Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"العقل والعاطفة" لجين أوستن أدب نسوي لمجتمع إنجليزي متغير

عن الحب والزواج في الزمن الذي تبدلت فيه القيم والطبقات

إيما تومسون وكيت وينسليت في مشهد من فيلم "العقل والعاطفة" (موقع الفيلم)

يفرد الباحث الإنجليزي باتريك بارندر، في كتابه "الأمة والرواية" مكانة أساسية للكاتبة جين أوستن، معتبراً أن رواياتها التي تحظى عادة بمقروئية كبيرة منذ صدورها، وتترجم إلى لغات عديدة، تستجيب أكثر من أية روايات إنجليزية أخرى إلى تحليلاته المتعلقة بالمضمون أكثر من تعلقها بالشكل وبالجماليات الروائية. فالمضمون هو عادة ما يهم أوستن أكثر من الشكل والمضمون لديها غالباً ما يربط بين الوضع الطبقي والوضع الأخلاقي للشخصيات، بل أكثر من هذا: بين الوضع المالي والوضع الأخلاقي. وغالباً ما تتعامل أوستن مع شخصيات تكاد تنتمي إلى طبقة واحدة هي المتراوحة بين المتوسطة والعليا في المجتمع البريطاني عند المرحلة المفصلية بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حين حدثت تلك التقلبات الكبرى لدى الطبقات المرفهة مستبدلة الوضع العقاري بالوضع الصناعي بتأثير من الكولونيالية التي راحت تبحث عن الرساميل في المستعمرات. وأدى ذلك إلى ثورة اجتماعية كبرى وإلى تبدل في الثروات كان على الأفراد أن يتعلموا التماشي معهما.

انقلاب الثروات

وعلى الرغم من أن رواية أوستن الطويلة الأولى "العقل والعاطفة" لا تعد من رواياتها الكبرى، فإنها تكاد تكون الأكثر تعبيراً عن ذلك الانقلاب في الثراء المؤدي إلى انقلابات في الأخلاق والتوزعات الطبقية. كما لو أن الكاتبة جمعت في هذه الرواية كل تلك المواضيع لتتفرس فيها لاحقاً في رواياتها الكبيرة التالية، من "إيما" إلى "كاترين مورلاند"، ومن "الكبرياء والهوى" إلى "بارك مانسفيلد"، وغيرها. تبدو "العقل والعاطفة" كأنها مدخل إلى ما تريد أوستن قوله في رواياتها التالية. وهي قالته مختصراً بالتالي في تلك الرواية المبكرة التي كانت أول ما نشرته من روايات طويلة في عام 1911، لكنها كتبته قبل ذلك بكثير، إذ نعرف أن هذه الرواية مرت بعديد من المراحل. فهي كانت أولاً عبارة عن قصة طويلة في رسائل عنوانها "إلينور وماريان"، ثم مرت بتحولات متنوعة حتى استقرت في النهاية على الصورة التي نعرفها. ومع هذا، حين نشرت في النهاية لم تحمل اسم جين أوستن، بل العبارة التالية "رواية بتوقيع سيدة". المهم أنها نشرت في نهاية الأمر لتكون فاتحة نشر روايات أوستن التي ستدور من حول الموضوعات نفسها: المال والزواج والملكيات العقارية، ولكن دائماً تقريباً من منظور المرأة لا الرجل، ما جعلها تعامل في العصر الحديث بكونها من سيدات الروايات النسوية.

مواجهة بين العائلات

ومع ذلك، ليست المواجهة التي تخلق العنصر الدرامي في "العقل والعاطفة" مواجهة بين الرجل والمرأة، بل بين العائلات كما ستجري العادة في مجمل روايات أوستن حتى ولو كانت الكلمة العليا للمرأة في نهاية الأمر. أما المحور الأساسي فهو الزواج الذي لا يمكن تكوين العائلة والظفر بمكانة في المجتمع إلا من خلاله. وحتى لو كان الحب طريقاً للزواج، فإن غايته العائلية تحظى عادةً بالأولوية. وعلى مذبح الكرامة الشخصية الموروثة من الوضع العائلي يمكن التضحية بالحب، لكن الحب هنا حبان، هما ذاك الذي ستقع فيه الابنة الشابة ماريان لأسرة داشواي التي فقدت نساؤها (البنات الثلاث إلينور وماريان ومرغريت وأمهن) أي مدخول مالي عند رحيل الأب تاركاً إرثه لأخي البنات غير الشقيق المتزوج من امرأة أنانية متعجرفة تشجعه على طردهن من البيت العائلي، فيفعل. وهكذا، لا تجد اليتيمات وأمهن غير بيت ريفي يعار إليهن من عائلة صديقة في انتظار تبدل الأحوال. وهذا التبدل يلوح في الأفق لماريان في صورة الفارس الوسيم ويلبي الذي ما إن ينقذها من سقطة حصان حتى توله به.

خيانات ذكورية

في الوقت نفسه، تكون أختها الكبرى إلينور قد أغرمت بالثري إدوارد شقيق زوجة أخيها وراحت تنتظر تقدمه إليها. تماماً كما تفعل ماريان إزاء ويلبي. صحيح أن الحبين صادقان ينبعان من العاطفة الحقيقية، لكن الفارق سيكمن في رد فعل كل من الأختين تجاه الخيبة التي لن تلبث أن تكون من نصيبها حين تتعقد الأمور فيتبين أن إدوارد على علاقة منذ سنوات بالصبية لوسي التي تفضح سرها أمام إلينور دون أن تكون على علم بعلاقة هذه الأخيرة بإدوارد؛ ثم يتبين أن ويلبي الذي غادر الريف وماريان إلى لندن بشكل مباغت قد توجه ليخطب امرأة غنية من علية القوم، مفضلاً إياها على ماريان المفلسة. مرتان هنا إذاً انتصر المال على الحب، ولكن رد فعل صاحبة العلاقة في كل مرة كانت مختلفة. بالنسبة إلى الينور ستتغلب على هواها، ولكن ليس على حزنها وتسكت عن خيبتها لاجئة إلى عقلها. أما بالنسبة إلى ماريان فإن عواطفها ستغلبها وتغرقها ليس فقط في الحزن، بل في المرض وفي حال من اليأس لن ينقذها منها سوى ذلك الجار الشهم الكولونيل براندون الذي لا يتوقف عن العناية بها وبأختيها وأمهم على الرغم رفضها له منذ البداية. من الواضح هنا أن الكولونيل يمثل تلك الطبقة المتنورة المنفتحة على العالم، والتي تعامل الأمور بروية وهي واثقة من أنه لن يصح سوى الصحيح في النهاية، وكأنه هنا ينطق باسم جين أوستن نفسها متمسكاً بأخلاق ترفض أن تتغير. وفي النهاية، بعد مرحلة الإحباط والحزن والتصوير البديع الذي رسمته جين أوستن لها، سنجدنا أمام الحلول الوسطية: أمام المعاملة والتفاني المدهشين اللذين سيبديهما الكولونيل الطيب خلال المرحلة التي رقدت فيها ماريان على سرير المرض بين الموت والحياة، وأمام غدر ويلبي وتفاهته، لن تجد ماريان بداً ليس من الزواج من براندون فحسب، بل من الوقوع في هواه، وقد ارتد إليها عقلها تحت وطأة الأحداث متغلباً على عواطفها. أما بالنسبة إلى إلينور التي كانت قد أخلدت إلى كرامة الصمت بعد أن تبين لها أن من الأفضل لإدوارد أن يعود إلى لوسي، تستعيد هواها حين تقدم لوسي نفسها على رفض إدوارد مفضلة عليه أخاه روبرت الذي يتبين لها أنه أكثر منه ثراءً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انتصار العقل على الهوى

ويعود إدوارد إلى إلينور في الوقت نفسه الذي تكون فيه أختها قد بدلت اختيارات فؤادها ورضيت بالزواج من براندون عن قناعة عقلية بقدر ما عن اختيار عاطفي... وعلى هذا يكون العقل قد انتصر مرة أخرى على الهوى علماً بأن إدوارد الذي عاد وتزوجته إلينور عاد استجابة للعقل، فإلينور أبداً ما ارتبطت بإدوارد إلا برباط العقل منذ البداية، وها هو العقل يملي عليه الآن ارتباطاً منزهاً عن الهوى ونزواته. كما أشرنا أعلاه، كانت الرواية في البداية مكتوبة على شكل رسائل متبادلة بين إلينور وماريان غالباً، ولكن مع آخرين في بعض الأحيان. ولئن كان كثر من قراء جين أوستن قد فضلوا دائماً رواياتها التالية التي كتبت بألق جمالي أكثر عمقاً، وربما أيضاً بلغة أكثر عصرية، فإن الجمهرة الكبرى من قرائها أحبوا هذه الرواية كثيراً، ولسوف يكون من بينهم الممثلة الإنجليزية الكبيرة إيما تومسون التي اشتغلت قرابة عشر سنوات على كتابة اقتباس سينمائي للرواية في سيناريو بدا شديد الأمانة ليس فقط لأحداثها، بل لكم العواطف والمواقف التي تتشكل منها، لينتهي الأمر بالمخرج من أصل صيني، آنغ لي، لتحويلها إلى فيلم في عام 1995 قامت فيه تومسون نفسها بدور إلينور في حين قامت كيت وينسليت بدور ماريان. ولقد حقق الفيلم نجاحاً كبيراً جدد القول إن من بين كل تحف الأدب الإنجليزي النسائي هناك دائماً ما يجعل روايات جين أوستن الأكثر قابلية للأفلمة، علماً بأن المخرج أندرو دايفز أقدم في عام 2008 على تحقيق اقتباس تلفزيوني للرواية نفسها حقق بدوره نجاحاً جماهيرياً كبيراً أعاد جين أوستن (1775 – 1817) مجدداً إلى ساحة فنية من الواضح أنها لم تغب عنها أصلاً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة