. ولئن كان الصراع بين المثقف والسلطة خارجياً يدور بين طرفين مختلفين، في معظم الأحيان، فإن الصراع بينهما يتخذ بعداً داخلياً حين يدور داخل الشخصية نفسها، ما ينطبق على شخصية المدقق المحورية.

الشخصية المحورية

يخضع المدقق في الرواية للتجاذب بين مجموعة من الثنائيات؛ ففي مرحلة الصبا، يتجاذبه هوس في قراءة كتب الأطفال ومجلاتهم، من جهة، وخوف من الأب الذي يأخذ عليه هذا الهوس ويحاول منعه من ممارسته، من جهة ثانية. وإذ ترجح الكفة الأولى من هذه الثنائية على الثانية، يلجأ البطل إلى الحصول على الكتب والمجلات خلسةً، ويقوم بتخبئتها بعيداً عن عيني الأب، ويمارس هوسه في القراءة. وهنا، يتمظهر المثقف في الصبي المهووس بالقراءة، وتتمظهر السلطة في الأب، وينجلي الصراع بين الطرفين عن قيام الصبي بقتل الأب، بالمعنى الفرويدي للكلمة، بواسطة التسلل والتخفي والقراءة السرية.

في مرحلة العمل في "إدارة المدونات المنشورة"، يتجاذب المدقق الموظف فيه الذي يقتضي قيامه بوظيفته، في إطار الأنظمة المرعية الإجراء، فيمنع ويمنح وفق المعايير المعمول بها، بمعزل عن دقتها، من جهة، والمثقف الذي يعجب بما يقرأ، ويضطر إلى حظره خوفاً من المساءلة، من جهة ثانية. وإذ يحاول الاتصال بالروائي الفارس لإقناعه بتغيير إحدى الكلمات التي تحول دون إجازة روايته، يصطدم برفضه ومبدئيته، وتشكل هذه المحاولة بداية علاقة بينهما، تتطور إلى تحالف سري بينهما في نهاية المطاف. ويأتي جموح المسؤول إلى ممارسة مزيد من التضييق على الكتب والصحف والمطابع ليشكل القشة التي تقصم ظهر البعير، فيقرر الانقطاع عن العمل منتصراً للمثقف فيه على حساب الموظف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي مواجهة التضييق والمطاردة والمحاكمة، يلجأ المدقق إلى العمل السري في الطباعة والتوزيع وإخفاء الكتب والتخفي في نفق تحت الأرض، ويقوم بكتابة روايته الخاصة على جدار النفق، وتشكل هذه الرواية تنويعاً على الرواية الأصلية، تتوازى معها وتتقاطعان في بعض الأحداث، وتؤولان إلى مصائر متشابهة؛ فالمثقف فيها متمظهراً بالصبي الراوي والفتى المهذب ورفيقهم الآخر تطاردهم السلطة متمظهرة في "شيطان الكتب"، ويختبئون في النفق بدورهم، ليكتشفوا حكايتهم مدونة على الجدار، حتى إذا ما أطبق عليهم الظلام، يمتشقون سكاكينهم، ويجترحون طريقهم بحثاً عن الضوء. وهكذا، تلتقي الروايتان الأصلية والفرعية في استشراف "الخيط الأبيض من الليل"، وتننتصران لحركة التاريخ.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة