بشكل عام، يمكن النظر إلى الكاتب الأميركي واشنطن إيرفنغ على أنه واحد من أول أدباء "العالم الجديد" الذين أعادوا إلى الأدب الأميركي نكهته الأوروبية بعدما كانت مرت عقود طويلة حاول فيها هذا الأدب أن يبتكر لنفسه أساليب ربما تكون مستقاة من الأدب الشعبي و"العواطفي" الإنجليزي بشكل مباشر، لكنها أتت مزينة بما كان من اكتشافه لـ"الحدود" وحكايات رعاة البقر والرواد والمساحات الشاسعة، لكن إيرفنغ كان في الوقت ذاته واحداً من أوائل المستشرقين في الأدب الأميركي في وقت كانت أوروبا تكاد تودّع الاستشراق على النمط الرومانطيقي.
ولعل في مقدورنا أن نقول في ما يخص هذين المجالين: أوربته الأدب الأميركي والقوطيّ منه بصورة خاصة، و"اكتشافه" للاستشراق، إن إيرفنغ نهلهما من إقامته الطويلة حيناً في إسبانيا وحيناً في لندن حيث كُلّف في الأولى بمهمات أرشيفية واستكشافية، فيما كان في الثانية سفيراً لبلاده في البلاط البريطاني.
في مجال الاستشراق، كتب إيرفنغ سيرة للنبي العربي، وأخرى لخلفائه، كانت أول عمل من نوعه يصل إلى القراء الأميركيين. كما كتب "حكايات الحمراء" وهي تلك المجموعة البديعة من القصص القصيرة التي استقاها من زيارته التاريخية إلى قصر الحمراء وإلى المناطق الأندلسية، واشتهرت حين صدرت في عدد من الطبعات، ثم الترجمات. وإذا كنا سنعود في كتابة لاحقة إلى هذه النصوص المرتبطة بالإسلام، فإننا سنتوقف هنا عند الجانب الآخر: الجانب القصصي القوطي الذي يبدو واضحاً انتماؤه إلى الأدب الأوروبي أكثر كثيراً من انتمائه إلى الأدب الأميركي الذي كان بدأ بالظهور حديثاً.
قصص للتأسيس
والعملان الأكثر شهرة في هذا المجال الذي خاضه إيرفنغ بقوة هما طبعاً "ريب فان وينكل" و"سليبي هالو" القصتان اللتان يمكن القول إن ما من أميركي لم يقرأهما ولو مرة في حياته وربما تُعتبران، إلى جانب "الحرف القرمزي" لناثانيال هاوثورن، النصوص المؤسسة للحداثة القصصية الأميركية. ومع هذا، لا يمكننا تفادي ما تؤكده أعمال إيرفنغ على الأقل من أننا هنا أمام أدب أوروبي حقيقي على الرغم من أميركيته الطاغية. ولا ننسى هنا أن إيرفنغ كتب القسم الأكبر من قصصه القوطية وهو مقيم في لندن، ما يفسّر تلك الوشائج التي ربطته بالأدب الأوروبي. ولئن كانت "ريب فان وينكل" تُعتبر الأشهر على الإطلاق بين كتابات إيرفنغ، فإن السينما أسهمت قبل أعوام عدة في إعادة الروح والمكانة المتقدمة لـ"سليبي هالو"، تحديداً من خلال الفيلم الذي حققه تيم بورتون عام 1999 من بطولة جوني ديب وكرستوفر والن.
صحيح أن بورتون أحدث يومها بعض التغيير الجذري في اقتباسه للقصة لكنه عرف كيف يبقي لها روحها، كما عرف في الوقت ذاته كيف يعيد القصة إلى الواجهة ويدفع كثراً إلى قراءتها من جديد بعدما كانت منطوية كقصة قصيرة في ثنايا مجموعة تتألف من 34 قصة، جمعت تحت عنوان عام هو "كتاب اسكتشات جوفري براون" وصدرت طبعته الأولى عام 1820، علماً أن نص "حكاية سليبي هالو" كان نُشر قبل ذلك بعام برفقة نص "ريب فان وينكل" فطغى عليه بالشهرة الواسعة التي حازها.
فارس برأس مقطوعة
المهم هنا هو أن تيم بورتون حين اقتبس القصة للسينما في واحد سيُعتبر من أقوى وأجمل أفلامه، كان التغيير الرئيس الذي أحدثه هو تبديل مهنة بطل الرواية المدعو إيشابود كراين من معلم مدرسة في البلدة الصغيرة المجاورة لنيويورك وذات الجو الهولندي القوطي الخالص، إلى تحرٍّ جيء به من نيويورك ليحقق في سلسلة جرائم وأحداث غريبة يقوم خلالها فارس لا رأس له بقطع رؤوس عدد من سكان القرية في ليال معينة.
ولعل السمة الرئيسة التي تطبع شخصية وممارسات كراين هي كونه يؤمن بالعلم والاستقصاء المنطقي حتى ولو وجد نفسه هنا أمام جرائم ترتدي طابعاً غيبياً يكاد يكون أسطورياً ويدور أساساً من حول شجرة يرتبط بها بشكل يحتاج إلى كشف متعمق، وجود ذلك الفارس الذي يعلم أهل القرية بوجوده، لكن أحداً منهم لم يرَه، لأن من يراه تُقطع رأسه على الفور.
قرية تسكنها الأشباح
تدور أحداث الحكاية كما كتبها إيرفنغ عام 1790 في مستوطنة هولندية السكان من تلك التي كانت تنتشر حول نيويورك في تلك الأزمنة المبكرة بعمارتها وتقاليدها والخرافات القوطية المرعبة التي تسيّر حياة أولئك السكان. وتحمل القرية اسم "سليبي هالو"، وهي ملحقة إدارياً ببلدة ستحمل لاحقاً اسم تاريتاون، نيويورك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الزمن الذي تدور فيه الأحداث المرعبة التي تشكّل القصة، كانت القرية معروفة بامتلائها بالأشباح التي تجبر السكان على أن ينزووا في بيوتهم ليلاً. وسيكون الفارس ذو الرأس المقطوعة واحداً من تلك الأشباح لكنه الأكثر إثارة للرعب من بينها وذلك لأنه لا يكتفي بإرهاب السكان، بل يقتلهم بشكل سيبدو محيّراً لأستاذ المدرسة الذي سيتنطّح بحداثته وعلومه وأدوات بحثه للتحري حول الموضوع برمّته حين كثرت الجرائم ووجد هو لزاماً عليه أن يتدخل باعتباره يشكّل وحده تقريباً النخبة المتعلمة في المكان. ومن هنا، تتخذ دلالتها الفكرة التي اشتغل عليها مخرج الفيلم حين جعل بطله يأتي من العالم النيويوركي الحداثي ليهبط على التقاليد القروية وخرافاتها من خارجها، لا من الداخل.
المنطق خلف الأسطورة
المهم أن كراين يغرق في تحليلاته واستنتاجاته، رافضاً أول الأمر تصديق تلك الخرافات المتعلقة بوجود فارس مقطوع الرأس يمتطي حصانه، الشبحي هو الآخر، ليلاً ليصطاد مَن يجدهم في طريقه سواء كانوا من أهل القرية أو من زوارها. ويميل كراين الواقعي والعلمي بطبعه إلى فرضية تتحدث عن وجود مؤامرة ما يحيكها أعيان القرية ونخبتها الموسرة تكمن خلف ما يحدث. لكنه بالتدريج وإذ يحدث له هو نفسه أن يهاجَم ذات ليلة من قبل الفارس وحصانه الشبح ويكاد يُقتل، يبدأ بتصديق الخرافة القديمة، لكنه يظل في حاجة إلى أن يفهم "دوافع" ذلك الفارس. فالشرّ بالنسبة إليه لا يمكنه أن يكون مجانياً، بل لا بد من أن تكون له أسبابه. وهكذا بعد أن يكتشف كراين سر الشجرة الغريبة القائمة في محاذاة القرية، التي تبيّن له بالرصد المنطقي أنها المكان الذي ينطلق منه الفارس على صهوة جواده، ما يعني أنها في الوقت ذاته، مركز انطلاق الفارس وقبره وداره، يصل بالتدرج مجدداً إلى فهم الحكاية، بخاصة منها دوافع الفارس التي يجدها في نهاية الأمر دوافع انتقامية، إذ إن هذا الفارس إنما يمارس هنا انتقامه اليومي ممن كانوا أساؤوا إليه وأوردوه مورد الهلاك بقطع رأسه، ومن هنا نراه يردّ الصاع صاعين وأكثر.
أصول الحكاية ألمانية؟
على الرغم من النزعة الأميركية الخالصة التي تطالعنا في هذه القصة مناخاً وشخصيات بل أحداثاً حتى، فإن كثراً من المؤرخين يقولون إن واشنطن إيرفنغ اقتبس، وعلى الأخص شخصية الفارس المقطوع الرأس، من أصول أسطورية ألمانية، لا سيما من كتاب عنوانه "تسبروتافا" نشره الكاتب الألماني "ج.ج. كريس" قبل أعوام قليلة من نشر إيرفنغ قصته وفي واحد من فصوله يتحدث المؤلف الذي كان مفتشاً في الشرطة عما لاحظه من رعب أهالي قرية تدعى هوسبيتالشتراسّ من فارس يظهر ليلاً على صهوة حصانه وهو من دون رأس. وأثارته تلك الحكاية فراح يتتبّعها كما سيفعل كراين في القصة التي سيكتبها إيرفنغ. وللمناسبة لا بد من أن نشير إلى أن إيرفنغ استعار لبطله اسم نقيب في الجيش الأميركي الشمالي خلال الحرب الأهلية تعرّف إليه وأعجب بحداثته ونزعته العلمية، فكرّم ذكراه من خلال إطلاق اسمه على الأستاذ – المتحري في قصته.
أميركي في أوروبا
بقي أن نذكر أن واشنطن إيرفنغ (1783 – 1859) كان يُعتبر الابن المدلل للحياة الأدبية الأميركية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. وهو تمكّن من السفر إلى أوروبا والعيش فيها والنهل من حياتها الأدبيىة مرتين في حياته، الأولى حين كان في الحادية والعشرين والثانية بدءًا من عام 1815. وكانت المرة الثانية لمناسبة مهمة قنصلية – أدبية كُلّف القيام بها في مدريد. ومن أبرز كتابات إيرفنغ، إضافة إلى ما ذكرنا: "أوراق سلماجندي" و"تاريخ لنيويورك" و"حكايات الحمراء" وسير لكريستوف كولومبوس ووجورج واشنطن و"مغامرات الكابتن بونفيل يو إس أي".