Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لحسم الشكوك... كيف يتتبع محققو الفيروسات أصل تفشي المرض؟

تصورات هندسة "كوفيد-19" في مختبر ووهان لم تكتمل والتطور الطبيعي هو الأرجح

أعضاء في فريق تابع لمنظمة الصحة العالمية خلال زيارة أحد المستشفيات في ووهان الصينية في 29 يناير الماضي (رويترز)

من أجل منع الأوبئة المستقبلية يحتاج العلماء والناس عموماً إلى اكتشاف أصل الفيروسات التي تسببها، لكن أصل فيروس "الإيدز" لم يُعرف إلا بعد 20 سنة، ولا يزال العلماء يجهلون أصل "إيبولا"، على الرغم من أنه تسبب بأوبئة دورية منذ السبعينيات، لكن مع الضغوط الدولية المتزايدة لمعرفة أصل فيروس "كوفيد-19" التي كان آخرها طلب صريح توجه به قبل 3 أشهر، الرئيس الأميركي جو بايدن، لأجهزة استخباراته بكشف حقيقة هذا الأمر، يظل السؤال هو كيف يمكن معرفة ذلك؟

من أين أتى الفيروس؟

في كل مرة يتفشى فيها وباء واسع الانتشار، يكون أحد أهم الأسئلة الأولى التي يطرحها العلماء والجمهور هو، من أين أتى هذا؟ والإجابة المختصرة هي أن تعقب أصول الفيروس يتطلب مزيجاً من العمل الميداني المكثف والاختبارات الشاملة وقليلاً من الحظ.
ويشير علماء الفيروسات إلى حقيقة أن فيروسات عدة ومسببات الأمراض الأخرى التي تصيب البشر تأتي من الحيوانات، بمعنى أن الفيروسات الحيوانية تنتقل إلى البشر وتكيفت لتنتشر بينهم.
ويرى محققون علميون، أنه من المهم بدء البحث عن الأصل الفيروسي من طريق اختبار الحيوانات المريضة في موقع أول إصابة معروفة للبشر، ولكن غالباً لا تظهر أي أعراض على الحيوانات المضيفة (المصابة بالفيروس)، ذلك أن الفيروسات تتكيف ومضيفيها مع مرور الوقت، لذلك لا تسبب غالباً أعراضاً مرضية واضحة حتى تنتقل إلى كائن حي مضيف جديد. ولهذا السبب لا يمكن للباحثين التركيز فقط في دراستهم عن أصل الفيروس على الحيوانات المريضة فحسب.
وعلاوةً على ذلك، فإن الارتباط بين الناس والطعام الحيواني هو أمر متغير، فالمكان الذي يعثر فيه الباحثون على أول شخص مصاب، ليس بالضرورة هو المكان الذي ظهر فيه الفيروس لأول مرة أو حتى بالقرب منه.

لماذا الخفافيش؟
في حالة "كوفيد-19"، كانت الخفافيش هي أول مكان واضح يمكن البحث فيه، لأنه كان معروف أن الخفافيش مضيفة لفيروسات عدة من عائلة كورونا السابقة، وهي المصدر المحتمل للأمراض الحيوانية المنشأ الأخرى مثل "سارس" و"ميرس".

وبالنسبة إلى "سارس كوفيد-2" وهو الفيروس المسبب لـ "كوفيد-19"، فقد كان أقرب شيء ذا صلة وجده العلماء، هو مجموعة من فيروسات الخفافيش التاجية التي اكتشفها علماء "معهد ووهان لعلم الفيروسات" خلال عامي 2011 و 2012، حين كانوا يبحثون عن فيروسات عائلة كورونا ذات الصلة بـ"سارس" في الخفافيش، عقب جائحة وباء "سارس كوفيد-1" في عام 2003. وجمع العلماء حينها عينات من البراز ومسحات الحلق من الخفافيش في موقع في إقليم يونان في الصين الذي يقع على بعد 1500 كيلومتر من مختبر "معهد ووهان لعلم الفيروسات"، حيث بدأ العلماء بمزيد من الدراسات لهذه العينات.

ولاختبار ما إذا كانت فيروسات الخفافيش التاجية يمكن أن تنتقل إلى البشر، أصاب الباحثون خلايا كِلى قرد وخلايا مشتقة من ورم بشري بالعينات التي جلبوها من إقليم يونان الصيني، واكتشفوا أن عدداً من فيروسات الخفافيش التاجية يمكن أن تتكاثر في الخلايا البشرية، ما يعني أنه من المحتمل أن تنتقل مباشرة من الخفافيش إلى البشر من دون مضيف وسيط. ولكن نظراً لأن الخفافيش والناس لا يتلامسون عادةً بشكل مباشر، لا يزال علماء يعتقدون أنه من المحتمل وجود مضيف وسيط.

البحث عن أقرب صلة

ولكن كيف يُحدَد مدى الارتباط الوثيق بين فيروس حيوان بري والفيروس الذي يصيب البشر؟ يقوم العلماء بذلك من خلال دراسة واكتشاف التسلسل الجيني للفيروس، ويشمل ذلك تحديد ترتيب النيوكليدات وهي اللبنات الأساسية للحمض النووي التي تشكل الجينوم الذي يحتوي على كل المعلومات اللازمة لبناء الكائن الحي ونموه وتطوره، وكلما زاد عدد النيوكليوتيدات المشتركة في التسلسلات الجينية بين الفيروسين، كلما كانا أكثر ارتباطاً.
وأظهر التسلسل الجيني لفيروس الخفاش التاجي تطابقه بنسبة تزيد على 96 في المئة مع فيروس "كوفيد-19"، ويعني هذا المستوى من التشابه أن الأخير، ربما نشأ في الخفافيش، لكنه لا يزال بعيداً جداً عن أن يكون هو الجد الأعلى المباشر لـ"كوفيد-19"، ما يؤكد احتمال أن يكون هناك مضيف آخر أُصيب بالفيروس من الخفافيش ونقله بعد ذلك إلى البشر.

هل من مضيف وسيط؟

ونظراً لظهور بعض الحالات المبكرة المصابة بـ"كوفيد-19" لدى الأشخاص المرتبطين بسوق الحيوانات البرية في ووهان، تزايدت التكهنات بأن أحد هذه الحيوانات التي تُباع كطعام في السوق، كان المضيف الوسيط بين الخفافيش والبشر، ومع ذلك لم يجد الباحثون فيروس كورونا في هذه الحيوانات. ولكن عندما تم اكتشاف فيروس كورونا لاحقاً في كمية من حيوانات البنغولين، التي صودرت خلال عملية لمكافحة التهريب في جنوب الصين، قفز كثيرون إلى استنتاج أن "كوفيد-19" انتقل من الخفافيش إلى البنغولين قبل أن ينتقل مرة أخرى إلى البشر، لكن التحليل الجيني كشف أن الفيروس المتواجد في البنغولين متطابق بنسبة 91 في المئة فقط مع فيروس "كوفيد-19"، ما يستبعد احتمال انتقاله من البنغولين إلى البشر.

إبرة في كومة قش

ولتحديد أصل فيروس "كوفيد-19"، يتطلب الأمر جمع عينات كثيرة، وهي مهمة صعبة للغاية، ذلك أن أخذ عينات من الخفافيش يستغرق وقتاً طويلاً ويحتاج إلى أخذ احتياطات صارمة ضد العدوى، فضلاً عن أن فيروسات كورونا المرتبطة بـ"سارس" في الخفافيش منتشرة في جميع أنحاء آسيا بما في ذلك تايلاند واليابان، فستكون المهمة أشبه بالبحث عن إبرة صغيرة وسط كومة قش كبيرة جداً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


شجرة العائلة

ولحل لغز الأصول الفيروسية وحركة انتقالها، لا يتعين على العلماء فقط العثور على القطع المفقودة من عينات الخفافيش والحيوانات البرية الأخرى، ولكن أيضاً معرفة كيفية انسجامها معاً، وهذا يتطلب جمع عينات فيروسية من الإصابات البشرية ومقارنة تسلسلاتها الجينية مع بعضها بعضاً، ومع الفيروسات الأخرى المشتقة من الحيوانات.
ولتحديد كيفية ارتباط هذه العينات الفيروسية ببعضها بعضاً، يستخدم الباحثون برامج كمبيوتر متخصصة لبناء شجرة عائلة الفيروس، أو ما يسمى علمياً بنسل الفيروس، حيث يقارن الباحثون التسلسل الجيني لكل عينة فيروسية ويجرون مقارنات بين أوجه التشابه والاختلاف الجينية، حيث يُعدّ الفيروس الذي يحمل أكبر قدر من التشابه الجيني بمثابة الوالد بينما تصبح الفيروسات المتغيرة أو المتحورة مثل فيروس بريطانيا وجنوب أفريقيا بمثابة أشقاء. غير أن بناء شجرة عائلة يبدو أمراً معقداً بسبب حقيقة أن محددات ومقاييس التحليل المختلفة يمكن أن تفرز نتائج مختلفة، بالتالي يمكن لذات المجموعة من التسلسلات الجينية أن تنتج شجرتين مختلفتين تماماً.
ولهذا ثبت أن تحليل نشأة وتطور "كوفيد-19" عملية صعبة جداً، فعلى الرغم من توفر عشرات الآلاف من التسلسل الجيني لـ"كوفيد-19" حالياً، إلا أنها لا تختلف عن بعضها بعضاً بدرجة تكفي لتكوين صورة واضحة عن كيفية ارتباط مع بعضها بعضاً.

فيروس مُختلَق أم طبيعي؟

ولكن يظل السؤال الأكثر إرباكاً وإثارة الذي لا تتوافر له إجابة قاطعة حتى الآن هو، هل تم تخليق أو هندسة فيروس "كوفيد-19" في مختبر ووهان لعلم الفيروسات، أم أنه تطور بشكل طبيعي؟ وفي حين تؤشر الأدلة الحالية على عدم هندسة "كوفيد-19"، فقد تصاعدت في الأيام الأخيرة نظريات أخرى تطالب بإجراء مزيد من التحقيقات حول الأمر، بخاصة بعدما طالب الرئيس الأميركي جو بايدن أجهزة الاستخبارات الأميركية بتقديم تقرير حول حقيقة الفيروس.

وعلى الرغم من تكهنات هندسة فيروس "كوفيد-19" في المختبر، إلا أن البعض يرونه مستبعداً لسبب علمي مجرد، وهو أنه عند مقارنة التسلسل الجيني البري الذي ظهر في الخفافيش مع التسلسل الجيني لـ"كوفيد-19"، تظهر الاختلافات بشكل عشوائي عبر الجينوم. ولو كان هناك فيروس تم تعديله هندسياً في المختبر لظهرت كتل واضحة من التغييرات التي تمثل تسلسلات مُدخَلة من مصدر فيروسي مختلف.
وبينما يظهر تسلسل فريد واحد في جينوم "كوفيد-19" يرمز إلى جزء من البروتين الذي يلعب دوراً مهماً في إصابة البشر بالمرض، إلا أنه من المثير وجود تسلسل مشابه له مع فيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية "ميرس" الذي يسبب مرضاً مشابهاً لـ"كوفيد-19".

وعلى الرغم من عدم وضوح كيفية اكتساب "كوفيد-19" هذه التسلسلات، إلا أن التطور الفيروسي يشير إلى أنها نشأت من عملية طبيعية، ولكن إذا ظهرت بيانات علمية جديدة وموثوقة حول منشأ "كوفيد-19" بما يغير من الاستنتاجات القائمة الآن، فلا شك أن ذلك سيكون جديراً بإعادة تقييم الموقف، من أجل معرفة أصل الفيروس، ما سيوفر أدلةً لفهم الأوبئة المستقبلية والتنبؤ بها، لكننا قد لا نعرف أبداً من أين أتى الفيروس بالضبط، بغض النظر عن الكيفية التي قفز بها فيروس "كوفيد-19" إلى البشر. ولهذا يحتاج الباحثون إلى مراقبة انتشاره وتلقيح أكبر عدد ممكن من البشر.

المزيد من صحة