Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"حانة الست" تبرز الجانب الخفي لأسطورة أم كلثوم

رواية المصري محمد بركة بين التوثيق والتخييل السردي

أم كلثوم كما رسمها الفنان المصري الأرمني شانت افيديسيان (صفحة الرسام على فيسبوك)

تغني أم كلثوم: "حانة الأقدار/ عربدت فيها لياليها/ ودار النور/ والهوى صاحي". استدرج الشاعر طاهر أبو فاشا جمهور "الست" إلى صورة الحانة وليلها وروادها، مع مسحة ميتافيزيقية لا تخفى.

ومن تلك الأغنية استعار الكاتب المصري محمد بركة عنوان روايته "حانة الست: أم كلثوم تروي قصتها المحجوبة" (دار المثقف - القاهرة). وبكلمات الأغنية ختم النص وحياة الست. وليس أفضل من "الحانة" عنواناً وفضاء متخيلاً، لسرد حكايات تفتح التعتعة أبوابها الموصدة في الواقع. وهو ما يكمله العنوان الشارح والواعد: "تروي قصتها المحجوبة".

التحدي الأول

أم كلثوم إبراهيم السيد البلتاجي ليست فلاحة عادية، ولا مطربة عابرة، بل تأريخ لمصر والعالم العربي خلال ثلاثة أرباع القرن العشرين. كتب عنها ما لم يكتب عن أحد، ولها أتباع ومريدون، أكثر مما لدى أي فنان آخر.

ومن ثم فإن التحدي الأول للمؤلف يتمثل في سؤال: هل ما زالت لدى "الست" أسرار محجوبة؟ فسبق أن كتب عنها العشرات يوثقون سيرتها منهم نعمات أحمد فؤاد، ومحمود عوض، وسعد الدين وهبة، وفيكتور وسليم سحاب. أيضاً أم كلثوم حاضرة في عشرات الأعمال الإبداعية توثيقاً وتخييلاً، منها رواية "كان صرحاً من خيال" للكاتب اللبناني الأصل سليم نصيب، والتي صدرت بالفرنسية وصدرت ترجمتها إلى العربية عن دار "العين" في القاهرة، حيث ركزت على قصة الحب المزعومة مع أحمد رامي شاعرها ومستشارها الأول.

لعل امتياز "حانة الست" أنها ليست حكاية عنها، بل حكايتها المباشرة على لسانها، كما يتضح من الاستهلال: "لي عنق غليظ، أكثر غلظة مما تظنون. سمرة بشرتي تفاجئ كثيرين من جمهوري حين يطالعون صوري القديمة بعد معالجتها بالألوان. صوتي يقع في المنطقة الوسطى بين الذكورة والأنوثة. هل هذا هو السبب في فرادته الاستثنائية كنسخة وحيدة اكتفى بها الله فلم يكررها حين رآها شيئاً حسناً؟ كفي رجولية ضخمة وأصابعي لم توهب طراوة بناتكم الحسان".

اللعبة السردية

من يقرأ المفتتح سوف يتصور، للوهلة الأولى، أنه بإزاء مذكرات الست. لكن سرعان ما يتبدد هذا التصور، مع كشف اللعبة السردية، منذ البداية، بأن الست اختارت كاتباً (ليس المؤلف الحقيقي بالضرورة) فظهرت في أحلامه، وطالبته بأن يكتب قصتها، لاعباً دور "الوسيط النزيه": "سأهبك خلاصة حكاياتي وعطر مواقفي. وقع قطرات الغضب والحرمان، الغيرة والانتقام، مضافاً إليها لعبة الست، وهي ترتطم داخل كهفي البعيد السري. سأحدد مساحة الهامش وآفاق المتن، سحر المقدمة وشجن الختام. سأكون المؤلفة الحقيقية ويكفيك شرفاً أن تكون يدي التي أكتب بها".

هل تتناقض الحكايات ما بين البطلة الراوية، والكاتب بوصفه راوياً مساعداً، أم سيكون الرهان على كشف المسكوت عنه، وتأويل ما كان عصياً على التفسير في سيرتها الساطعة تحت ضوء كثيف؟

رجحت اللعبة السردية هدفها الجمالي، بتحطيم هالة المثالية والتقديس، والابتعاد عن الصورة النمطية والرسمية، كأن صاحبة السيرة نفسها أول المنزعجين من تصنيمها: "لقد تحولت إلى تمثال من شمع يقدسه الجميع. هرم من الكريستال ينتصب شامخاً على البعد من دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه واختبار ملمسه. لا ذرة تراب، لا سطر شخبطة على الورق المصقول". إنها سيرة لا تحارب نقاءها الموهوم فحسب، بل تقاوم أيضاً خطها الزمني التقليدي، وتجمع تخييلاً، ما لم يجتمع في الواقع.

الإطار المرجعي

أكد بركة في نهاية النص أن "الوقائع التي وردت في هذه الرواية حول حياة السيدة أم كلثوم صاغها خيال المؤلف استناداً إلى وقائع مغيبة وحقائق منسية أثبتنا بعض مصادرها". ورصد عدداً جيداً من الكتب والدراسات المعروفة، لتأكيد احترام الإطار المرجعي والتاريخي، فالرواية سيرة وقائع، لكنها تكتسب جدتها من تأويل تلك الوقائع، وملء فجواتها. قسمها المؤلف إلى سبعة وخمسين مقطعاً مرقماً، فجاء الأول عن الميلاد، والأخير عن الوفاة، لكن ـ إجمالاً ـ لم يلتزم السرد بدقة الترتيب الزمني، كما انغمس أكثر في ثلث العمر الأول، حيث الطفولة والصعوبات وبدايات الشهرة ومعاركها، ثم مر مروراً سريعاً على نصف العمر الأخير.

وشحن المؤلف الأحداث والتواريخ بالاستغراق في التفاصيل، فمثلاً نحن نعلم أن اسمها "أم كلثوم" وهو اسم غير شائع في مصر، لكننا لا نعلم أن أمها اعترضت على الاسم وفضلت "خضرة" أو "بدوية". وفي سياق نزع هالة القداسة، حللت "الست" بنفسها الصورة "الذكورية" التي فرضت عليها، في ملبسها وتصرفاتها، ضمن مجتمع قروي ذكوري، وتحت سلطة أب رجل دين صارم. إضافة إلى الكناية عن بعض الشخصيات بألقاب توحي باسمها أو هيئتها، مثل لقب "أمير الصحافة".

الموهبة تتفتح

غنت أم كلثوم الطفلة لرفيقاتها الكادحات معها في الحقول، وغنت لزوجة مرقص أفندي ناظر الزراعة، مقابل الحلوى. ثم تفتحت موهبتها أكثر عندما أنشدت مع والدها وأخيها في الموالد والأعراس، ثم تطور الأمر إلى مشاركات بسيطة في حفلات زفاف علية القوم، إلى جوار كبار المغنين: "يغني الشيخ صالح عبد الحي ليلة الفرح. وأغني الليالي السابقة على الفرح. يأتي راكباً وآتي ماشية. يحصد المجد وأكتفي بلقمة. يحتضن ريش النعام وأعانق أشواك حلم مراوغ يتلاعب بي مثل السراب".

فهذا الصعود المتدرج، لم يكن وردياً، بل شهد معارك وآلاماً وضرباً وشتيمة ومهانة، مرره المؤلف بسخاء التفاصيل الإنسانية، منها مثلاً أن إحدى المعجبات بصوتها، عندما رأتها لأول مرة ظنتها خادمة "الست" وليست "الست" نفسها! ومنها زواجها الأول من "الشيخ عبد الرحمن" صاحب مطبعة "الرغائب" صديق والدها، لتسهيل سفرها إلى العراق حيث رفضوا السماح لها بالزيارة وتقديم أربع حفلات مقابل مبلغ كبير، ما لم تكن "متزوجة"! كذلك مدحها للملوك مثل فاروق في مصر وفيصل في العراق، وفي الأغنية نفسها مع تغيير اسم الممدوح فقط! ومشروع زواجها العرفي من خال الملك، ثم ارتباطها بالملحن محمود الشريف.

إن السرد المتدفق لا ينغلق عند حدود النجومية، بل يمتد إلى تشعبات علاقاتها الإنسانية، وخلجات النفس، وشعورها بجسدها، ومشاعر الحب والإعجاب، والمفارقات الطريفة في انتقالها من أسفل المجتمع إلى الطبقة العليا المخملية. فالمعنى باستمرار يتجه إلى ما تحت السطح اللامع المصقول.

خطاب الراوية

تستعمل "الراوية" (أم كلثوم نفسها) لغة لا تلتزم بالمعجم المفترض لسيدة عاصرت القرن العشرين حتى منتصف سبعينياته، بل هي لغة مطعمة بأفكار ومفردات كثيرة جداً، تنتمي إلى الخمسين السنة التالية لرحيلها. فنجد عبارات مثل: "صراع وحوش الغنج ولبؤات التنهد في معركتها الأبدية لاصطياد الزبائن"، و"الوكيل الأبرز للإسفاف وصاحب اليد الطولى في الإباحية"، و"ديكور أستكمل به صورتي". عشرات العبارات يسهل العثور عليها، لا تنتمي مباشرة إلى عصر وثقافة الست، وهذا مفهوم بحكم أن "الراوية" هنا شخصية تخييلية، مرت في حلم المؤلف، فهي مطلعة على تغيرات العصر ومآلات البشر، بعد عقود من وفاتها. في الوقت نفسه، يعبر هذا الخطاب اللغوي، عن الصوت المضمر للراوي المساعد الذي يتلقى حكاياتها، ويتولى مهمة نشرها بالنيابة عنها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لذلك لا تطلق "الراوية" أحكامها وملاحظاتها على شريط حياتها فقط، بل إن الراوي المساند هو الآخر، يسجل تقييمه وأحكامه عليها وعلى مشاهير عصرها من محبيها ومنافسيها مثل الشيخ زكريا أحمد وعبد الوهاب ورامي. مع الميل إلى البت في بعض القصص والشائعات التي لاحقتها، مثل القول على لسانها: "كان الرجال جنساً مثيراً للقرف بالنسبة لي".

هكذا حفلت الرواية بآراء لاذعة، ومعارك، ومؤامرات، كأنها تريد بقارئها أن يصل تدريجياً إلى نتيجة مفادها: نعم أم كلثوم أسطورة، لكنها بأي حال لم تكن قديسة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة