بعبارات واضحة لا لبس فيها، قال الدبلوماسي الأميركي الرفيع السابق نيكولاس بيرنز، "إن اليونان أهم شريك عسكري للولايات المتحدة في شرق المتوسط"، مضيفاً، "أنه قبل سنوات كان يمكن أن يقول معظم الأميركيين إنها تركيا، لكن الأخيرة لم تعد كذلك، بالنظر إلى كل الاضطرابات التي ترتبط بها الولايات المتحدة معها وقائدها الاستبدادي". واصفاً اليونان بأنها "ركيزة للناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في المنطقة".
تعليقات بيرنز، السفير السابق لدى الناتو وأثينا وأستاذ السياسة الدولية بجامعة هارفارد، جاءت الثلاثاء الماضي، خلال فعالية على الإنترنت لصندوق مارشال الألماني في بروكسل. إذ تحدث عن اليونان كشريك استراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة، وقال، "إن واشنطن أيضاً شريك يمكنه مناصرة احتياجات اليونان لتعزيز أمنها"، مشدداً على ضرورة أن تنتبه الولايات المتحدة والناتو "للانتهاكات التركية للمجال الجوي اليوناني والمياه اليونانية شرق بحر إيجة وشرق المتوسط، للتأكيد على أن لقبرص واليونان الحق لاستغلال ثرواتهما من الغاز الطبيعي".
جاءت كلمة السفير الأميركي لدى أثينا، جيفري باييت، خلال اللقاء لتؤكد تعليقات بيرنز، قائلاً، "إن لديه تفويضاً واضحاً من الرئيس جو بايدن والإدارة الأميركية لرفع الشراكة بين البلدين إلى مستوى أعلى". وأضاف، "أن اليونان عادت إلى المرحلة الاستراتيجية كشريك عسكري للولايات المتحدة يلعب دوراً مهماً للغاية في شرق البحر المتوسط وغرب البلقان".
قوة صاعدة
في ظل العلاقات الآخذة في التدهور بين تركيا وحلفائها الغربيين، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي اللذين وقعا بالفعل عقوبات ضد أنقرة بسبب سياساتها تجاه جيرانها في المنطقة وشراء منظومة دفاع جوي روسية، يبدو أن اليونان تسارع نحو تقديم نفسها كبديل استراتيجي ديمقراطي في المنطقة، وهو ما بدا من توصية في تعليقات بيرنز قائلاً، إنه "في الوقت الذي أصبحت فيه تركيا وروسيا صعبتين للغاية، وترى الصين لنفسها مكاناً في السياسة الخاصة بمستقبل الشرق المتوسط، فلا شك أن اليونان هي ركيزة للناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة شرق المتوسط". مضيفاً، "أن اليونان لديها حكومة تتمتع بالثقة والرؤية الاستراتيجية العظيمة".
على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالاقتصاد اليوناني عام 2008، وبقيت آثارها لسنوات طويلة حيث تقلص الاقتصاد بنسبة 26 في المئة بين عامى 2008 و2014، لكن هناك آفاقاً نحو التفاؤل، إذ من المتوقع أن ينمو الاقتصاد بنسبة 4.1 في المئة عام 2021. ويقول مراقبون، "إن هناك شعوراً جديداً بالثقة بعد 10 سنوات من التقشف والإصلاحات المؤلمة التي فرضها الاتحاد الأوروبي على اليونان. فعلى الرغم من صغر حجمها وعدد سكانها نسبياً، فإن لديها كثيراً من الأسباب للشعور بالثقة، ما يجعلها قوة متوسطية صاعدة".
ويقول إيمانويل كاراغيانيس، الأستاذ لدى كلية كينغز كوليدج لندن، "إن اليونان أقدم ديمقراطية برلمانية في جنوب شرقي أوروبا وشرق البحر المتوسط، ومندمجة بالكامل في المجتمع الغربي للدول. وأصبحت عضواً في الناتو عام 1952، وانضمت إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية عام 1981. كما أنه من الصعب التقليل من القيمة الجيوستراتيجية لليونان، التي تتمتع بموقع متميز بين ثلاث قارات، كما أنها تمتلك أكبر أسطول تجاري يعمل على مستوى العالم، وتعمل موانئ بيريوس وتيسالونيكي وألكساندروبوليس كبوابات إلى الاتحاد الأوروبي ومنطقة البحر الأسود. والأهم من ذلك، فإن الاكتشاف الأخير لاحتياطيات كبيرة من الغاز في شرق البحر المتوسط تعني أن اليونان يمكن أن تعمل قريباً كمركز للطاقة بين الأسواق الأوروبية والمنتجين الإقليميين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نجحت حكومة رئيس الوزراء الحالي كيرياكوس ميتسوتاكيس في الاستثمار بالشراكات الثنائية وعلى صعيد سياسة خارجية إقليمية نشطة تقوم على الدبلوماسية، على نقيض حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي اتخذ نهجاً صدامياً مع جيرانه في المنطقة وحلفائه الغربيين. فحافظت اليونان على علاقات دفاعية وثيقة مع واشنطن وباريس، والأولى هي الحليف الرئيس لليونان نظراً للروابط التاريخية والجالية اليونانية الكبيرة التي تعيش في الولايات المتحدة. والأخيرة هي أقرب حليف لليونان في أوروبا، وفي هذا الصدد استطاعت أثينا عقد صفقات كبرى لشراء فرقاطات أميركية وطائرات حربية فرنسية.
وعلى الصعيد الإقليمي يقول كاراغيانيس، في مقال في موقع المعهد الملكي للخدمات المتحدة، "إن اليونان استطاعت تعزيز الروابط مع ليبيا، على الرغم من الانقسام السياسي لدى جارتها، وتقديم المساعدة للبنان بعد انفجار مرفأ بيروت، إذ كانت حاضرة بصمت. إضافة إلى ذلك، صاغت أثينا استراتيجية موازنة إقليمية من خلال التعاون مع دول الجوار الرئيسة مثل إسرائيل ومصر. كما تواصلت الحكومة اليونانية مع عديد من الدول العربية، مثل السعودية والإمارات".
تحالف استراتيجي جديد
على الرغم من الانقسام المتزايد بين الجمهوريين والديمقراطيين في الولايات المتحدة بشأن كثير من القضايا الداخلية وغيرها، لكنهم، بحسب الدبلوماسيين الأميركيين يتفقون تماماً على أهمية العلاقة مع اليونان. ومع ازدهار العلاقات الثنائية بين البلدين، منذ إدارة الرئيس السابق باراك أوباما ومروراً بإدارة دونالد ترمب وصولا إلى الإدارة الحالية برئاسة جو بايدن، نتيجة للجهود الدبلوماسية المكثفة، يتردد الحديث بأن تحالفاً استراتيجياً جديداً بين اليونان والولايات المتحدة، يمكن أن يكون بمثابة بديل لتركيا، وأن الولايات المتحدة تدرس استخدام الجزر اليونانية كبديل لقاعدة إنجرليك الجوية في تركيا.
وبحسب تقارير صحافية أميركية، نُشرت في سبتمبر (أيلول) 2020، يتردد داخل الكونغرس الحديث عن التخلي عن القاعدة الجوية في تركيا، بسبب السياسة الخارجية "المقلقة" للرئيس التركي، ما دفع بالمسؤولين الأميركيين إلى تكثيف الاستعداد للانسحاب منها، وربما استبدال جزيرة كريت اليونانية بها، التي تضم بالفعل قاعدة تابعة للبحرية الأميركية، وفقاً لسيناتور جمهوري رفيع ومحللين أميركيين تحدثوا إلى صحيفة "واشنطن إكسماينر" الأميركية العام الماضي.
وقال السيناتور، رون جونسون، الذي كان يترأس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية الأوروبية في مجلس الشيوخ بالكونغرس، "إن واشنطن عليها أن تستعد للأسوأ في حال اضطرت إلى الخروج من قاعدة إنجرليك، بسبب السياسة الخارجية لأردوغان". وأضاف جونسون، "نريد الحفاظ على وجودنا كاملاً في تركيا، لكن من موقف دفاعي، أعتقد أنه يتعين علينا النظر إلى حقيقة أن المسار الذي يسلكه أردوغان ليس جيداً". وأشار إلى أن اليونان قد تكون خيار واشنطن المناسب في حال انسحاب الجيش الأميركي من قاعدة إنجرليك.
في حين نفى البنتاغون تلك التقارير حينها، لكن الحديث عن الرغبة الأميركية في نقل القاعدة الجوية في ظل توتر العلاقات بين واشنطن وأنقرة، يتردد منذ عام 2019. فعقب الاجتياح التركي لشمال شرقي سوريا في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، تقدم أعضاء من الحزبين في مجلس الشيوخ الأميركي بمشروع قانون "مكافحة العدوان التركي"، يتطلب النظر في قواعد بديلة للعسكريين والأصول الأميركية في إنجرليك. وأعربت عضو لجنة القوات المسلحة في مجلس النواب كندرا هورن، حينها، عن قلقها الشديد من بقاء الأسلحة النووية الاستراتيجية في قاعدة جوية داخل الحدود التركية.
ويؤيد بعض المراقبين الخطوة كسبيل للضغط على أردوغان لتعديل سلوكه. ويقول بوريس زيلبرمان، مدير السياسة العامة والاستراتيجية لدى مركز "سي يو أف أي أكشن فاند"، للأبحاث في واشنطن، "أثبت حلفاؤنا في شرق البحر الأبيض المتوسط أنهم يمثلون ثقلاً موازناً فعالاً لتركيا، وأظهروا باستمرار نهجاً يعكس أولوياتنا". وأضاف، أن "الجهود المبذولة لتوسيع الوجود العسكري الأميركي في اليونان، على سبيل المثال، يجب تسريعها في ظل الإدارة المقبلة. وبالمثل، يجب إعادة نشر مزيد من الأصول الموجودة في تركيا إلى شركاء إقليميين أكثر ودية وأكثر أماناً".
وأشار زيلبرمان، في مقال منشور في مجلة "نيوزويك"، إلى "أن أداة العقوبات طالما كانت الأكثر فعالية في التعامل مع الرئيس التركي، وهو ما ثبت في الإفراج عن القس الأميركي أندرو برانسون الذي كان محتجزاً لدى أنقرة عام 2018، وكذلك استخدمت روسيا نفس الأداة بعد إسقاط الأتراك طائرة عسكرية روسية".
وبحسب تقارير سابقة لوسائل إعلام أميركية، أنفقت الولايات المتحدة أكثر من 150 مليون دولار في العامين الماضيين لتطوير قاعدة موفق سلطي الجوية في الأردن، إضافة إلى تطوير القواعد الأميركية في اليونان وقبرص.
لكن غرادي ويلسون، المدير المساعد لبرنامج تركيا لدى المجلس الأطلسي، (مركز أبحاث في واشنطن)، يرى أن التخلي عن تركيا من أجل اليونان (أو العكس)، لن يسهم في الاستقرار والسلام في المنطقة، وسيؤثر بشكل خطير في مصالح الولايات المتحدة.
هوية جيوسياسية جديدة وعودة دبلوماسية
وبعيداً عن جدل نقل القاعدة الأميركية، يقول كاراغيانيس "إنه نظراً لموقعها، يمكن لليونان بسهولة نشر الأصول العسكرية لجهود الأمن الجماعي في المنطقة. كما أنها واحدة من دول الناتو القليلة التي تنفق أكثر من 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. وقد شارك الجيش اليوناني والقوات الجوية في عديد من مهام الناتو بما في ذلك أفغانستان، وقدمت الدعم اللوجيستي لعمليات التحالف الدولي ضد تنظيم داعش. كما عملت البحرية اليونانية في شرق البحر المتوسط، وساعدت في إجلاء الرعايا الأجانب من لبنان خلال حرب 2006، وليبيا خلال الاضطرابات في 2014. علاوة على ذلك، تمتلك الدولة منشآت عسكرية حيوية للأمن الغربي".
في هذا السياق، تقوم أثينا ببناء هوية جيوسياسية جديدة كحصن للغرب في شرق المتوسط. وهذا يعني، بحسب كاراغيانيس، "أنه قد يكون للبلد مسؤوليات جديدة في إطار تخطيط حلف الناتو وأوروبا لقضايا الأمن الإقليمي. بالتالي، يمكن لليونان أن تصبح مزوداً للأمن يحمي المصالح الغربية في منطقة مضطربة بشكل دائم".
بينما تذهب مجلة فورين بوليسي "أن أثينا تعيد إحياء نفسها كقوة دبلوماسية، فمع عودة وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس، أخيراً، من مهمة سلام إلى إسرائيل وفلسطين، وذهاب رئيس وزرائها في جولة إلى شمال أفريقيا شملت طرابلس والقاهرة، تقوم اليونان بعودة دبلوماسية كبيرة شرق المتوسط. والشهر الماضي، عقدت أثينا والرياض اتفاقاً لنشر بطاريات باتريوت اليونانية داخل السعودية، وزار رئيس الوزراء اليوناني طرابلس لتنشيط العلاقات الدبلوماسية مع ليبيا، كما أجرى المسؤولون اليونانيون رفيعو المستوى محادثات لا حصر لها مع مصر والأردن والإمارات وقبرص.
ويقول إيوانيس غريغورياديس، رئيس برنامج تركيا في المؤسسة اليونانية للسياسة الأوروبية والخارجية في أثينا، "هناك بالتأكيد شهية جديدة في أثينا للمشاركة في جميع أنحاء المنطقة. اليونان تستعيد نفوذها في منطقة أهملتها لسنوات". مشيراً إلى أن هذا النشاط الجديد يقف وراءه مصدر قلق قديم، بشكل خاص، تركيا. ومع ذلك، يشير غريغورياديس إلى أن أثينا تفضل الحوار مع تركيا، بينما تستعيد دورها في الوقت نفسه دبلوماسيا وعسكريا.
ويضيف ديميتريوس تريانتافيلو، مدير مركز الدراسات الدولية والأوروبية لدى جامعة قادر هاس في إسطنبول، "إن التوترات المتزايدة مع أنقرة بشأن مجموعة من القضايا المختلفة جعلت العام الماضي دعوة للاستيقاظ للدبلوماسية اليونانية. فعلى الجبهتين الدبلوماسية والأمنية، أدركت اليونان أن الوقت قد حان لإعادة التفكير الاستراتيجي الكبير".
وأعطى انتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة دفعة للعلاقات بين اليونان والولايات المتحدة، حيث كان من المتوقع أن يكون الرئيس الجديد أكثر صرامة تجاه تركيا. ومن المقرر توقيع اتفاقية تعاون عسكري ثنائي جديدة بين أثينا وواشنطن، صيف العام الحالي، حيث من المرجح أن يتم توسيع القاعدة الأميركية في خليج سودا بجزيرة كريت اليونانية. وقال إيان ليسر، نائب رئيس صندوق مارشال الألماني، "كل هذا ساعد أثينا وأعطى رسالة مفادها أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ترى في الوقت الحاضر اليونان عضواً كاملاً في ناديهما".