"أنطونيو الجميل" رواية للكاتب الإيطالي فيتالينو برانكاتي ترجمتها وفاء عبد الرؤوف البيه إلى العربية، وصدرت حديثاً عن منشورات المتوسط (2020)، وهي الثانية من ثلاثية فيتالينو برانكاتي التي نشرها في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين وهو الذي توفي في الخمسين من عمره. فبعد "دون جوفاني في صقلية" (1941) التي حصدت نجاحاً باهراً، نشر برانكاتي روايته هذه في عام 1949، ومن بعدها نشر رواية "باولو الساخن" (1955)، لتشكل الثلاثية في مجملها تفاصيل حياتية من المشهد الصقلي الإيطالي بقصصه الخاصة أو السياسية العامة. وتعتبر هذه الرواية من الأعمال المؤسسة للرواية الواقعية في الأدب الإيطالي، فهي رسخت من خلال السرد، الفضاء الفاشي والأيديولوجي الذي كان سائداً قبيل الحرب العالمية الثانية وأثناءها وعقبها في إيطاليا وفي أوروبا عموماً.
وبرانكاتي المتأثر بمثل الفاشية في بداياته والمتبرئ منها لاحقاً، اختار أن يقدم لقارئه نماذج ذكورية إيطالية تجسد قضايا مجتمعها، وفي الوقت نفسه تتطور في ظروف اجتماعية وسياسية حاسمة في تاريخ إيطاليا المعاصر. تدور أحداث "أنطونيو الجميل" في مدينة كتانيا الصقلية، في فضاء سردي يجسد الأفق الفاشي المسيطر والنفوذ السياسي لموسوليني في عصره الذهبي (بين عامي 1937 و1943) لتسيطر النزعات الأيديولوجية على الشخصيات وعلى سماكتها النفسية.
وفي إيطاليا ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، يكتشف القارئ مجتمعاً ينتقد ويحكم ولا يرحم ولا يسامح، يكتشف مجتمعاً مأخوذاً بالعقائد السياسية والأحزاب، لكنه لا يلبث يعترف بخيباته مع مرور السنوات، خيبات أمل لا مفر منها داخل أي عقيدة سياسية: "الحضارة الإنسانية والعدالة الاجتماعية: يا للكلمات الجميلة! كل منها خير ثمين للبشرية، لكن انظر بعد ذلك لتعبيرات الجثث التي تترك لتتعفن أياماً كاملة في الوحل... وقل لي إذا كان خير البشرية يؤسس بهذه الطريقة" (ص: 159). ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الرواية حازت جائزة "باغوت" لعام 1950، كما أنها تحولت إلى فيلم سينمائي عام 1960 من إخراج ماورو بولونيني، وستتبعها في ترجمتها إلى العربية الروايتان الأخريان من الثلاثية.
الزهو الذكوري أو العجز السياسي
قبل الغوص في الفاشية والأيديولوجيات ومشاكل أوروبا منتصف القرن العشرين التي تؤطر السرد، لا بد من التوقف عند عنوان الرواية وصفحة الغلاف المعبرة بمكان. فـ"أنطونيو الجميل" إنما هو بطل فيتالينو برانكاتي والشخصية الرئيسة التي يرافقها السرد طيلة الثلاثمئة صفحة التي يمتد عليها النص. وأنطونيو يشكل ظاهرة في مجتمعه من حيث جماله وجاذبيته، فهو قبلة أنظار النساء جميعهن ومصدر غيرة الرجال وحسدهم. يفتتح الكاتب سرده واصفاً أنطونيو وتأثيره في المحيطين به وبخاصة النساء منهم قائلاً: "تشع عذوبة تلقائية من وجهه الذي يميل إلى السمرة، ويزداد دكنه عند الذقن بشكل واضح، ولكنه شديد الرقة، تتوهج النساء إلى جواره في عذوبة شديدة، ويعانين، ويفقدن صوابهن برقة بالغة، تدفع إلى التفكير في استيلاء إحدى حالات الجنون الخطيرة عليهن" (ص: 12- 13). قس الكنيسة نفسه يغار من أنطونيو ومن تحديق المصليات فيه طيلة فترة القداس، فينصح والدته بأن تصلي لله كي يفقد أنطونيو بصره ويكف عن إغواء الفتيات. إن الجمال الصاعق والساحق سمة أنطونيو الأولى والوحيدة بشكل من الأشكال، ما يبرر وجود الديك على صفحة الغلاف. الديك الذي يرمز عموماً إلى الزهو الذكوري والرجولية والفخر، يتحول إلى الرمز الطبيعي لأنطونيو قاهر قلوب النساء، في صقلية وروما على حد سواء.
يفاجأ القارئ بعد صفحات من السرد أن أنطونيو الذي يرسمه الكاتب بصورة زير نساء و"دون جوان" معاصر في البداية، إنما تزوج منذ ثلاث سنوات من دون أن يقرب زوجته ومن دون أن يلمسها، فكيف ذلك، وأين هو الخلل، وهل عقاب الجمال الصارخ هو العجز والفراغ والعقم، ولماذا تحول الديك المرسوم على صفحة الغلاف إلى رمز جديد للشماتة بهذا البطل المسكين الذي خسر سمعته، وكيف تحول هذا الشاب الفحل الذي تحسد امرأته كل نساء صقلية إلى كازانوفا مخلوع وكائن موسوم بالعار والعجز؟
وليزيد الطين بلة، يتخذ عجز أنطونيو الجنسي منحى تراجيدياً إنسانياً هائلاً في مجتمع يحدد قيمة الرجل بعلاقاته مع النساء. تؤدي فضيحة أنطونيو إلى انتهاء حياته الاجتماعية والعاطفية والعملية، ووالده نفسه يدفع الثمن فيكون رد فعله أن يحرص على أن يموت في بيت سيئ السمعة ليمحو عن نفسه وصمة العار التي جلبها عليه عجز ابنه الوحيد. فهل يكون عجز هذا البطل الوسيم الباهر مرآة للعجز السياسي والأيديولوجي الذي عانت منه إيطاليا الفاشية، أو ليس الجمال الساحق من الخارج والعجز التام من الداخل هو حال كل أيديولوجيا عرفتها البشرية؟
أوروبا المحتضرة
تأسست الفاشية الإيطالية على أسس قومية بهدف إقامة إيطاليا وريثة للإمبراطورية التي كان مركزها روما في غابر الأزمان. وكان الحزب الفاشي وعلى رأسه موسوليني يطمح إلى تحقيق النظام والانضباط والتسلسل الهرمي في أمة تحكمها ميليشيات ثورية مستبدة تفرض على أعدائها الاضمحلال. وفي أوروبا مجيشة منقسمة مشتتة نشبت الحرب العالمية الثانية وتغيرت المعايير الإنسانية وسيطرت النزعات المتطرفة على المنطق والعقل والوعي، لدرجة أن إحدى شخصيات برانكاتي تقول: "تساءلنا إذا لم يكن العالم قد صار قميئاً إلى الأبد". (ص: 293).
زمن حالك من الجرائم والفظاعات يؤطر قصة أنطونيو الجميل ويظهر تعنت الرجال وتعلقهم بالأحزاب والأيديولوجيات التي تتكشف عاجزة، كحال أنطونيو. زمن حالك يصم أوروبا ويغرقها في العنف والحروب والعداوات، فتقول شخصية من شخصيات برانكاتي: "كانت أوروبا غارقة في الظلام، والسفن تنزلق إلى البحر ليلاً كئيبة، وقاتمة كعربات جنائزية، ويتغذى العديد من الشعوب على العنب الجاف فحسب،... بعد قليل، قال، ستبدو لنا هذه الأعوام العشرون من الاستبداد والفظاظة والادعاء كحلم ليلة محمومة. سنحتفظ فقط بعادة أن نلتفت للوراء قبل أن نتحدث بصوت مرتفع..." (ص: 280).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتحول الإيمان بالعقيدة والأيديولوجيا والخير العام والحقيقة المطلقة إلى مجرد خيبات تعترف الشخصيات بها وبالهزائم الناتجة عنها. ومع الحرب والفاشية والعقيدة السياسية، تطرح أسئلة وجودية فلسفية إنسانية اجتماعية متعددة، أسئلة لا إجابة عليها إنما نراها تترك خلفها حلماً واحداً معلقاً في الأفق، الحلم بأوروبا قوية متحدة، فـ"المهم أن تعود الأوقات السعيدة، وقبل كل شيء، الحرة!" (ص: 281).
"أنطونيو الجميل" رواية فيتالينو برانكاتي الهادئة والسلسلة، وحتى البطيئة أكثر من اللازم في بعض مواضع السرد، رواية مكتوبة بأسلوب سردي يكاد يقترب من المحكية العامية بالتشابيه والنبرة المسيطرة على الحوار، ما يخرج النص من عنف الحرب العالمية الثانية والفاشية والعجز المستشري في المجتمع على مختلف أصعدته، ويعيده إلى الحلم بأوروبا جديدة قوية وحرة، حلم راود أولئك الذين عرفوا "أنطونيو الجميل" وموسوليني وإيطاليا الثلاثينيات.