Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"لك يوم يا ظالم" لصلاح أبو سيف: ماذا يبقى من إميل زولا؟

الفيلم المصري يحفظ لنجمته فاتن حمامة وللسينما المحلية شيئاً من براءتهما

اقتبس فيلم "لك يوم يا ظالم" عن رواية "تيريز راكان" للكاتب الفرنسي إميل زولا (أفلام الهلال)

في مسيرة السينمائي المصري صلاح أبو سيف عدد لا بأس به من أفلام اعتُبرت نقطة انعطافية ليس في سينماه فقط، بل كذلك في تاريخ السينما المصرية ككل. ولقد نظر النقاد، كما نظر هو نفسه، إلى فيلمه السادس "لك يوم يا ظالم" على أنه البداية الحقيقية لمسار سينمائي يحفل بتلك العلامات.

وفي حديث مع الناقد هاشم النحاس قال أبو سيف إن الفيلم كان بالنسبة إليه "بداية لمرحلة جديدة حقاً، فهو كان أول فيلم أخرجته كما يروق لي"، بالنظر إلى أنه وفّر له الفرصة الحقيقية التي كان ينتظرها. وهو عزا ذلك إلى كونه أنتج الفيلم بنفسه ومن ماله الخاص، ما مكّنه من أن يخوض حقاً في ما سمّاه "واقعية الأسلوب واستعراض الحياة الشعبية" التي كثيراً ما أحبها وعاشها.

ومن خلاله "قدمت لأول مرة الحمام الشعبي الذي تجري فيه بعض الأحداث المهمة في الفيلم". ومع ذلك لم يسهَ عن بال المخرج أن "لك يوم يا ظالم" كان اقتباساً عن رواية "تيريز راكان" للكاتب الفرنسي إميل زولا، التي كانت تشغل باله منذ زمن، إلى درجة أنه "مصّرها مئة في المئة".

والحقيقة، أن المخرج في إعداده للمشروع "مصّر" رواية الكاتب الفرنسي الشهيرة، أكثر كثيراً مما يجب. لكن لسبب لا يخفى نبله ويقوم على الحفاظ على براءة وشرف البطلة التي مثلت دورها فاتن حمامة فباتت بالغة الاختلاف عن تلك المرأة الفرنسية التي أعطى زولا روايته اسمها.

الرواية الفرنسية

فالحكاية في الرواية الفرنسية التي سبق أن تناولناها في مناسبة سابقة، بسيطة قد تحدث في كل يوم: حكاية السيدة راكان التي انتقلت بتجارتها الصغيرة وابنها غير السويّ تماماً كاميل إلى باريس، حيث قطنت شقة تعلو دكاناً راحت تمارس فيه تجارتها. وهي تستقبل ذات يوم ابنة أختها الصبية تيريز فتؤويها وتعيلها، ومن ثمّ وبشكل طبيعي تزوّجها ابنها غير متنبهة إلى القلق الذي يهيمن على أفكار الصبية وحياتها.

بل تعتقد أن زواجها سوف يهدئها. وذات يوم يصطحب كاميل إلى البيت صديقاً له يدعى لوران يقدم نفسه رساماً. ومن فوره يدرك لوران نقاط ضعف تيريز، ولمّا كان كائناً لا وازع يردعه عن شيء، يبدأ بمحاولة إغوائها، بل ينجح في ذلك بأكثر مما كان يتوقع، إذ إن كاميل نفسه يساعد على ذلك ببخله وجشعه وازدرائه زوجته. وكان لا مفر من أن تستسلم المرأة أمام سحر لوران، إلى درجة تتعاون معه على التخلُّص من الزوج خلال نزهة نهرية يقومون بها، ويسقط كاميل خلالها في الماء غرقاً. لا يتنبه أحدٌ إلى ما حدث، بل إن لوران يجد نفسه، وقد دخل حياة الأسرة المفجوعة، ثم ما يمضي عامان إلا ويقترن بتيريز ليعيش في البيت معها رفقة خالتها التي لن تغفر للأقدار أبداً مصيبتها في ابنها.

غير أن ثأر الأقدار من القاتلين لن يكون على يد السيدة راكان، بل سيكون ثأراً ذاتياً، حيث تبدأ الجريمة نفسها بملاحقة لوران وتيريز ليلاً ونهاراً، لا سيما المرأة التي تفيق على ما شاركت في صنعه حتى اللحظة التي لا تعود قادرة على التحمّل، فتجرع سمّاً كانت قد جرّعته للوران، ويموت الاثنان أمام الأم الصامتة كما حالها دائماً.

في رحاب الأخلاقية المحلية

تلك هي الحكاية الفرنسية التي كتبها إميل زولا، التي اشتغل عليها صلاح أبو سيف شراكة مع الكاتب نجيب محفوظ الذي سيقول دائماً إنه قرأ إميل زولا باكراً، بل تأثر به. ولكن لئن كان يبدو دائماً أن ثمة تأثيرات حقيقية لزولا في أدب محفوظ، وبخاصة لسلسلة روغون - ماكار التي تنتمي "تيريز راكان" إليها، من الواضح أن تأثر كاتبنا المصري الكبير بزولا لم يسر على السيناريو الذي كتبه. وذلك نظراً إلى خضوع محفوظ لمنطق السينما المصرية الرائجة في ذلك الحين، الذي إضافة إلى اهتمامه بالتخفيف من حدة النهاية غير السعيدة، كان يفرض نوعاً من التحفظ على جعل بطلة الفيلم، فاتن حمامة هنا، مجرمة بالمعنى الكامل للكلمة. فلئن كانت حمامة سترضى بعد حين بأن تكون شريرة في فيلم مقبل لصلاح أبو سيف هو "لا أنام" عن رواية إحسان عبد القدوس الشهيرة، من الواضح أنها لم تكن لترضى بأن تكون مجرمة وشريكة في القتل قبل ذلك، أي حين كانت تسير في طريقها الرائع إلى سدة النجومية.

 

ومن هنا جاءت التغييرات لتراعي ذلك، محافظة للبطلة على براءة ومكانة ترضيها وترضي جمهورها. ولعل هذا كان جزءاً من "التمصير مئة في المئة" الذي تحدث أبو سيف عنه. لكنه كان تمصيراً نسف جوهر رواية زولا، محتفظاً منها بالأحداث الخارجية ماحياً كل تلك العناصر الجوّانية التي ستشتغل في ضمير تيريز في الرواية طوال زمن تصل فيه إلى ذروة تعاستها لمشاركتها في اقتراف ما فعلته شراكة مع لورين.

شرير واحد يكفي!

في فيلم أبو سيف لا يوجد شيء من هذا. فالشر كل الشر هو من نصيب الصديق القاتل والألم كل الألم من نصيب البطلة التي يقول لنا الفيلم منذ مقتل الزوج أن لا دخل لها في الأمر، بالتالي فإنها لن تنتحر كما فعلت تيريز أو حتى تعاقب نفسها في نهاية المطاف. هي ضحية كما يجدر بفاتن حمامة أن تكون.

وعلى هذا تصبح الحكاية في "لك يوم يا ظالم" على الشكل التالي: تبدأ الحكاية مع زغلول المتزوج من ابنة خالته، ويعيش معها ومع أمه التي تملك حماماً شعبياً تديره. زغلول موظف في الحكومة ويعاني آلاماً في صدره. ذات يوم يزوره صديقه منير الذي تلفت زوجة زغلول نظره، ويبدأ بمراودتها عن نفسها مستغلاً ضعف صديقه. لكنها تصده حتى يكون يوم يقترح فيه نزهة عائلية في القناطر الخيرية يقوم خلالها بقتل زغلول للتخلص منه. ومن ثمّ يقدم نفسه كرجل للعائلة يخدم الأم، ومن ثمّ يتزوج إنصاف أرملة الراحل ليستولي على مقدرات تلك الأسرة الصغيرة، مجبراً زوجته وحماته حتى على بيع مصاغهما تلبية لاحتياجاته الدنيئة من دون أن تتكشف حقيقة الجريمة التي ارتكبها، حتى اليوم الذي يفتضح فيه الأمر من خلال أحد سكان المبنى، وتتم مطاردة القاتل من قبل أهل الحارة حتى اللحظة التي يقع فيها في حوض الحمام الشعبي ويموت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أخلاقيات خاصة

واضحة الفوارق الكثيرة بين الحكايتين حتى وإن كانتا تقومان على جوهر واحد ينطلق من الصراع بين الخير والشر، وهو الصراع الذي دائماً ما سوف يميز سينما صلاح أبو سيف، ناهيك بوجود الحارة كوطن للطيبين تعرف كيف تلفظ الأشرار وتعاقبهم حين تكتشف أمرهم.

ومن الواضح هنا أن صلاح أبو سيف في ذلك "التمصير" ليس فقط لحكاية إميل زولا، بل للمبادئ الأخلاقية والاجتماعية التي تغوص فيها تلك الحكاية، جعل الحارة، كما كانت وستكون الحال في العدد الأكبر من الأفلام الشعبية في السينما المصرية، بديلاً للدولة قائمة بأعمالها، فإن حضرت تلك الدولة لا تحضر إلا بشكل عرضيّ، وربما شخصيّ أيضاً من خلال أفراد ينتمون إليها، لكنهم حتى حين يقومون بفعل قانوني ما، يقومون به انطلاقاً من دوافعهم الفردية، لا انطلاقاً من جعل القانون يلعب دوره!

قيم وقيم مضادة

وإلى ذلك ألغى كاتبا السيناريو المصري دور العنصر "الجوّاني" الذي يقوم في رواية زولا بالدور الحقيقي في كشف الجريمة من قبل إحدى مركبيها كما أسلفنا. فلدى زولا من الواضح أن العبء الذي تحمّله ضمير تيريز طوال زمن كانت فيه على مضض قابلة بأن تعيش تحت ظل زوجها الثاني قاتل الأول، كان هو الكاشف الحقيقي ودافعها إلى انتحار لا يلعب أيّ دور في الفيلم المصري. والحقيقة أنه لئن كانت تلك التبديلات خلال الاقتباس قد ظهرت متجمعة وفاقعة في "لك يوم يا ظالم" لن تكون الأخيرة التي تتبعها السينما المصرية التي دائماً ما سوف تراعي أخلاقيات محلية معينة تمكنت غالباً من أن تنسف كل القيم أو القيم المضادة التي انبني عليها الأدب المقتبس عنه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة