أثار العمل الملحمي "كفاحي" الذي يجمع بين الرواية وأدب الخيال والسيرة الذاتية للأديب النرويجي كارل أوفه كناوسغارد (1968)، زوبعة في الأوساط الأدبية والمجتمع النرويجي، منذ صدور الجزء الأول عام 2009 وحتى الجزء السادس والأخير عام 2011، بمعدل يتجاوز 3500 صفحة. وما لم يتوقعه كناوسغارد هو الإعصار الذي عصف بعائلته وأقربائه الذين ورد ذكرهم في عمله، وتحديداً بسبب ذكرهم خلال استعراض مسيرة حياته، ابتداء من علاقته المرتبكة مع والده منذ طفولته وحتى وفاته، وصولاً إلى كيفية تعامله مع النجاح والشهرة غير المتوقعة لأعماله وأثر الإعلام السلبي على حياته وأسرته.
ولئن ترجم كتاب "كفاحي" بأجزائه الستة الى لغات عالمية عدة، فإن دار التنوير كانت سباقة عربياً في نقله إلى لغة الضاد، متيحة الفرصة أمام القراء العرب ليكتشفوا هذا الحدث الروائي العالمي. وقد أصدرت الدار حتى الان الأجزاء الثلاثة الأولى وستواصل إصدار الأجزاء الباقية، وقد أنجز الترجمة العربية المترجم السوري الحارث النبهان. وقد لقي الكتاب عموماً إقبالاً عربياً لا سيما في معارض الكتب.
وعودة الى سبب الزوبعة المستمرة حتى يومنا هذا مع صدور ترجمات بمختلف اللغات، فمرده شفافية كناوسغارد في سرد تفاصيل حياته صراحة وبجرأة لم يعتدها المجتمع النرويجي وغيره من المجتمعات مقارنة بالمجتمع الفرنسي مثلاً، الذي اعتاد على مثل هذا النوع من السير الذاتية التي تتمحور حول سرد الأحداث بأدق خصوصياتها. ويحاول كناوسغارد من خلال تجربته هذه مقاربة الواقع من فعل الكتابة، بهدف فهمه الدوافع والأحداث سواءً في ماضيه أو حاضره، وأثرها في تكوين شخصه عبر الزمن منذ الطفولة إلى يومنا هذا.
وتعامل النقاد والقراء من عشاق الكِتاب والأكاديمين، مع سلسلة "كفاحي" بجدية تامة، لكون كناوسغارد حقق نجاحه كروائي منذ صدور روايته الأولى عام 1998 "خارج العالم"، التي حازت جائزة النقاد الأدبية السنوية في النرويج، ليعتبر أول كاتب يفوز عمله الروائي الأول بمثل هذه الجائزة منذ تأسيسها عام 1950. و حصدت روايته الثانية "زمن لكل شيء" عام 2004، نجاحاً مماثلاً والعديد من الجوائز أيضاً.
علاقة مرتبكة
ركز كانوسغارد في مجلده الأول على علاقته مع والده حتى وفاته، ليذهب القارئ معه في رحلة عبر تأملاته وأفكاره حول تلك المرحلة وغيرها، ومنها قوله : "لطالما احتجت إلى فسحة كبيرة من العزلة، ومساحات شاسعة من الوحدة، وحينما لا أحصل عليها كما السنوات الخمس الأخيرة من حياتي، فإن شعوري بالإحباط يأخذني أحياناً إلى حالات من الهلع أو العدوانية".
وتمحور مجلده الثاني حول الحب في حياته منذ انفصاله عن زوجته الأولى وعشقه لمن أصبحت زوجته الثانية، والتوتر الناجم عن صراعه بين حياته العائلية وشخصه كمبدع. ويتجلى هذا الصراع في قوله: "الأدب ليس مجرد كلمات، الأدب هو ما تثيره الكلمات في نفس القارئ، هذا الأثر هو بحد ذاته الأدب، ليس بصورته التقليدية كما يعتقد العديدون". وهذه المقولة تعكس أسلوبه في السرد الذي يتجلى فيه كسره القواعد الأكاديمية، ليخرج من إطار الاختزال وبناء الحبكة وغيرها معتمداً على تداعيات النص المفتوح.
تساؤلات الراوي
ويسرد في المجلد الثالث، مسيرة طفولته وتجاربه كشاب يافع، ليتماهى القارئ في شخصه الذي يلعب دور الرواي، محاولاً خلال تلك المرحلة تجاوز الحدود مع نفسه، وما يميز هذا المجلد تلاعب كناوسغارد بالزمن متنقلا بين عدة مراحل منها تساؤله في منتصف الكتاب عن سبب تلاشي والدته المحبة والدافئة من ذاكرته، مقابل المساحة الأكبر التي يحتلها والده القاسي المدمن على الكحول .ليبحث في المجلد الرابع الذي كتبه خلال أربعة أسابيع، في هواجس وأحلام وتجارب من مراحل حياته التي عاشها من عمر 16 حتى 19، والتي يقول أنه عاشها كأي فتى في مثل هذا العمر من دون تفكير خارج إطار اللحظة المعيشة. ويبدأ من مرحلة انتقاله إلى قرية صغيرة للصيادين في شمال النرويج حيث عمل كمدرس. ويذكر أنها المرة الأولى التي عاش خلالها بمفرده، محاطاً بصقيع الشتاء ولياليه الطويلة، متدثراً بدفء سكان المنطقة الذين يمضون حياتهم في العمل والموسيقى والترويح عن النفس. ويستمر السرد بأسلوب فيه الكثير من الطرافة والمآزق والمواقف التي واجهها. ويصف بمهارة فائقة مشاعره في تلك المرحلة. ويحسب له النقاد الذين قاربوا بين إنجازه وإنجاز مارسيل بروست "في البحث عن الزمن المفقود"، تميزه بسهولة اللغة وغياب الغموض المستعصي على القارئ العادي.
يتمحور المجلد الخامس حول المرحلة التي يقرر فيها كناوسغارد أن يصبح فيها كاتباً، عندما كان عمره 19 عاماً حين انتقل إلى مدينة بيرجن ليستثمر زمنه في الكتابة عبر متابعة دراسته الأكاديمية. لكن جهوده وشغفه لا تؤتي ثمارها على العكس من زملائه بحيث يستعصي عليه الإلهام. وتتناقص ثقته بطموحه لكونه يريد الكثير ولا يعرف سوى القليل، وبالتالي لا يحقق أي شيء. ويدرك أن الدرب المتاح أمامه هو الكتابة عن الأدب إلى جانب اكتشاف الحياة والقراءة. وبالتدريج تبدأ تجربته في الكتابة تنضج، وبالتالي تتغيرعلاقته بالعالم من حوله. في تلك المرحلة يبني الكثير من الصداقات وتفشل علاقة الحب التي عاشها، ليصل إلى نقطتين مهمتين في حياته، إحداهما خبر وفاة والده، والثانية الانتهاء من كتابة روايته الأولى التي تحقق له نجاحاً كبيراً يدفعه إلى الهرب إلى السويد لتفادي العائلة والأصدقاء.
ثمن الصراحة
أبرز ما يميز المجلد السادس من "كفاحي"، الجزء الذي كتبه كناوسغارد حول مؤسس النازية هتلر وطبيعة الشر، والذي شغل 400 صفحة من أصل 1160، والمقارنة بين كتابه وكتاب مذكرات هتلر الذي يحمل العنوان نفسه، بحيث يبيّن عبر المقارنة غياب الصراحة والنزاهة في كتاب الأخير إلى جانب التعمق في شخصيته.
وسبق أن أثار العنوان الذي اختاره كناوسغارد حفيظة الناشر لدى نشر الجزء الأول، ليستثمر ذلك الفارق لاحقاً عبر المقارنة بين أسلوب كل من الكتابين. و تناول فيه أثر أصداء كتب السلسلة على حياته الأدبية والعائلية، حين طارد الإعلام أفراد عائلته الذين ورد ذكرهم في المجلد الأول وغيره، والانهيار العصبي الذي تعرضت له زوجته الثانية قبل انفصالهما، والثمن الكبير الذي ترتب عليه وعلى أسرته نتيجة صراحته. ويشير إلى أنه مصدوم بمعارضة أوامتعاض الناس الذين وردت أسماؤهم في كتابه ذي الأجزاء الستة والذي هو عبارة عن سيرته الشخصية.
ومن انطباعات كناوسغارد الطريفة قوله: "فوجئت حينما نُشرت ونجحت كتبي، لأني كنت محرراً لمجلة أدبية، أُجري مقابلات مع الكتّاب والنقد لأعمال الغير. كان تصوري أني شخص محدود، جاد ومحب للحداثة وليس ممن تلقى كتبهم رواجاً. ولكن حينما صدر كتابي الأول وحقق مبيعات عالية، أصابتني أزمة هوية. وتساءلت ما الذي يجري وكيف بعت مائة ألف نسخة؟ كنت أتوقع بيع بضعة آلاف. ذلك كان انطباعي عن نفسي وبعدها واجهت تعثراً في الكتابة وغاب عني الإلهام، حتى صدور كتابي الثاني".
ولا بد من الإشارة أن كتاب "كفاحي" يصب في صميم جنس أدبي راج او يروج في القرن الحادي والعشرين وهو يجمع بين أدب الخيال والواقع، من خلال الدمج بين السيرة الذاتية والرواية، حيث الراوي هو البطل والكاتب، يسرد سيرته مع إدخاله بعض التمويه لعدد من الشخصيات. ويتخلى الكتاب في هذا الجنس الأدبي عن قواعد الرواية كالحبكة والاختزال في الوصف والجمع بين مختلف الأجناس الأدبية كالشعر والفنون البصرية والتاريخ وغيرها.