Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان بحاجة إلى توافق المدنيين والعسكريين

يمكن أن توصف هذه الفترة بأنها لحظة المهمة الأصعب لتحقيق تغيير جذري في الثورة

رئيس مجلس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك (حسن حامد)

ظلت القوى الثورية في السودان تنادي بتقييم أداء الحكومة الانتقالية، منذ انطلاق ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وتتطلع في الوقت ذاته إلى تسريع عملية الانتقال الديمقراطي، ولكن مؤشرات عديدة تقف في وجه توافق المكونين المدني والعسكري على ما يؤسس لانتقال سلس. أكبر هذه المؤشرات اتساع الهوة بين المدنيين والعسكريين، على الرغم من مظاهر التوافق حول إعلان قوى الحرية والتغيير. وأهم العوامل التي تسهم في ذلك هو الاستقطاب والصراع بين مصالح النظام السابق وقواه الكامنة في النظام الحالي، التي ظهرت آثارها في أحداث عدة، وما اعتبرته القوى الثورية نكوصاً من قبل قوى الحرية والتغيير عن أهداف الثورة بتأجيلها تكوين المجلس التشريعي، وفتور مطالبتها بالضغط على الحكومة للخروج بنتائج عن المتهمين في قضية فض الاعتصام.

الثورة مستمرة

تشكل الاستجابة لمناداة القوى الثورية لتقييم أداء الحكومة الانتقالية تحدياً للشق المدني، أحد مكوني الحكومة، ولكن بشكل خاص لقوى إعلان الحرية والتغيير. فتطلعات القوى الثورية نحو الانتقال الديمقراطي التي أوردها إعلان الحرية والتغيير التي توافق عليها المكونان المدني والعسكري، تمر الآن بعدد من المطبات تحمل القوى الثورية مسؤوليتها للحكومة بشقيها من دون التفرقة بين مدنيين وعسكريين. ولبناء الثقة بين القوى الثورية من جهة، والحكومة الانتقالية من جهة أخرى، ثم بين المكون المدني من جهة، والعسكري من جهة أخرى، تطالب القوى الثورية بحلول فورية لقضايا على رأسها الكشف عن مرتكبي القتل في أحداث فض الاعتصام بالقيادة العامة للقوات المسلحة في 3 يونيو (حزيران) 2019.

أما القضية الأخرى، فهي تشكيل المجلس التشريعي، وقد كان آخر موعد للإعلان عن تشكيله هو 25 فبراير (شباط) الماضي، ولكن لم يصدر أمر بخصوص ذلك الموعد أو تأجيله. ونسبة للتأجيل المتكرر فإن القوانين والتشريعات التي سنت خارج مظلته تعرضت لانتقادات عدة على الرغم من أهميتها، وأنها كانت من ضمن المطالب الرئيسة للقوى الثورية. ولذلك تقوم القوى الثورية الآن بمهمة مراقبة أداء الحكومة الانتقالية، بينما مهام أخرى أكبر مثل مساءلة مجلس الوزراء وإجازة الموازنة العامة للدولة، والمصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي يقوم بها المجلس السيادي في شكل قرارات نافذة لا تخضع للتصويت عليها من قبل المجلس الممثل للشعب.

وتقف من وراء التأجيل المتكرر لتكوين المجلس التشريعي قوى إعلان الحرية والتغيير التي قررت تأجيله للمرة الأولى من نوفمبر (تشرين الثاني) 2019 إلى ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، وهو ما عده قانونيون وسياسيون خرقاً للوثيقة الدستورية الموقعة بين المكون المدني والعسكري. وكانت حجة قوى الحرية والتغيير التوقيع على اتفاق السلام، والآن بعد توقيع الحكومة مع معظم الحركات المسلحة، ظهرت مبررات أخرى هي ضرورة تحقيق عملية السلام. هاتان القضيتان وغيرهما حركتا القوى الثورية لدمغ الحكومة الانتقالية باختطاف الثورة لمصالح حزبية وفردية لا تمت مبادئ الثورة بصلة، كما لا تعتبر بالتضحيات التي قدمها الشباب قتلى فض الاعتصام، وقبله الذين قضوا على أيدي النظام السابق.

مآخذ المكونين

بعد ضغط دولي وإقليمي أجاز مجلس شركاء الفترة الانتقالية في يناير (كانون الثاني) الماضي مصفوفة لاستكمال هياكل السلطة الانتقالية، وحدد تاريخ 25 فبراير الماضي موعداً آخر لتشكيل المجلس التشريعي الانتقالي، إلا أنه لم يتحقق. ما يمكن أخذه كخطوة إيجابية هو مطالبة مجلس الشركاء ولايات السودان البالغة 18 ولاية بتسليم قوائم ممثليها في المجلس التشريعي الانتقالي، اكتمل منها تسليم 12 ولاية، ولكن لجان المقاومة التي تمثل القوى الثورية التي تنادي بتكوين المجلس تأخرت عن بقية المكونات السياسية في تسليم قوائمها، للانقسام بين مجموعات ترغب في المشاركة في المجلس التشريعي وأخرى رافضة. أدت الخلافات داخل كتل الحرية والتغيير أيضاً إلى التأخر في تقديم قوائمها. بين هذه المكونات السياسية يكون المتضرر الأكبر هو القوى الاجتماعية التي انتظمت في الحراك الجماهيري الثوري وأدت إلى إسقاط النظام. ونتيجةً لهذا، ستكون مآلات الثورة هي تبادل الأدوار بين المكونين المدني والعسكري، فإذا حدث الانتقال الديمقراطي لن تنفذه هذه القوى لعلة الانقسامات المستمرة، بالإضافة إلى أن كل جهة ترى أحقيتها في أن تكون على رأس الحكومة المقبلة، ومجرد الإحساس بأن هناك منافسين آخرين، يحرك ذلك كثيراً من التلام السياسي ويرفع وتيرة المطالب والاتهامات بالنكوص عن تنفيذها.

أما الشكل المحتمل فهو في أن يتحول المجلس العسكري إلى مدني منافس للقوى السياسية، وهذا ما تقف في وجهه الأحزاب، خصوصاً "الحزب الشيوعي". وبدلاً من أن ينغمس المجلس العسكري في المنافسة المبكرة انشغل بمشاكله الداخلية من توحيد الجيش ليحتوي الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام وقوات الدعم السريع وغيرها من الفصائل العسكرية. وعكف على تلميع صورته بأن لا يكون وجهاً آخر للنظام السابق بالقيام بكثير من المهمات المنوطة بالشق المدني. ولم تجد القوى الثورية مآخذ على العسكريين أكبر من مآخذها على المدنيين، وعندما توجه تهم إعادة إنتاج النظام السابق لا تتهم المكون كله، ولكن تتجه مباشرة إلى جهات محددة زرعها النظام السابق داخل مؤسسات الجيش والأمن والشرطة، وحتى في حكومات الولايات.

هاجس الانتقال

بعد عامين من الثورة، اختلفت القوى الثورية التي نشأت عنها وتوحدت على هدف إسقاط النظام السابق متحدين كل وسائل القمع، حول أداء الحكومة التي اختاروها نيابة عن الشعب. وشمل الاختلاف استمرار الحالة الثورية من مفهوم رفض نظام سابق إلى الطعن في منظومة الحكم الانتقالية التي كانت فرصة للتغيير وبناء نظام حكم أكثر عدالة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تحس هذه التيارات أنها فقدت قوتها، وطغى ترداد عبارات أنها هي من أسقط النظام السابق وجاءت بالنظام الحالي. لم يتطور الطرح الثوري إلى مناقشة منظومة الأفكار والعقد الاجتماعي الجديد بين القوى الثورية والحكومة الانتقالية، وإنما انحصر في مطالب آنية أحيطت ببراكين غاضبة انفجرت في مناسبات عدة. فقد زار عدد من ممثلي الأحزاب السياسية، ومنها "حزب الأمة"، مناسبات عزاء ضحايا ذكرى فض اعتصام القيادة في 29 رمضان الماضي. وعلى الرغم من أن النيابة أقرت بتسلمها المتهمين بمقتلهم، فإن ذلك لم يشفِ ما في الصدور، إذ إن الإحساس بالغبن يتضاعف لعدم الوصول إلى المتهمين في فض الاعتصام. وبينما ثمنت أسر الضحايا هذه الزيارات وطالبت الأحزاب بالضغط على الحكومة لتسريع العدالة ومعاقبة المتهمين فيها (جنود من الجيش)، تجمع بعض شباب الثورة حول هؤلاء الأعضاء ونعتوهم بالتواطؤ مع الحكومة، واصفين الأحزاب بالفشل وعدم تمثيلها لهم. تكررت هذه الأحداث مرات عدة وفي مناسبات مختلفة منذ قيام الثورة، وهذه إشارة رافضة من القوى الثورية للأحزاب التي من المفترض أن تمثلهم في حكومة مدنية مقبلة، إذ ليس هناك من صيغة للحكم إن تواصل هذا الرفض الغاضب غير الإحلال بحكومة عسكرية كاملة. تمثل عنف هذه القوى في العنف اللفظي، وتخريب المنشآت العامة والاعتداء الجسدي الذي ظهر في بعض التجمعات، وهذا مؤشر خطير لاحتمال دخول التسليح بين هذه القوى إن لم يضبط الأمر وتنزل الحكومة عند تلبية المطالب. والأهم من ذلك استيعاب هذه القوى من خلال برامج توعية سياسية حتى لا تنزلق في العنف الثوري الذي يتوقع استمراره إذا طال أمد الفترة الانتقالية.

توافق وطني

لا شك أن سودان ما بعد الثورة بحاجة إلى توافق وطني وانسجام بين المكونين المدني والعسكري لحين تنفيذ عملية الانتقال الديمقراطي. فما تحمله القوى الثورية من غبن امتد لأكثر من عامين لغياب تحقيق العدالة وحدة الاستقطاب التي تمارسها القوى، عمقت من حجم الفرقة وحالت دون اكتمال مراحل عملية الإصلاح التشريعي والسياسي والمؤسسي. هذه الحال ليست حتمية بالضرورة، فمن الممكن تخفيف الدور السلبي والدخول بالقوى الثورية الخارجة عن السيطرة إلى قلب العملية السياسية، فأقسى ما تشكو منه هو تهميشها وعدم الإذعان إلى مطالبها. ولربما يخفف ذلك الاحتقانات ويعمل على ردم الهوة السياسية، كما يمكن أن يقدم نموذجاً للممارسة السياسية لا تقصي أحداً، بعد ثلاثة عقود من تجذر العنف والإقصاء السياسي والقمع الممنهج.

يمكن أن توصف هذه الفترة على أنها لحظة المهمة الأصعب لتحقيق تغيير جذري في الثورة، من دون أن يترافق معها كمية من الاختلاف العنيف، خصوصاً أن عملية الانتقال الديمقراطي بعد عقود تتسم طبيعتها بالتعقيد وارتكاب الأخطاء والخسائر التي ربما تمتد إلى أبعد من الانتقال نفسه. والمعضلة هنا ليست الخلافات وحدها وإنما عدم التوافق على نموذج شكل الحكم بين برلماني ورئاسي ومختلط، فالمناداة بالانتقال الديمقراطي ظلت غاية ومطلباً ترسخ في كل الاحتجاجات التي طالبت بإسقاط النظام. أما الآن، فالأنسب هو الاقتراب من سياق الحل لمشاكل السودان المعقدة، إذ إن أكثر مشاكل البلد لا تحل بقوانين موضوعة في الدستور الذي يتم الاحتكام إليه، وإنما ترضخ إلى توافق القوى السياسية ابتداءً من المكونين المدني والعسكري حالياً والنظام الديمقراطي ولو بعد حين.

المزيد من تحلیل