Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المسيرة الوهمية للتفاهة" مسرحية مصرية تخرج عن المألوف

استعادة الكاتب المهمش رأفت الدويري في عرض مشهدي يفضح قساوة العالم

مشهد من مسرحية "المسيرة الوهمية للتفاهة" (الخدمة الإعلامية للمسرحية)

تستند تجربة الكاتب المسرحي المصري الراحل رأفت الدويري إلى ميراث كثيف من الأساطير والطقوس والحكايات الشعبية، العربية والفرعونية والعالمية، ومنها شكل عالماً خاصاً ومركباً، يصعب سبر أغواره واستكناه طبقاته التحتية التي تتشكل في ما يشبه المتاهة السحرية، فتمتع المتلقي بقدر ما تجهد ذهنه. هذه الأعمال مكتملة، أعد عنها المخرج طارق الدويري عرضاً منحه عنواناً دالاً وموجعاً كذلك "المسيرة الوهمية للتفاهة". فهو من ناحية استعرض تلك المسيرة، التي رصدها الكاتب في أعماله، عن توحش العالم ولا إنسانيته، وتغول السلطة، وإجهاض الأحلام، وتصدير التفاهة كوسيلة لتحقيق الأهداف، وكأقصر الطرق وأسهلها للعيش الآمن. ومن ناحية أخرى أشار، بشكل مضمر، إلى معاناة الكاتب نفسه، التي هي معاناة كل فنان صادق، وأزمته في مجتمع قائم على الزيف أساساً، وعدم تقدير القيمة. ومعروف أن رأفت الدويري، الذي كان واحداً من أبرز كتاب المسرح في ثمانينيات القرن العشرين، لم يقدر بالشكل اللائق به، حتى أن خبر رحيله لم يعرفه كثيرون من المهتمين بالمسرح.

شذرات دالة

بالطبع لسنا أمام عرض عائلي، يريد الابن (طارق الدويري) من خلاله إنصاف الأب (رأفت الدويري)، فالعرض تجنب ذلك تماماً، واكتفى بشذرات دالة من أعمال الكاتب الراحل. بل هو سعي إلى تأكيد موقف الكاتب من العالم ونظرته إليه، العالم نفسه الذي عانى منه، وغادره صفر اليدين تقريباً، فقط لأنه كان يراقب التفاهة ولا يقربها، ويعكف على ما ينفع الناس، بغض النظر عن الأثمان التي دفعها.

لا إشارة من قريب أو بعيد إلى شخص الأب، الإشارات والإحالات إلى عالمه الدرامي الذي يعكس وعيه بالعالم. ويمكنك كمشاهد أن تربط هذا بذاك أو لا تربط، لكنك أمام عرض يستنفر لديك طاقة التأمل والسؤال، ويمتعك حقاً، على الرغم من تشظيه وعبثيته، بصورته المركبة، التي تملأ فضاء المسرح كله، وتحوي مشاهد عدة متداخلة في آن واحد. ففي اليمين واليسار والمقدمة والعمق، ثمة أحداث تجري في الوقت نفسه، ليس بطريقة عشوائية، وإن بدت ظاهراً عشوائية، لكن ثمة خيطاً ينتظمها جميعاً. فكل منها يمثل علامة قائمة بذاتها، وكلها معاً تنتج معنى أو مغزى ما، ويلزمك فقط أن تكون حاضر الذهن، مستنفراً حواسك كافة في محاولة للقبض على هذا المعنى أو المغزى.

بقع لونية

لا حكاية رئيسة في العرض، هناك العديد مما يمكن اعتباره بقعاً لونية، كل واحدة لها دلالتها ومغزاها، يجمعها إطار واحد، يتمثل في الزوج والزوجة (حمادة شوشة، وسهام بنت سنية وعبد السلام) ينتظران مولوداً. الأم عجوز متصابية، مما يعمق من عبثية المشهد، والمولود، هو الآخر، يرفض النزول من دون ضمانات تتعلق بمستقبله في هذا العالم. ولأن الوالدين لا يملكان تلك الضمانات يضطران إلى التوقيع، على بياض، للسلطة التي ستتولاه بالعناية، وتشكله كيف ما شاءت. وبعد نزول "المحروس" - هكذا سموه - يصبح أسيراً لتلك السلطة، خاضعاً لها في تعليمه الذي يتولاه معلمون أشبه بالدمى، يسيرون عكس عقارب الساعة، وخاضعاً لكل التفاهات من حوله، ومسايراً لها، بعقليته التي تم تشكيلها وفقاً لإرادة السلطة، وخاضعاً لتلك الغانية اللعوب، المتقلبة دائماً (اسمها في العرض دنيا آدم) بكل ما يحمله الاسم من دلالة.

هذا الخيط انتظم العرض، وأقام دراميته، لكن الخيوط الأخرى المتفرعة عنه أو الموازية له، ألقت بكثافتها في ما يشبه المطارق التي نزلت على رؤوس المشاهدين، ربما لتربكهم، بالمعنى الإيجابي، وتضعهم أمام مأساتهم وتحثهم على رفض هذا العالم التافه الذي لا يحتفي بالفن والكتابة والإنسان. وتسعى سلطاته إلى إجهاض أحلام كل من يحمل قيمة، أو يملك عقلاً نقدياً يسعى من خلاله إلى تصحيح مسارات هذه الغابة الموحشة التي لا تعترف سوى بالزيف، ولا تقدر غير السطحي، والغارق في الاستسلام. إنه عرض ثوري بامتياز، وإن لم يرفع أي شعارات.

صور مركبة

ثورية العمل تجسدت فنياً في صورته التي سعت إلى الانحراف عن المتداول، ولم تركن إلى الاستسهال. فعبر أكثر من مئة وأربعين دقيقة، هي مدة العرض، هناك حشد من الصور المتراكبة والمتواترة، شذرات من هنا وهناك، ومن نصوص الكاتب، تبدو متنافرة، لكنها في جوهرها تتكامل، وتشكل معاً في النهاية صورة كلية لعالم موحش، بل ووحشي وغير إنساني.

أكثر من ثلاثين ممثلاً وممثلة وراقصاً وراقصة وفناناً،  كان على المخرج دمجهم معاً في سبيكة واحدة، وتشكيل الفضاء المسرحي، المتقشف في ديكوراته الرمزية، من خلال أجسادهم وأصواتهم وحركتهم، وتقديم أكثر من حدث أو فعل في وقت واحد، من دون أي خلل، أو طغيان عنصر على الآخر. وهو جهد كبير قام به المخرج الذي أمضى أكثر من عام في إعداد عرضه.

لم يعتمد مصمم الديكور على كتل ضخمة أو ثابتة، بل أتاح مساحة واسعة للممثلين والراقصين، واعتمد على إسقاط بعض القطع من أعلى المسرح. وتجلت مهارته وقراءته الواعية لطبيعة العرض في عدة مشاهد، مثل مشهد الولادة حيث جعل السرير في وضع رأسي، وكأنه يتماهى مع عبثية المشهد. وكذلك مشهد الزوج والزوجة داخل بيتهما، ومشهد المحاكمة الذي تعمد فيه تشويه أجساد القضاة وإظهارهم بشكل أقرب إلى السريالية، متماهياً كذلك مع طبيعة المحاكمة وغرائبيتها. فضلاً عن الملابس شبه التجريدية في أغلب المشاهد التي تناسب تجريدية العرض، حيث لا زمان أو مكان محددين، تدور فيهما الأحداث. فنحن أمام الإنسان في أي مكان وأي زمان، هي ليست لعبة للهروب من الرقابة، بقدر ما هي إشارة إلى عمومية الحالة التي تشمل الجميع، وتلقي بظلالها عليهم.

ذوبان في المجموع

لعبت الإضاءة (صممها أبو بكر الشريف) دوراً مهماً في ملاحقة كل هذا الحشد من الصور، وتعددت مصادرها وألوانها، وتطلبت جهداً كبيراً ودقة شديدة، بخاصة أنها تصاحب أكثر من حدث في وقت واحد، وهو ما تطلب مهارة فائقة في تصميمها وتنفيذها. وكذلك الموسيقى والمؤثرات الموسيقية (وضعها فريق سي بيمول) حيث تضافرت الموسيقى والإضاءة والديكور وحركة الممثلين في تشكيل سينوغرافيا العرض، في شكل أفضى إلى صورة مسرحية على قدر عال من الحيوية والإمتاع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التمثيل في مثل هذا النوع من العروض يتطلب قدراً من التقشف، أو بمعنى أدق قدراً من إنكار الذات والذوبان في المجموع. فلا مونولوغات أو ديالوغات مطولة يستعرض فيها الممثل إمكاناته، ولا استعراضات أو رقصات منفردة. كل فرد على خشبة المسرح اكتفى بالحدود الدنيا من فنون الأداء، تمثيلاً أو رقصاً أو غناء، وقدم ما هو مرسوم له بعناية، ليشكل مع غيره في النهاية الصورة الكلية للعرض، ويعمل على توصيل الرؤية التي سعى المخرج إلى طرحها.

"المسيرة الوهمية للتفاهة" عرض صعب في صناعته، صعب في تلقيه، موجع في رسالته لمن استطاع فك رموزها. وهو أولاً وأخيراً ممتع في مراوحاته ومراوغاته وصوره المتشابكة، ممتع للحواس كافة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة