Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مأزق العدالة وتداعياته السياسية في السودان

تساؤلات حول مدى إمكانية أن تسلم الخرطوم بالفعل متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية

بنسودا أثناء تقديمها إحاطة سابقة إلى أعضاء مجلس الأمن خلال جلسة افتراضية مفتوحة حول المحكمة الجنائية الدولية والسودان (موقع الأمم المتحدة)

تشكل العدالة في السودان قيمةً تم إهدارها تاريخياً، سواء على الصعيد التنموي، أو السياسي، وهو ما يبرر ربما حالة التشظي الراهنة للتراب الوطني السوداني، والحرب الأهلية التي دارت على مدى نصف قرن تقريباً، ناهيك بنزاعات مسلحة ما زالت ماثلة.
هذه الحالة جعلت المحكمة الجنائية الدولية طرفاً في المعادلة السياسية السودانية الداخلية بعد تورط الرئيس السابق عمر البشير ونظامه في انتهاكات ضد الإنسانية في إقليم دارفور اعتباراً من عام 2003، أسفرت عن حرق قرى ونزوح عشرات الآلاف، وضحايا أرقامهم النهائية غير مستقرة بعد.

في السياق، زارت المدعية العامة لمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، دارفور، أخيراً، وجددت مطالبتها بتسليم المتهمين في انتهاكات دارفور إلى المحكمة، كما تجددت أيضاً في الخرطوم التظاهرات المطالِبة بكشف المتورطين في أحداث فض "اعتصام القيادة العامة" بالقوة في 3 يونيو (حزيران) 2019، وزاد عدد ضحاياه على 100 ضحية، جرت محاولة إخفاء بعض جثثهم في عمق نهر النيل.

وعلى الرغم من تكثيف الضغوط داخلياً وخارجياً في شأن تحقيق العدالة في السودان، تبدو مسألة الوعي بمفهوم العدالة الانتقالية غائبة، وهياكلها المتعارف عليها دولياً مفقودة بإرادة سياسية كما يظهر، وذلك بسبب أن تلك العدالة تتطلب بداية الاعتراف بالجرم، الأمر الذي لم تُقدم عليه أي من الأطراف السياسية الراهنة، التي تلوح مؤشرات حول مسؤوليتها عن فض ذلك الاعتصام بمنهج عنيف، أو تورطها بارتكاب انتهاكات جسيمة في إقليم دارفور.


نتائج تحقيق العدالة
وطبقاً لهذا المشهد السياسي المأزوم، فإن هناك مخاوف حقيقية في شأن نتائج عدم تحقيق العدالة في السودان وطبيعة تداعيات ذلك على المعادلة السياسية في البلاد من جهة، والاستقرار الداخلي من جهة أخرى.

فعلى صعيد إقليم دارفور، وبسبب زيارة فاتو بنسودا، المدعية العام للمحكمة الجنائية الدولية، والتي تتضمن زيارة معسكرات النازحين في دارفور، تدور تساؤلات في شأن مدى إمكانية أن تسلم الخرطوم بالفعل متهمين بارتكاب الجرائم. وتطول القائمة التي تحمل أسماء هؤلاء لتشمل 50 فرداً طبقاً لقرار مجلس الأمن الصادر في هذا الصدد، لكن المعضلة تتمثل في أنه يتقدم هؤلاء المتهمين، عمر البشير، المنتمي أساساً إلى المؤسسة العسكرية السودانية، والتي من غير المتوقع طبقاً للمعادلات الراهنة أن تسلم أحد منتسبيها، مهما كان حجم جرائمه السياسية، بحيث سيتجه الرأي في الغالب إلى إخضاعه لمحاكمة محلية، وخاصة أن السودان لم يوقع على اتفاقية روما المنشئة للمحكمة الجنائية الدولية.

في هذا السياق، فإن الأسئلة لا تتوقف أيضا في شأن إمكانية أن تتنازل المحكمة عن تسلم شخص البشير، بينما تصر على تسلم ما دونه، خصوصاً أن بنسودا طالبت بتسلم أحمد هارون، وزير الداخلية السوداني الأسبق، والذي كان أحد الأرقام السياسية والأمنية المهمة في زمن البشير، وذلك على خلفية تسليم علي كوشيب (أحد أبرز قادة ميليشيات الجنجويد) نفسه للمحكمة، وهو ما يبدو أنه شكّل ركناً مهماً من أركان أدلة إضافية على ارتكاب الانتهاكات وجعل الجنائية الدولية في موقف أقوى من فترات سابقة، حيث رأت بنسودا ضرورة محاكمة هارون وكوشيب معاً، وهو ما أعطى في شأنه رئيس الوزراء السوداني عبدلله  حمدوك إشارة خضراء، باعتبار أن هارون في النهاية شخص مدني. كما تكتسب زيارة المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية إلى السودان زخماً إضافياً هذه المرة بوجود مني أركو مناوي على رأس السلطة في إقليم دارفور باعتباره الحاكم العام، وهو القادم من القوات المقاتلة في دارفور وفصيله طرف رئيس في اتفاقية سلام جوبا، التي نصت على ضرورة تسليم المطلوبين إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن الحرب في ذلك الإقليم المضطرب.

وقد استغل مناوي موقعه الجديد بالفعل، ومارس ضغوطاً على المجلس الانتقالي السوداني، خلال لقائه مع بنسودا في الخرطوم، إذ طالب بضرورة أن تلتزم السلطات القضائية السودانية بالإسراع في تطبيق القانون على مرتكبي جرائم الحرب في دارفور طبقاً لقرار المحكمة التي أصدرت في أعوام 2007 و2009 و2010 و2012، مذكرات اعتقال بحق كل من البشير، ووزير الدفاع الأسبق عبدالرحيم حسين، ووزير الداخلية الأسبق أحمد هارون، وعلي كوشيب بتهم ارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في دارفور.

تواصل الاضطرابات

وتبدو المفارقة الأساسية الراهنة في إقليم دارفور أنه على الرغم من إنهاء حكم البشير فإن هذا الإقليم لم يهدأ خلال العامين الماضيين، حيث تتوالى فيه الاشتباكات المسلحة، التي كادت أن يسقط ضحيتها وزير العدل في حكومة الثورة الأولى، نصر الدين عبدالباري، بعد سقوط  طائرة كان مقرراً أن يكون من ضمن ركابها، كما نتج عنها نزوح نحو 2000 شخص من دارفور إلى مخيمات في تشاد، طبقاً للأمم المتحدة. كما يعيش إقليم دارفور احتقاناً سياسياً بسبب التعجل في تعيين حاكم له قبل مرحلة استكمال هياكل السلطة الفيدرالية، وهو ما يخلق حساسيات بين الولاة الحاليين للأقاليم والحاكم، كما يعطل نسبياً إجراءات تأمين الإقليم.

ولا يبدو أن ملف دارفور بعيداً عن مجريات الخرطوم الراهنة، والتي تأزمت فيها الأوضاع خلال الأيام الماضية بعد مقتل شرطي في التظاهرات الأخيرة برصاص مجهول، كما قُتل مراهق تقبع جثته في مشرحة مستشفى "التميز" (جنوب العاصمة) التي تشهد اعتصاماً مفتوحاً منذ أشهر بسبب اكتشاف عشرات الجثث فيها لم يتم الإعلان عنها أو معرفة هويتها، وذلك ضمن إطار تظاهرات متتالية تطالب بالعدالة لضحايا فض اعتصام القيادة العامة، فضلاً عن سقوط ثلاثة قتلى في تظاهرات مماثلة جرت في شهر رمضان الماضي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


الجهة المسؤولة واحدة
ولعل سبب التشابك بين ملفَي دارفور وفض القيادة العامة، هو أن الأطراف المسؤولة عن كليهما تبدو واحدة، ويتبين أن الإفصاح عن مسؤوليتها سيكون مؤثراً على المشهد السياسي السوداني، ولعل ذلك هو ما يفسر الاحتكاك اللفظي بين المكونات العسكرية السودانية في مستوياتها القيادية، وحالة الاستعداد القصوى التي مارستها الأطراف في معسكراتها خلال الأيام القليلة الماضية.

وفي ظل هذا المشهد المأزوم، يبدو أن نتائجه ستكون مؤثرة بشكل أساسي على تنفيذ اتفاق سلام جوبا، إذ إن القوات الأمنية المنوط بها تنفيذ الاتفاق، مؤلفة من القوات المسلحة السودانية، و"قوات الدعم السريع".

أما على المستوى السياسي فقد يبدو أن الرابح الأكبر هم فلول نظام البشير وحزبه "المؤتمر الوطني"، وتنظيمه الإسلاموي "الجبهة القومية الإسلامية"، حيث تسعى القوى الإسلاموية السودانية إلى تحقيق هدف أساسي، وهو إنهاء الفترة الانتقالية وعدم اكتمالها طبقاً لما هو مقرر لها طبقاً للوثائق الدستورية المبرمة، وذلك بأحد سيناريوهين، الأول هو تسلم المؤسسة العسكرية السلطة تأثير ارتباك سياسية وفوضى في الشارع يصنعها الإسلاميون أنفسهم، أو انتخابات مبكرة تحت مظلة الارتباك السياسي الراهن، المؤسَس على الانقسامات بين القوى السياسية والمكون المدني السوداني.

وقد يظهر أن نتائج كلا السيناريوهين ستعيد فلول البشير إلى سدة الحكم، وذلك في ضوء أن هياكل المؤسسة العسكرية السودانية منتمية تاريخياً إلى "الجبهة القومية الإسلامية"، وأن العناصر غير المنتمية لها قد تكون متعاطفة في شبكة من العلاقات الاجتماعية، ذات التأثير الكبير في السودان.

أما سيناريو الانتخابات المبكرة فمن شأنه أن يعيد رموز "حزب المؤتمر الوطني" إلى سدة الحكم، فهم ما زالوا يملكون مفاصل الدولة الاقتصادية، كما أن المسرّحين منهم خلال العامين الماضيين بقرارات حكومية، تركوا مكاتبهم فارغة من أي مستندات تساعد في تسيير عجلة العمل.

إجمالاً، يبدو المشهد السياسي والأمني السوداني مشحوناً بتوتر قد يكون تفريغه دون رشد وطني، كارثةً على السودان ومحيطه الإقليمي معاً.

المزيد من العالم العربي