لا يتوقف المخرج الجزائري مرزاق علواش عن مواصلة عمله السينمائي بشغف وحماسة اشتهر بهما منذ انطلاقته في السبعينيات. جديده الوثائقي، "نساء"، يلقي الضوء على واقع المرأة في بلاده، هذا الواقع المتأزم الذي لفت نظره منذ تظاهرات أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1988، وظل يقاربه في كل فيلم من أفلامه بطريقة أو بأخرى. في "نساء"، حرص علواش على دق أبواب المؤسسات والجمعيات التي تتولى الاهتمام بشؤون المرأة، تلك التي تُسمى "نسوية" في أدبيات اليوم. علواش، وفي يده كاميرا لم يضعها أرضاً يوماً، التقى عدداً من المناصرات لقضية المرأة الجزائرية وحقوقها المهضومة في أحيان كثيرة.
التظاهرات المطلبية التي مر عليها أكثر من ثلاثة عقود، فتحت المجال للمرأة كي تنخرط في الحياة السياسية، كما أنها أسهمت في تكاثر الحركات النسوية بعد الضغط الشعبي الذي مورس على السلطات للاستجابة للمطالب. وعندما أُعطيت المرأة تلك الحقوق، لم تتوان عن مناصرة قضايا حقوقية مهمة مثل التعذيب في السجون وسواها. إلا أن هذا كله، وبحسب الفيلم، انتهى مع دخول الجزائر مرحلة قاتمة من تاريخها: العشرية السوداء. فراح دور المرأة يتقلص خلال هذه الحقبة المأسوية من التقاتل والإرهاب. انطلاقاً من هذه النقطة، أخذ هذا الفيلم السجالي يطرح بعض التساؤلات في شأن ما تحقق خلال أكثر من ثلاثين عاماً من النضال من أجل تحرير المرأة من براثن المجتمع الأبوي، إلا أن الحصيلة التي يخرج بها الفيلم لا تبشر بمستقبل مشرق، إذ يتبدى جلياً أن مكانة المرأة بين اللحظتين التاريخيتين (ثورة 1988 وحراك 2019)، قد تراجعت بشكل لافت، وهذا ما تؤكده الأصوات النسائية التي يحاورها الفيلم بهدف محاصرة المسألة من كل الجوانب. هناك إحساس بأن كل شيء عاد إلى نقطة الصفر، وعلى النساء أن يناضلن بلا توقف من أجل الحصول على البديهيات.
يتعامل "نساء" مع جيل جديد من الفتيات اللواتي، خلافاً لأسلافهن، لا يخفن من إعلان موقفهن. هذا الجيل بات أكثر وعياً تجاه المظالم التي ما عاد من الممكن التساهل معها والقبول بها والسكوت عنها، كما كان رائجاً في السابق. فالزمن تغير والعالم بات قرية صغيرة والأفكار التقدمية التي تدعو إلى تمكين المرأة بدأت تتناقلها وسائط التواصل الاجتماعي. ما عاد هذا الجيل يخجل، فهو يعرف ماذا يريد وأي نضال يصب في مصلحته وإن افتقد للأدوات. كما أنه يعرف في أي مجتمع يعيش، وأي ضغط يمارس عليه كي تبقى الأمور على ما هي عليه. من خلال مجموعة نساء مختلفات عن بعضهن بعضاً، يحاول الفيلم الإتيان بفكرة شاملة عن المجتمع النسائي الجزائزي، كما أنه يرد الاعتبار إلى نساء محجبات لا يرين أي تناقض بين ارتداء الحجاب من جهة، وفرض المساواة بين الرجل والمرأة من جهة أخرى.
معاناة جزائرية
مرة جديدة، ينبش علواش في أعماق الموضوع الذي يتناوله. فهو لطالما عودنا على محاصرة الموضوع من كافة جوانبه السياسية والاجتماعية. سواء صوّر معاناة مواطنيه في إيجاد مكان لهم تحت الشمس الجزائرية ("الحراقة" ــ 2010)، أو صوّب كاميراه في اتجاه متاعب صاحب مكتبة ("الرجل الذي كان ينظر إلى النوافذ" ــ 1986)، فمن الصعب أن يعبر فيلم له الحياة الثقافية في بلاده، من دون أن يترك خلفه ردود فعل مؤيدة أو مستهجنة. مثلاً، في إحدى الدورات من مهرجان وهران السينمائي، أحدثت مشاركته جدلاً واسعاً من قبل صحافة كلاسيكية اعتادت أن تحاكم الفنانين وفق مبادئ أخلاقية.
على مدار نصف قرن من السينما، تغذت أفلام علواش من الخطاب الذي استطاع أن يبتكره من تجواله بين قارتين، أفريقيا وأوروبا. أي من الذهاب والإياب بين فرنسا والجزائر، دولتان تشاركان نحو قرن ونيف من التاريخ، ينطوي على استعمار وحروب واستغلال. كان علواش من السينمائيين الجزائريين الذين برزوا في منتصف السبعينيات بعدما ضاقوا ذرعاً من "سينما الأب". هؤلاء كانت السينما الإيطالية والـ"موجة الجديدة الفرنسية" مصدر إلهامهم. في هذه الأجواء المتمردة، أخرج علواش فيلمه الروائي الطويل الأول، "عمر قتلته الرجولة" عن موظف اسمه عمر نتابع حكاياته الصغيرة.
لم يعرف علواش الاستقرار كما غيره من السينمائيين الذين وجدوا في ملاذهم الآمن (يعيش في فرنسا) ما يشفي غليلهم. صلته بالمكان ظلت على حالها على مر العقود. وكانت رغبته في الرحيل من الجزائر تتبعها دائماً حاجة ملحة إلى العودة، كما هي الحال عند كثير من الشخصيات التي تجد الأمان في مكان، والعاطفة في مكان آخر، من دون أن تستطيع تقريب المسافة بين الاثنين. هناك النفي إلى الخارج وهناك أيضاً من يشعرون بالنفي في داخل بلادهم. تجربته نابعة من هذا الاحتكاك بين النفيين. وسينماه تستمد شرعيتها من الشرارة الناتجة من الاحتكاك. كثيراً ما عمل في أفلامه على ظروف الشباب في كل من الجزائر وفرنسا. "أن تكون منفياً في بلادك يعني أن تشعر بالظلم"، يقول علواش من دون أن ينسى في تذكيرنا بأن الجزائر تمثل الجنة على الأرض، بالنسبة إلى أولاد العائلات الميسورة الذين يتنقلون بسيارات الدفع الرباعي ويتشمسون في المسابح الخاصة، حيث لا يحق لأي جزائري الدخول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عندما التقيته في مهرجان البندقية ذات مرة، أخبرني أنه عندما كان شاباً، كان يُقال له، "السفر ينحت الإنسان". وجزء من رغبته في الرحيل كان ليرى آفاقاً أخرى. كان السفر أكثر حرية في تلك الحقبة، "البعض كان يذهب ولا يعود. إنه النفي. الذهاب إلى مكان آخر لتحقيق الذات والنجاح أمر شرعي تماماً. فعل الرحيل هذا قائم منذ زمن بعيد. هذا هو العالم. الأشياء فيه لا تكف عن التحرك. اليوم، العالم مقسوم بين الذين يملكون حرية التحرك والانتقال متى يشاؤون وأين، وأولئك المسجونين في بلدانهم الذين لا يملكون إلا الذهاب إلى بلدان تشبههم وتقبلهم".
أحوال الشباب في الجزائر، من رجال ونساء، يؤلم علواش إلى أبعد حد. والسبب الأساسي لهذا الغضب الذي يسكنه، هو أن الجزائر ليست بلداً فقيراً. هناك ثروات طبيعية، الغاز والبترول. وهو بلد نسبة الشباب فيه تبلغ الـ70 في المئة. يشفق المخرج السبعيني على هؤلاء الشباب الذين نراهم واقفين في أزقة الأحياء الشعبية وتطلق عليهم تسمية "الحيطيست". "إذا ذهبتَ إلى الشوارع الداخلية، فسترى هؤلاء الشبان وترى في عيونهم اليأس"، يخبرك وفي كلماته أسى. قبل أن يروي لك سبب هذا الحزن الدفين. فهو متحدر من هذا المكان. صحيح أتيح له الرحيل، لكنه عاش هذا الوضع في مقتبل عمره. كان يعتقد دائماً أن الأمور ستتحسن إلى الأفضل، لكن هذا لم يحدث. "الأجيال الجديدة تقول لنا الآن إن زمننا كان جيداً. وأنا أقول إن زمننا لم يكن جيداً، لكن زمنكم أسوأ".