Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آخر حكواتي دمشقي من الزمن الجميل

"يمكنني أن أتطوع لتدريب من يملكون الفصاحة لاستمرار هذا التراث"

الحكواتي الدمشقي أحمد اللحام يسرد حكاية في المقهى (اندبندنت عربية)

"من أسد الآساد وقادح النار من غير زناد وحامي العشيرتين، الأمير عنتر ابن الأمير شداد". بهذه الكلمات يستهل الحكواتي الدمشقي أبو سامر قصته بعدما أخذ مكانه في صدر المقهى الشعبي بمدينة دمشق القديمة، معتلياً منصة صغيرة تتسع لكرسي خشبي واسع، واضعاً طربوشه الأحمر ومرتدياً عباءته الحريرية، ومُتأبطاً كتاباً أسود طوى عليه الزمن وهو ينضح بمغامرات وروايات وسير مشاهير الزمن القديم وفرسانه.

وبجملةٍ خافتة الصوت ينطقها الحكواتي أحمد اللحام، تعلو نبرات صوته شيئاً فشيئاً ليرفع سيفه ويهوي به على طاولة حديدية، ليصل صوته حتى الفسحة الأمامية التي تعربشت على جدرانها زهور الياسمين.

وبعد سماع صوت ارتطام السيف يرمق من خلف نظارة طبية بعينيه رواد المقهى، حتى يتمكن من رؤية صدى ضربة سيفه وتزيده نشوة حفاوة أصوات الحضور وتفاعلهم وتشوقهم لسماع الحكاية.

الزمن الجميل

يتوزع رواد المقهى، وهو من أقدم المقاهي الدمشقية القديمة، ويتجاوز عمره 500 عام، على الطاولات وكراسي الخيزران، التي كادت تندثر بعد توقف استخدامها مع دخول كراس بلاستيكية الصنع.

وينطفئ مذياع المقهى إنصاتاً للحكواتي بعد تجمع زبائنه مساء وحتى يتسنى من يهوى سماعه أن يكون حاضراً بعد صلاة المغرب حيث تبدأ الحكاية لتنتهي بعد صلاة العشاء. وهو التوقيت المتعارف عليه منذ ظهور الحكواتي في المقاهي الشعبية. وفي شهر رمضان كان يحلو للناس قديماً، قبل أن يظهر التلفزيون، أن يمضوا وقتهم بجلسة ثانية بعد صلاة العشاء حتى الفجر.

تتطاير السحابات البيضاء من النراجيل (المعسل) و(التنباك) التي يدخنها الحضور نساءً ورجالاً لتتزاحم في ما بينها، وتشق عبابها صور الخيول التي يتخيلونها خارجة من كتاب الحكواتي، وتسافر بك صور معلقة على الحائط أخذت مكانها خلفه وتعود لزمن مضى وذكريات المقهى العتيق لأصحابه ولحكواتيين غارقين بقدم تاريخ عملهم بالمهنة.

وتشدك كذلك اللوحات المرسومة لعنترة وهو أبرز أبطال مغامرات الحكواتي وسيره، ويرى أبو سامر أن كرسيه والمنصة الصغيرة تلك هي مسرح مصغّر يعظ ويروي قصص الرجولة، وهي في دراما كلامية، وكل دور يعطيه طبقة من الصوت تتماشى مع الحالة والموقف لجذب الجمهور.

تفاعل الناس

ويقطع الحكواتي الدمشقي أبو سامر بين الفينة والأخرى الحكاية بضربة سيفه على الطاولة الحديدية مع حماسة المتلقين وارتفاع أصواتهم لبطولات فارس القصة وبطلها، وتسمع كثيراً عبارات الحماسة ومنها (الله حيوا) العبارة (الشامية) كنوع من الإبهار والإعجاب.

ويمازح آخر حكواتي في دمشق فتاة تتحلق مع صديقاتها حول طاولة في مواجهته تستمع للقصة بقوله لها (I am sorry) بعد تعليقها بأن ضربة سيفه أخافتها، ويزداد التفاعل بين الزوار وحكواتي المقهى وتربطه بهم علاقة محبة وإعجاب، فهم باتوا نادرين جداً في زمن التواصل الاجتماعي والفضائيات، والدراما الرمضانية التي وصلت لتسرق متابعيه في المقاهي وتجلسهم في بيوتهم على الأرائك يتابعون أحدث المسلسلات، ولتتحول أدوار البطولة من فرسان الزمن القديم إلى أبطال الدراما والفن السينمائي والتلفزيوني.

ولا يبدو أبو سامر الحكواتي الذي يهوى هذا الطقس التراثي الدمشقي المستمر بإحيائه، أنه يفقد الأمل على الرغم من أن عمله الأساسي في المفروشات الدمشقية، والحكواتي بالنسبة له هواية دأب على متابعتها خلفاً لخاله الحكواتي (أبو شاكر) عدنان صنوبر والحكواتي (أبو شادي)، وينصح بأن تهيئ الجهات الثقافية والمهتمة بحفظ التراث الوسيلة المناسبة لحفظ هذا التقليد. ويضيف "يمكنني أن أتطوع لتدريب الشباب ممن يملكون الخطابة وملكة الفصاحة في مبادرة لاستمرار عمل الحكواتي مستقبلاً وعدم اندثاره".

شغف الخيال

تتنوع روايات الحكواتي من قصص للأصمعي وأبو عبيدة والرواة المهمين، لكن في هذا المقهى الدمشقي يفضل أن يروي قصة الملك ظاهر بيبرس وحكاية عنترة بن شداد، وفيهما دراما وحروب وحب، والمسار الاجتماعي بكل ما يحتويه. ويحفظ الحكواتي معظم تلك الروايات ويملك مكتبة ضخمة من الكتب، وظل مواظباً بحضوره كل مساء إلى المقهى كزائر وحكواتي منذ 40 عاماً مضت.

ويروي الحكواتي حكايته بعد أن أغرته قصص البطولات وسيرها، بعد أن استهواه سردها، مستمتعاً منذ شبابه بسماع قصص الفرسان مثل أبو المهلهل. وأضاف "منذ صغري لدي حب المطالعة، والقراءة المستمرة، وفي عمر 12 سنة كنت أجمع الأطفال وأحكي لهم قصصاً من الخيال، وحين تعلمت في المرحلة الابتدائية لا أنسى معلمتنا كيف علمتنا القراءة ولا تذهب من بالي صورتها كيف كانت تمثل لنا الكلمات والحروف على شكل حكاية".

ولا يخفي الحكواتي التحدي الكبير أمام وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي ويقول "على الرغم من كل تطورات التكنولوجيا إلا أن الناس يأتون للمتابعة والمشاهدة بشغف لأنهم يجدون بهذه الحكايات الصدق، وتشاهد منهم من يصغي وكله آذان صاغية وأناس حاضرون ولكن أفكارهم مشوشة وآخرون يأتون لالتقاط الصور معي".

وفي رحلة آخر حكواتي دمشقي يتبادر للأذهان كم يتعرض تراثنا للطمس بفعل الحضارة وتطورات التكنولوجيا المتلاحقة والتي لا ينكر معها المرء الفائدة التي يجنيها من شاشات الحاسوب والتلفاز والسينما ودورها وسطوتها، ويبرز التساؤل إلى متى سيبقى الحكواتي صامداً أمامها؟، في وقت تجتاح هواتفنا الذكية مضارب دول وقارات، كما كان الفارس المغوار عنترة بن شداد يخطف الأنظار بين الناس والأنام (وهنا يا سادة أودعنا الكلام).

المزيد من تحقيقات ومطولات