ركام من الأتربة حيث الحجارة وسيلة لعب الأطفال نهاراً وحدود مرمى كرة القدم للمراهقين والشباب مساء، وعلى مرمى بضعة أحجار تجمعات سكنية هي خليط من العشش والأبنية غير واضحة المعالم سواء من حيث البناء أو البداية أو النهاية. مجموعات متفرقة من النساء يتسامرن ويضحكن ويعملن في تنظيف الخضراوات أو تقطيع محتويات صينية من الفطائر وتعبئتها في أطباق صغيرة استعداداً لبيعها، وفي الفراغات القليلة قطط وكلاب ضالة تلعب لعبة الكر والفر مع الدواجن الراكضة يميناً ويساراً. وتكتمل جزئيات اللوحة بأنشطة تجارية متفرقة حيث ورشة ميكانيكا مندسة في داخل بيت سكني ومحل بقالة في مدخل عشة سكينة أيضاً وفجأة تهل رائحة ذكية تسيل اللعاب مصحوبة بحرارة رهيبة نابعة من موقد صغير مثبتة عليه مقلاة عملاقة تخرج منها حبات "الزلابية" الشهية وفي أقوال أخرى "لقمة القاضي" لتقفز فوراً في دلو مجاور مليء بالعسل.
الرائحة الذكية على ما يبدو جذبت انتباه غراب جائع فخطف واحدة في لمح البصر قبل أن ينهره صاحب "الزلابية" مهدداً إياه بغمسه المرة المقبلة في الزيت المغلي، لكن الغراب لا يأبه ويختلي بحبة الزلابية الثمينة على سطح بيت متهالك يعلوه برج حمام شاهق. وعلى مرمى البصر تلهو معزة صغيرة هنا وهناك ثم تنضم إلى بقية أفراد العائلة المقيمين مع أخرى من بني البشر في مبنى هو خليط من الطوب الأحمر والطين.
تغير المشهد
اليوم تغير المشهد. "عزبة خير الله" التابعة لأربعة أحياء هي مصر القديمة ودار السلام والبساتين والخليفة لم تعد أحد أبرز وأشهر عشوائيات القاهرة الكبرى بقاطنيها المقدرة أعدادهم بين 650 ألفاً ومليون مصري ومصرية. كما لم تعد إلى سابق عهدها قبل سبعينيات القرن الماضي وقتما كانت هضبة صخرية سكانها زواحف وحشرات وقبل أن يلجأ إليها عشرات ثم مئات المهاجرين من صعيد مصر بحثاً عن لقمة عيش أفضل، مما أدى إلى بناء غرف إقامة موقتة سرعات ما تحولت إلى عشش إقامة دائمة دامت خمسة عقود، لكنها انتهت في عام 2021.
عام 2021 يمكن تسميته بـ "عام انتهاء العشوائيات" في مصر، وتحديداً شهر يونيو (حزيران) الحالي. فباستثناء "مثلث ماسبيرو" الواقع خلف مبنى الإذاعة والتلفزيون في وسط القاهرة، انتهت مصر من بناء المناطق السكنية الجديدة التي تستوعب سكان العشوائيات غير الآمنة.
المدير التنفيذي لصندوق تطوير العشوائيات خالد صديق قال، "إن اللمسات الأخيرة على ما تبقى من مشاريع إسكان السكان الجاري نقلهم من عشوائيات غير آمنة ستنتهي خلال الشهر الحالي، باستثناء مثلث ماسبيرو الذي يتم الانتهاء منه في ديسمبر (كانون أول) المقبل". وفي إشارة إلى محاولات الدولة تيسير إجراءات نقل السكان وتسلميهم الشقق السكنية الجديدة، قال صديق "إن الدولة هدفها تبسيط الإجراءات"، موضحاً، "أن الدولة لن تستفيد شيئاً من تأخر حصول المواطنين على حقوقهم". صديق يصف المشاريع السكنية الجديدة المخصصة لسكان العشوائيات بأنها "تبني إنساناً صالحاً وتنقل المواطنين إلى حياة أخرى تماماً".
الانتقال ليس كله حلواً
لكن انتقال المواطنين الذين ولد كثير منهم في كنف المناطق العشوائية بثقافتها وأسلوب حياتها وطبيعة تركيبتها الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية بحلوها ومرها ليس كله حلواً، بل فيه مرّ أيضاً.
لكن المرارة تبقى نسبية، فمثلاً سكان "عزبة خير الله" تمكنوا بعد سنوات من الضغط على الجهات الرسمية أن يمدوا نسبة من مساكنهم بالماء والكهرباء. وبحكم طبيعة نمو التجمعات السكنية، فإن الخدمات الأساسية نمت مع النمو السكاني بالقدر نفسه من النمو والتوسع وكذلك العشوائية. غزت وسائل النقل الجماعية العزبة، كذلك الورش والمحال والمقاهي وغيرها، لكن ظل الغزو عشوائياً أيضاً.
"ميكروباصات" و"تكاتك" لا حصر لها، ورش رخام وسباكة معادن وميكانيكا وأخشاب أسفل كل بيت. بمعنى آخر، مقر العمل على بعد سبع خطوات من السكن. وهذا أحد مكامن المرارة في الانتقال من ضيق العشوائيات إلى براح السكن الآدمي.
وتشير دراسة أعدها مدرس علم النفس البيئة في جامعة عين شمس أحمد فخري هاني تحت عنوان، "العلاقة بين إعادة توطين ساكنى العشوائيات وأساليب التعايش" إلى أن إعادة توطينهم فى المدن الجديدة مكنتهم من ظروف سكنية أفضل بكثير، لكن أحياناً كان لها أثر سلبي في أوضاعهم المعيشية. ويتجلى ذلك فى قدر أكبر من المعاناة نتيجة الضغوط الحياتية والمالية المتزايدة للوصول إلى أماكن العمل وفقدان المساندة والدعم الاجتماعي وفقدان كثير من فرص زيادة الدخل فى التجمعات السكنية الجديدة التي تم نقلهم إليها".
افتقاد الترابط الاجتماعي
وتشير مبادرة "تضامن" الحقوقية الأهلية التي تعمل على تقديم بدائل وحلول واقعية لمشكلات العمران إلى أن الترابط الاجتماعي والتعاون وروح الجماعة أهم ما يميز سكان "عزبة خير الله". ولعل الأوقات العصيبة التي مرت بهم منذ استقروا في العزبة والتكاتف بين الجميع من أجل التصدي لمحاولات إخراجهم من المنطقة على مر العقود ومن أجل الحصول على البنية الأساسية والخدمات لعامة هو ما جعل العلاقات الاجتماعية أكثر ترابطاً.
الترابط الاجتماعي هو أبرز ما كان يميز سكان المناطق العشوائية، وهو أبرز ما يفتقده من تم نقلهم إلى المساكن الجديدة الآدمية المزودة بخدمات تعليم وصحة ومواصلات عامة وحتى أماكن ترفيه.
المفاهيم السائدة بين القاعدة العريضة من سكان المناطق العشوائية لا تضع ملعباً رياضياً أو مركزاً للشباب لممارسة الأنشطة الرياضية والاجتماعية أو مكان للعب الأطفال ضمن الأولويات. الأولويات أماكن عمل توفر دخولاً مادية معقولة دون تكبد عناء المواصلات وكلفتها العالية. وبالنسبة لشخص اعتاد أن يستيقظ من نومه في التاسعة إلا ربع ليكون في ورشته في التاسعة بعد تناول الإفطار والشاي، فإن السكن في المقطم جنوب القاهرة حيث حي الأسمرات والتوجه إلى الورشة الواقعة في مدينة بدر مثلاً (60 كيلومتراً) تستدعي مقاومة فكرة الانتقال من ضيق العشوائية إلى براح السكن الآدمي، الذي نجم عنه في بلدان أساليب تعايش مختلفة من قبل السكان المنقولين.
وبحسب ما ورد في دراسة أحمد فخري هاني عن إعادة توطين سكان العشوائيات، "فإن التجارب التي خاضوها في بلدان أخرى أدى بعضها إلى أساليب تعايش من قبل الأسر تمثلت في تقليل عدد الوجبات اليومية وشراء أطعمة أرخص والاقتراض من الجيران وزيادة نسبة عمالة الأطفال وعمالة النساء خارج المنزل في غير عمل كوسائل لمواجهة كلفة الحياة التي أصبحت أكثر ارتفاعاً في البيوت الجديدة، كما أن شبكة العلاقات الاجتماعية تتغير وبعضها يُفقد وهو ما يؤثر سلباً في الصحة النفسية للمنقولين".
وعلى الرغم من أن كثيراً من المنقولين يؤكدون كل ما سبق كوسائل باتوا يتبعونها لمواجهة كلفة المعيشة اليومية الأكثر ارتفاعاً في ضوء إضافة بنود إنفاق جديدة لم تكن موجودة في المناطق العشوائية من مواصلات وسداد فواتير غاز وكهرباء وماء لم تكن موجودة في كثير من هذه المناطق وغيرها، إلا أن هناك نصفاً مليئاً في كوب البراح السكني الجديد.
حمام الجيران
هاجر محمد (20 عاماً)، طالبة جامعية تدرس علم الاجتماع، كانت تقطن إحدى المناطق العشوائية في منشأة ناصر. تقول "إنها منذ انتقالها مع أسرتها إلى شقة سكنية ذات شرفة في عمارة ذات مدخل جميل في شارع نظيف تطل على حديقة صغيرة فيها أشجار وهي تشعر أنها لم تعد مهمشة". تضيف، "للمرة الأولى أدرس في الكلية مفاهيم أشعر بها أنني أعيشها. طوال حياتي وأنا أشعر أنني مهمشة وأعيش في منطقة واقعة على هامش الحياة في مصر. ومنذ انتقلنا إلى البيت الجديد لم أعد أشعر بذلك، فأنا إنسانة أسكن في بيت غير آيل للسقوط وأفتح نافذة الغرفة صباحاً لأرى أشجاراً وليس حمام الجيران وأنزل من البيت من دون أن أحمل هم إقناع حمار الجيران بالتنحي جانباً كي أخرج من باب العمارة". توضح أنها "تفتقد صديقات الطفولة اللاتي لم ينتقلن جميعاً إلى المنطقة السكنية ذاتها، لكنها بدأت في تكوين صداقات جديدة مع الجيران حولها، كما أنها تقابل صديقات منشأة ناصر في وسط البلد أحياناً".
في كل ركن عشوائية
وسط البلد أو جنوبه أو شماله أو أي من أجزائه، لم يكن يخلو من مناطق أو أحياء هشوائية ولدت ونمت وتوسعت وتوغلت في غفلة من الزمن والتخطيط وعلاج الأسباب بديلاً من الأعراض.
يشار إلى أن عدد المناطق العشوائية أو غير المخططة بلغ 221 مدينة مصرية من إجمالي 249 مدينة. وإجمالي مساحتها 161 ألف فدان وتمثل نحو 40 في المئة من المساحة العمرانية في مصر. أما عدد سكان المناطق العشوائية فيقدر بنحو 22 مليون شخص، بينهم نحو 850 ألف مصري ومصرية يسكنون العشوائيات الأكثر خطراً. وتبلغ الموازنة المرصودة للتطوير والقضاء على العشوائيات غير الآمنة وتطوير ما يمكن تطويره في العشوائيات الأخرى نحو 17 مليار جنيه مصري (نحو مليار دولار أميركي).
العشوائية ليست مجرد سكن
ويبقى هناك وجه آخر من وجوه المناطق العشوائية وسكانها وكونها شوكة في حلق الحكومة المصرية حيناً، وسكان المناطق غير العشوائية أحياناً، فالعشوائية ليست مجرد سكن ينتهي بالانتقال إلى آخر. العشوائية أسلوب حياة ومنهج معيشي، لذلك فإن أخبار الحملات الأمنية والرقابية على الأماكن السكنية الجديدة التي انتقل إليها سكان العشوائيات باتت أخباراً ثابتة بديلاً عن أخبار مشكلات العشوائيات من انهيار بيوت وحدوث جرائم وتعاطي مخدرات.
نسبة غير قليلة من المنقولين انتقلوا بأسلوبهم التقليدي في كسب لقمة عيش من خلال أنشطة يعتبرونها عادية لكنها في نظر الدولة والقانون ممنوعة. تحويل غرفة في شقق الطوابق الأرضية سوبرماركت أو مكتبة أو مركز تصوير أوراق أو مقهى محاولات مستمرة على الرغم من أنها غير قانونية. الاستيلاء على حرم الرصيف والحدائق العامة وتحويلها إلى مقهى محاولات مستمرة رغم مخالفتها للقوانين. عرض الشقق السكنية للإيجار من الباطن إعلانات مستمرة رغم حظره.
التحايل على القانون
الأدهى من ذلك ما كشفه المدير التنفيذي لصندوق تطوير العشوائيات خالد صديق قبل أيام، حين تحدث عن التفافات يقوم بها البعض ليحصل على شقة في إحدى المناطق السكنية الجديدة المخصصة لسكان العشوائيات، وحيث إن العيش في إحدى المناطق التي صنفتها الدولة بأنها "خطرة" هو أحد شروط الحصول على وحدة سكنية، فقد لجأ كثيرون إلى تغيير محل السكن في بطاقات الهوية الشخصية ليصبح في منطقة مصنفة "خطرة" ويحصل على شقة من دون وجه حق.
وقال صديق، "إن مسؤولي الصندوق يتأكدون من الأوراق الثبوتية وعنوان السكن في البطاقة القديمة وليس الجديدة، إضافة إلى شهادات ميلاد الأطفال وعنوان بطاقة الزوجة للتأكد من حق المواطن".
التحجج بارتفاع كلفة المعيشة من إيجار يسدده السكان للدولة يتراوح بين 300 و350 جنيهاً مصرياً شهرياً (بين 20 و22 دولاراً أميركياً)، أو ارتفاع كلفة المواصلات، أو قيمة الدروس الخصوصية أو غيرها شكاوى تتردد على ألسنة الجميع، لكن ألسنة الجميع وعلى الأرجح قلوبهم وعقولهم تعي أن تغييراً جذرياً جيداً حدث لحياتهم.