Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما رسم ريفيرا تشارلي شابلن كواحد من أعمدة الوحدة الأميركية

غضب الفنان على ستالين وهتلر فأنتج واحدة من أعظم جدارياته

فيلم تشارلي شابلن "الديكتاتور" أكبر عمل حققته السينما ضد هتلر (غيتي)

في أواخر سنوات الأربعين من القرن العشرين، وقّعت الحكومة البولشفية الستالينية مع الحكومة النازية الهتلرية تلك الاتفاقية الرهيبة بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا، فيما كانت طبول الحرب تقرع وأوروبا الغربية ترتجف فزعاً من هجوم ألماني عسكري وشيك لا تريد الولايات المتحدة الأميركية الدفاع عنها ضده، وها هي موسكو تخرج منه بشكل مباغت. لقد أثارت تلك المعاهدة يومها غضب كثرين في العالم، بمن فيهم كبار المثقفين الغربيين التقدميين، الذين كانوا قد اعتادوا وضع آمالهم في "الشقيق السوفياتي"، فها هو يخيب تلك الآمال.

تضحيات بلا جدوى

كان من بين الغاضبين، بل أكثر الغاضبين حدةً، الرسام المكسيكي دييغو ريفيرا، الذي زاد من حدة غضبه كونه قدم خلال الحقبة الماضية خدمات لا تقدر بثمن لستالين يمكن أن نحسب من بينها ما اتهم به من مساعدة الفريق الذي أرسله الزعيم الروسي لقتل تروتسكي الذي كان لاجئاً في المكسيك - ولسوف يقال لاحقاً إن السلطات المكسيكية التي حاولت القبض على ريفيرا بتلك التهمة كانت تنحو إلى اعتبارها "جريمة شرف" بالنظر إلى أن تروتسكي ارتبط في المكسيك بعلاقة مع فريدا كاهلو الرسامة زوجة ريفيرا، بيد أن هذه الحكاية تخرج عن موضوع حكايتنا هنا - فحكايتنا هنا تتعلق أساساً بالكيفية التي رد بها ريفيرا على تلك الاتفاقية المشينة.

واشنطن بدلاً من موسكو

لقد كان غضب ريفيرا من ستالين من الضخامة إلى درجة أنه سرعان ما أبدى رضاه عن... "المستعمرين الإمبرياليين الأميركيين"، عارضاً العودة للرسم في أميركا بعد غياب عنها وغضب منها دام سنوات. وبالفعل، تلقفت السلطات الأميركية، ولا سيما في ولاية كاليفورنيا ذلك العرض، لتدعو الرسام الكبير إلى ممارسة فنه وبشروطه الخاصة هذه المرة، نكاية بالنازيين وبالبولشفيين، سواء بسواء. ولسوف يكون واحداً من أول المشاريع، تلك الجدارية التي اشتهرت بأمرين، أولهما ضخامة حجمها، ما يزيد على 175 متراً مربعاً كمساحة عامة للبانوهات العشرة التي تتألف منها (خمسة بانوهات مربعة بقياس نحو 5×5 أمتار لكل منها، وخمسة أخرى مستطيلة بقياس نحو 5× مترين ونصف المتر لكل واحد منها). ولسوف يستغرق إنجاز العمل كله نحو سنتين. أما الأمر الآخر الذي اشتهرت به هذه الجدارية فهو أنها اختفت تماماً بعد إنجازها، إذ حفظت في الصناديق طوال أكثر من عشرين عاماً لتعود إلى الظهور في ربيع عام 1961، أي قبل ستين عاماً من الآن لتركب في إحدى أضخم قاعات "سيتي كولدج" في سان فرانسيسكو معروضة أمام الملأ هي التي كانت رسمت أصلاً لتعرض في "معرض غولدن غيت العالمي" بين عامي 1939 و1940، لكنها لم تعرض فيه، ولم يعرف الجمهور العريض عنها شيئاً.

وحدة الأميركيتين الملحة

كان عنوان الجدارية "الوحدة الأميركية"، وهي وحدة راح ريفيرا يطالب بها كرد أميركي على ما يحدث في أوروبا وعلى الخيانة الستالينية. بالنسبة إلى ريفيرا، في ذلك الحين، كان لا بد من تلك الوحدة لـ"إنقاذ العالم من الفاشيتين الستالينية والهتلرية". من هنا، رسم في الجدارية مجموعة مدهشة من المشاهد التاريخية التي تسبر غور التاريخ الأميركي المشترك بين الحضارات الأميركية القديمة كالأزتيك والمايا، والمجتمع الصناعي الحديث والمعاصر الذي تمثله الولايات المتحدة... ضمن إطار عنوان عام هو "أميركا من مونتيزوما إلى فورد". ولقد كان من الطبيعي لبعض تلك المشاهد أن تدنو من المسائل الفنية، ولا سيما السينما. ولئن قلنا سينما في ذلك الحين سيتبادر إلى ذهننا أول الأمر اسم تشارلي شابلن. من هنا، جعله ريفيرا شخصية أساسية من الشخصيات التي رسمها وحدد لها دوراً، من ناحية في ترسيخ الوحدة الأميركية ضمن منظور إنساني بين يلعب فيه الفن دوراً أساسياً، ومن ناحية ثانية في الصراع ضد النازية. ومن الواضح أن كون شابلن قد حقق في ذلك الوقت نفسه فيلمه "الديكتاتور" الذي كان أكبر عمل حققته السينما ضد هتلر، هو الذي لعب دوراً حاسماً في وجود شابلن في اللوحة، حتى وإن كان ريفيرا قد وازنه بحضور واضح لـ"مجرم الشاشة الهوليوودية" إدوارد ج. روبنسون، لكنهما لم يكونا الفنانين الهوليووديين الوحيدين الحاضرين في تلك الجدارية العملاقة، بل كانت هناك أيضاً بوليت غودارد وفي مشهدين، من دون كل النجمات الأخريات، هي التي كانت في ذلك الحين زوجة لشابلن بعد أن مثلت معه في "الأزمنة الحديثة".

العلاقات الخاصة

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن، علينا ألا نفترض هنا أن ارتباط بوليت بشابلن هو الذي منحها تلك المكانة في لوحة ريفيرا. فوجودها فيها يدين من ناحية لكونها كانت لفترة عشيقة للرسام نفسه، ومن ناحية أخرى لكونها كانت هي من هربه في سيارتها من المكسيك إلى كاليفورنيا حين ضرب الجنود الفيدراليون المكسيكيون حصاراً للقبض عليه يوم انكشف دوره في اغتيال تروتسكي. يومها، خبأته بين فساتينها وحقائبها وتمكنت من توصيله إلى بر الأمان، ومن هنا رد لها الرسام الجميل برسمها في جداريته مرة كممثلة شابلنية، ولكن مرة أخرى كرمز لربط ما بين أميركا اللاتينية وأميركا الشمالية. ولعل من اللافت حقاً هنا أن اللوحة الوسطى التي لعبت فيها بوليت هذا الدور الأخيرة صورتها جالسة تتناجى مع ريفيرا نفسه وإلى جانبهما فريدا كاهلو ممتشقة ألوانها ترسم المشهد. ولنضف هنا أن حضور كاهلو في اللوحة جاء متأخراً لينضاف لاحقاً إلى الجدارية في اللحظات الأخيرة، إذ قبل ذلك كان ثمة طلاق وانفصال بين الزوجين ريفيرا/ كاهلو، ثم تصالحاً وتزوجا من جديد فيما كان ينجز الجدارية، فجعل لها حضوراً فيها يمكنه أن يرمز بدوره إلى الرابط بين القارتين كحال بوليت غودارد على أن يكون هو بدوره في المشهد رابطاً بين المرأتين!

حضور شابلن المتعدد

يبقى أن المهم هنا على أي حال هو حضور شابلن نفسه في البانوه الأسفل الحامل الرقم أربعة انطلاقاً من يسار اللوحة. وهو الذي يعلوه بانوه ضخم يعبر عن الأدوار المتقدمة والرائعة التي تلعبها المرأة الأميركية الحديثة والمعاصرة، سواء كانت مهندسة أو عاملة أو رياضية في نهضة الأميركيتين بالتضافر مع الآلات الحديثة والتقنيات الجديدة. وبعد ذلك، يأتي دور الفنون من ناحية في الوحدة الأميركية، ولكن خصوصاً في النضال الفكري والإبداعي ضد النازية. من هنا، لم يكن صدفة أن يختار ريفيرا ذلك المشهد الرائع من فيلم "الديكتاتور" الذي يظهر فيه شابلن في دورين متناقضين: من ناحية دور الحلاق البائس الذي يؤتى به من حي اليهود بسبب شبهه الغريب بهتلر ليحل محل هذا الأخير الذي كان ثملاً ولا يمكنه أن يلقي خطابه الموعود. ومن ناحية ثانية دور الديكتاتور نفسه. ويلفت في المشهد حضور بورتريهات عديدة لشابلن غير ذينك البورتريهين في أدوار متنوعة من أفلامه، وكذلك صورة له وهو يشير بيديه إحداهما إلى حيث يوجد العدو النازي والثانية إلى الجنود، داعياً إياهم إلى التنبه إلى أن العدو هناك أمامهم يجب ألا يغمضوا أعينهم عنه، فيما ترقبه بوليت غودار باهتمام وأمل كتعبير عن مشهد من الفيلم الذي جمعهما، "الأزمنة الحديثة" الذي لا شك أن موضوعه الإنساني، بل التقدمي الكبير هو ما دفع ريفيرا إلى دمجه في جداريته.

احتجاج

من المؤكد أن في إمكاننا أن نعتبر هذا الجزء من جدارية ريفيرا والمكرس للسينما ودورها النضالي والجمالي، كان أول تكريم يناله الفن السابع من الفن التشكيلي حتى ذلك الحين في عمل ربما يكون أعظم عمل فني عبر به فنان عن تطلعه إلى وحدة بين الشعوب تقوم كرد فعل على "من يحاولون قهر الشعوب" كما سيعبر دييغو ريفيرا (1886– 1957) في أحاديثه لاحقاً، ولا سيما حين راح يبدي استياءه لإخفاء ذلك الإنجاز البديع عن أعين الجمهور، بوصفه "مؤامرة يمينية أميركية ضد الفن وضد التقدم بالتالي ضد الإنسانية بشكل عام"، كما قال.

المزيد من ثقافة