Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"شبح الأوبرا" لغاستون ليرو تتأرجح بين الرواية البوليسية والنص الغرائبي

تجميع للكوارث واختراق للدهاليز في انتظار الهجمة السينمائية

الروائي والصحافي الفرنسي غاستون ليرو (أ ف ب)

هي واحدة من الروايات الفرنسية الأكثر اقتباساً في العالم، مسرحياً وسينمائياً وعلى خشبات الأوبرا وفي كتب الشرائط المصورة. ومع ذلك لا تعتبر "شبح الأوبرا" أهم ما خلّفه مؤلفها غاستون ليرو، كما لا تعتبر واحداً من النصوص المؤسسة حقاً للرواية البوليسية في القرن العشرين. هي في نهاية الأمر، ودائماً بحسب مؤرخي النوع، رواية مسلية مشوقة ومرعبة تتأرجح بين الرواية البوليسية والأدب الغرائبي. رواية تمكّن مؤلفها فيها من أن يضيف بعض التوابل الجذابة إلى حدث يمكن توقع مجرياته وحتى نهايته منذ البداية من دون أن يترك للقارئ مجالاً للتخمين أو المشاركة.

جولة في المناخ الغريب

بكلام آخر هو نص من النوع الذي يمكن اقتباسه بسهولة والتفنن في رسم أجوائه: فمناخ الأوبرا من الداخل وفي الكواليس والدهاليز كان دائماً مغرياً للقراء. فإذا أضفنا إلى هذا مزج ونقل بضعة أحداث غامضة شهدها ذلك النوع من الأماكن خلال الربع الأخير من القرن الذي شهدت نهايته وبداية تاليه ظهور الرواية، وتكثيفها بزعم أنها حدثت في دار الأوبرا التي نحن في صددها، يضحى من المفهوم النجاح الذي حققته لدى القراء ثم لدى الفنانين الآخرين المقتبسين.

حكاية حب لتتويج كل ذلك

كتب غاستون ليرو هذه الرواية لتنشر كتاباً للمرة الأولى عام 1910 بعدما كانت نشرت مسلسلة في صحف متنوعة أولها "لوغولوا" ومن ثمّ نشرت معدلة بعض الشيء في "صدى الجزائر" (عام 1925 هذه المرة أي بعدما كانت السينما والمسرح قد اقتبساها في محاولات أولى ستليها عشرات المحاولات). ويقول الباحثون إن المحور الأساسي للرواية اقتُبس من حكاية حب دارت في أروقة أوبرا غارنييه الباريسية العريقة وكانت معروفة لكن غموضاً ما يحيط بها. وحول ليرو الغموض إلى سلسلة أحداث (سقوط الثريا الكبيرة من سقف القاعة الرئيسية، مقتل أحد عمال المسرح شنقاً بما يشبه الانتحار، ناهيك عن أصوات همهمات وربما غناء أيضاً تسمع بين الحين والآخر)، تفترض وجود "شبح" ما، يعيش في أقبية المبنى زارعاً الرعب عبر تلك الأحداث المتتالية التي تفترض أنه ينتقم لما حدث له خلال حريق سابق اندلع هناك. وستفترض الإدارة بعد تفاقم الأحداث الغريبة بما فيها حرائق تندلع بين الحين والآخر، وجرائم قتل غير مبررة واختطاف مغنية شابة يفترض أنها تتدرب على القيام بدور غريتشن في عمل أوبرالي لشارل غونو مقتبس من "فاوست"، مع ما يخالط ذلك من إيحاءات فنية وتهديدات بحرق المبنى وغيرها، ستفترض أن ثمة بالفعل شبحاً حقيقياً يجول في المكان قبل أن تتكشف النهاية عن حكاية غرام حقيقية من الواضح أنها هي التي سحرت القراء والمشاهدين والموسيقيين فجعلتهم جميعاً يقبلون على ذلك العمل غير مبالين برأي النقاد والمؤرخين الذين دائماً ما اعتبروا روايات أخرى لليرو، مثل "سر الغرفة الصفراء" ومغامرات "رول تابيل" و"شيري بيبي" المتعددة الحلقات أكثر أهمية من "شبح الأوبرا" بكثير.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

المؤلف شخصية روائية

بالنسبة إلى مؤرخي الرواية البوليسية يعتبر مؤلف "شبح الأوبرا"، غاستون ليرو شخصية أقرب إلى الشخصية الروائية منه إلى الشخصية الواقعية، بمعنى أن حياته نفسها وتعاطيه مع الحياة كانا في حد ذاتهما رواية.

 فليرو ولد في باريس في 1872 لأسرة ثرية. وكان في العشرين من عمره حين أضحى يتيماً وارثاً، فوجد نفسه مالكاً لثروة هائلة، يقدرها البعض بمليون ليرة ذهبية. غير أنه ما إن مرّت ستة أشهر على حيازته تلك الثروة حتى أضاعها كلها على موائد القمار. فاضطر إثر ذلك للعودة إلى المهنة التي كان قد درسها: المحاماة. وسرعان ما سئم المحاماة فانصرف إلى الصحافة وبالتحديد إلى الصحافة القضائية حيث راح يحرر أخبار الجرائم. وكان من شأنه أن يبقى صحافياً مغموراً في ذلك المجال لولا أنه تمكن ذات يوم من تحقيق "خبطة" صحافية حين كتب، عيانياً، عن اعتقال مركيز تورط في دراما عائلية لطخت سمعة واحدة من أعرق العائلات الفرنسية. وكانت تلك هي البداية الحقيقية لغاستون ليرو.

البحث عن مكانة ومكان

صحيح أنه أمضى بضع سنوات بعد ذلك محاولاً أن يوجد لنفسه مكانة، غير أنه كان خلال تلك السنوات قد اشتد ثقة بنفسه وبإمكاناته ككاتب. وهو لئن كان قد فشل في كتابة مسرحيات أولى فإنه سرعان ما نجح في كتابة الرواية البوليسية، حيث كان يقول عن نفسه إنه بات قادراً على "كتابة ما هو أهم بكثير مما يكتبه آرثر كونان دويل". وهكذا ولدت، بالفعل، رواية "سر الغرفة الصفراء" (1907-1908) التي لا تزال تعتبر حتى اليوم واحدة من أشهر وأجمل الروايات البوليسية الفرنسية. قبلها كان ليرو قد كتب رواية أولى بعنوان "حياة ثيوفراست لونغي المزدوجة"، لكنها لم تلفت إليه الأنظار، أما "سر الغرفة الصفراء" فكانت ضربة معلم لأنها أيقظت نوعاً روائياً بوليسياً كان قد نسي منذ إدغار آلن بو: الرواية التي تتحدث عن جريمة تدور في مكان مغلق. ومع هذه الرواية ولدت شخصية جوزف جوزفين، الملقب بـ"رول تابيل"، وهي شخصية تحرٍ من نوع خاص، سيتولى بطولة الكثير من روايات غاستون ليرو بعد ذلك.

في عالم المسلسلات الجذابة

حين كتب غاستون ليرو "سر الغرفة الصفراء" كان في التاسعة والثلاثين من عمره، وكان قد بدأ يشعر بأن العمر يتقدم به من دون أن يحقق الكثير من طموحاته. لذلك راح يكتب من دون هوادة، وراح يبتكر الشخصيات والمواقف، وينشر ذلك كله في حلقات مسلسلة كانت ذات شعبية كبيرة في تلك الأحايين. وبدا ذلك النوع من النشر اليومي كأنه يحتّم على الكاتب أن ينهي كل حلقة بشكل غامض يشجع القارئ على العودة غداً للمتابعة، ومن هنا امتلأت روايات غاستون ليرو بتلك المواقف والضربات المتعاقبة التي ميّزت عمله وجعلته، حين ابتدأت العلاقة الجدية بين الأدب البوليسي والسينما، مرغوباً من جانب المخرجين. وفي هذا الصدد يمكن إدراج النجاح الكبير الذي كان لـ"شبح الأوبرا" التي تحولت إلى أفلام عدة كما أشرنا ولا تزال تتحول حتى يومنا هذا.

شخصياته تضجره

صحيح أن غاستون ليرو، الذي تعتمد رواياته على الحوار في الأصل، قد مات قبل ظهور السينما الناطقة في أبريل (نيسان) 1927، ولكنه قيض له مع ذلك أن يشاهد السينمائيين وهم يتدافعون للحصول على حقوق تحويل رواياته إلى أفلام. وبعد موت ليرو حولت كل رواياته الكبرى إلى أفلام كما نعلم. المهم أن ليرو نشر "شبح الأوبرا" في 1910، ثم بعد أن أصدر روايات عدة تولى رول تابيل بطولتها، سئم من تلك الشخصية - موقتاً بالطبع - فابتكر شخصية جديدة هي "شيري بيبي" وخصّها برواية أولى هي "الأقفاص العائمة" (1913) وتتحدث عن ثورة سجناء فوق ظهر سفينة حيث كانت الأقفاص تقودهم إلى معتقل كايين في أميركا الجنوبية.

واللافت هنا أن هذه السلسلة الجديدة من المغامرات لم تعرف المجد الذي عرفته سلسلة مغامرات رول تابيل، خصوصاً أن الحلقة الأخيرة في السلسلة بعنوان "انقلاب شيري بيبي" ظهرت في 1925 لتوجه مديحاً غريباً من نوعه لليمين المتطرف، فيما كان هذا اليمين يحقق انتصاراته في ألمانيا وإيطاليا، ويعيش مجداً في فرنسا. ومن هنا حلت لعنة الديمقراطيين والتقدميين على غاستون ليرو الذي اعتبر، منذ ذلك الحين، كاتباً فاشياً. غير أن ذلك لم ينقص من قيمته ككاتب بوليسي من طراز مميز، ولكن أيضاً ككاتب للروايات الغرائبية، حيث كان رائداً في هذا الفن، لا سيما من خلال روايته "آلة القتل" (1923) التي تتحدث عن إنسان آلي زرع له دماغ بشري. وبسبب هذه الروايات نرى السورياليين يمجدون ليرو ويعتبرونه واحداً منهم، نازعين عنه في وقت لاحق صفة "الفاشي".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة