يتمتع السودان بميزات وموارد عديدة تمكنه من أن يكون في مصاف الدول المتقدمة، لكنه ظل يحتل مركزاً متأخراً في الصادرات السلعية عالمياً، منذ انفصال جنوب السودان عام 2011، ما أفقده 70 في المئة من موارده البترولية، بعدما كانت السلعة الرئيسة في الصادرات. فما العقبات التي تحيل من دون استغلال موارده بالشكل المطلوب؟ وما خطوات الحكومة الانتقالية في البلاد للنهوض بقطاع التجارة الخارجية بعد تصالحها مع المجتمع الدولي؟
السياسات الحالية
يقول المحلل الاقتصادي السوداني محمد الناير "خارجياً، نجد الصين تتصدر قائمة أكبر الشركاء التجاريين للسودان استيراداً وتصديراً، تليها السعودية والإمارات، لكن المشكلة الميزان التجاري يشهد عجزاً مستمراً، وهو مؤشر سلبي ليس في مصلحة البلاد، حيث يحتاج إلى معالجة من خلال زيادة حجم الصادرات وتقليل الواردات، فضلاً عن البحث عن أسواق جديدة في مختلف دول العالم، وأن يجري تصدير السلع السودانية مصنعة وليس خاماً ما عدا الماشية، وهذا يتطلب توافر إمكانات وقدرات قد لا تكون متاحة، وقد سعدنا قبل عامين بأن هذا الأمر أشار إليه رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، بأنه سيتم تهيئة المناخ للارتقاء بالصادرات السودانية، وأن تتجه البلاد نحو التصنيع للاستفادة من المواد الخام".
ويعتقد الناير أن أكبر مشكلة تعوق التبادل التجاري هي "سياسات الدولة الحالية"، مؤكداً أنها "تقود لوقف عجلة الإنتاج، من ناحية ارتفاع أسعار الوقود، ما ينعكس تأثيره على مسألة النقل، وكذلك ارتفاع أسعار الكهرباء وعدم استقرارها، وغيرها من المشكلات، فالحكومة السودانية تعمل على إرضاء صندوق النقد الدولي بتطبيق سياساته، ولا تنظر إلى الآثار السلبية والتعقيدات الداخلية التي خلفتها تلك السياسات". لافتاً إلى أن السودان "لديه ميزة نسبية عالية من ناحية أن جميع منتجاته مرغوبة في الأسواق الخارجية، كونها عضوية، لكن تهزمه الميزة التنافسية، فلا بد من أن تكون الجودة عالية والكلفة أقل، خصوصاً أن بلادنا تحيط بدول جوار لديها ذات الميزة التنافسية وبكلفة أقل، بالتالي في ظل منظمة التجارة العالمية سيكون البقاء للأفضل من حيث الجودة العالية والكلفة الأقل".
زيادة الصادرات
ويتابع، "النهوض بمجال التجارة الخارجية، يحتاج إجمالاً إلى أن تتخذ الدولة السياسات الكفيلة التي من شأنها أن تؤدي إلى خفض كلفة الإنتاج، إضافة إلى تهيئة مناخ الاستثمار من خلال تسهيل الإجراءات بالتخلص من البيروقراطية الحكومية المتبعة، بحيث تقود هذه الإجراءات إلى زيادة حجم الصادرات وإحلال بعض الواردات، فعلى سبيل المثال السودان ينتج 700 ألف طن سكر في السنة، ويستهلك مليون طن سنوياً، فكان من الأولى وقف عمليات استيراد هذه السلعة من خلال زيادة حجم الإنتاج، فالمسألة في تقديري أن الحكومة الحالية بحاجة إلى وضع برامج اقتصادية شاملة وعملية، لكن نجدها مهتمة بقضايا أخرى مثل سن التشريعات والعلاقات الدولية وغيرها، وهي بلا شك قضايا مهمة، لكن القضية الاقتصادية هي الأهم في ظل المعاناة الكبيرة التي يتكبدها المواطن السوداني من تصاعد الأسعار وانعدام السلع الاستراتيجية".
وأشار أيضاً إلى أن زيادة سعر الدولار الجمركي، وعدم خفضه إلى أدنى مستوياته "يمثل أكبر مشكلة تهدد التجارة الخارجية، فالحكومة السودانية تتخذ القرارات ولا تعالج الأثر. كما أن القطاع الخاص يواجه مشكلات كثيرة جعلته عاجزاً عن النهوض اقتصادياً، ما جعله يركز فقط في جانب التوسع العقاري، فضلاً عما تعانيه المصارف السودانية من ضعف رأس المال بسبب انهيار العملة المحلية، فلا يعقل أن يكون رأسمال بعض هذه المصارف أقل من مليون دولار، وهو ما يجعل منافستها عالمياً ضعيفة جداً".
ومضى المحلل الاقتصادي، "من المؤسف أن بلداً مثل السودان يملك ما يقارب 80 مليون هكتار صالحة للزراعة، يستغل منها 30 في المئة فقط، وأكثر من 108 ملايين رأس ماشية، وتنوع في مصادر المياه الجوفية والأنهار والأمطار، وكذلك تنوع في المناخ يؤدي إلى تنوع المحاصيل، كما يعد أكبر منتج للصمغ العربي بنحو 70 إلى 85 في المئة من الإنتاج في العالم، فضلاً عن امتلاكه ساحلاً على البحر الأحمر يمتد 700 كيلومتر لم يستغل في الحياة البحرية، إلى جانب موقعه الاستراتيجي الذي يربط بين العالمين العربي والأفريقي، وامتلاكه موانئ في ظل مجاورته دولاً مغلقة من حيث البحار مثل تشاد وإثيوبيا وجنوب السودان، إضافة إلى تمتعه بقدرات سياحية هائلة، حيث لا يعقل في ظل هذه الميزات والقيم المضافة أن تقدر صادراته السنوية بنحو 4 مليارات دولار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ضعف التمويل
في سياق متصل، أشار الباحث الاقتصادي السوداني هيثم محمد فتحي إلى أن "قطاع التجارة الخارجية في السودان يقوم بدور مهم في دعم الاقتصاد الوطني، وكذلك في تصحيح العجز المستمر في الميزان التجاري، لكنه يواجه عديداً من المشكلات التي حالت من دون تطويره والنهوض به بشكل أفضل، واعتبر ضعف التمويل من أهم مشاكل هذا القطاع".
وبين أن حجم التمويل المصرفي لتطوير التجارة الخارجية والنسبة المخصصة من هذا التمويل لتمويل هذا النشاط لا تتناسب مع حجم السلع التي يمكن تصديرها أو استيرادها، لافتاً أيضاً إلى تأثير كفاءة صيغ التمويل على حجم التجارة الخارجية، ما أثر سلباً على عملية تمويل هذا القطاع.
وأكد فتحي، أنه في ظل انفتاح السودان على المجتمع الدولي، فلا بد أن تتخذ الدولة خطوات سريعة وجادة، من أبرزها وضع سياسات تمويلية تشجيعية تساعد على النهوض بقطاع الصادرات الذي ظل سنوات عدة يعاني اختلالات هيكلية، كما لا بد من توفير التمويل المصرفي الكافي لسلع الصادرات السودانية حتى تستطيع النهوض وتأخذ موقعها في الأسواق العالمية، حيث إنه من غير المعقول أن تكون واردات السودان من السلع الغذائية تشكل أكثر من 25 في المئة من إجمالي الواردات في بلد يفترض أن يكون سلة غذاء العالم".
تحفيز المستثمرين
وتابع، "واقع الاقتصاد السوداني الآن يكشف الفجوة الخارجية الناتجة من عدم وجود صادرات توازي الواردات، بالتالي من الأهمية بمكان العمل على إزالة العوائق أمام الصادرات السودانية، وإصلاح موانئ البلاد البرية والبحرية والجوية وتطويرها حتى تبلغ الكفاءة العالية، كذلك لا بد من إصلاح التعريفة الجمركية وضريبة التنمية، على أن تتطابق الضريبة الإضافية التي تفرض على الواردات مع الضريبة المفروضة على السلع المنتجة محلياً، وفي تقديري أن الإصلاحات النقدية والمالية التي جرت في الفترة الأخيرة غير كافية، ولا بد من إحداث نقلة نوعية في هذا الجانب".
وتوقع الباحث الاقتصادي أن تزدهر التجارة الخارجية للسودان مع العديد من دول العالم خلال الفترة المقبلة، خصوصاً أن هناك مؤشرات تحفيزية لجذب الاستثمارات والشراكات الأجنبية، إذ أجرت السلطات المختصة في البلاد تعديلات جوهرية على قانون الاستثمار لتيسير الإجراءات وتحفيز المستثمرين على الدخول في شراكات مع نظرائهم السودانيين أو تبني مشروعات منفصلة تضمن توفير عوائد مقدرة للحكومة.
ولفت فتحي إلى أن قانون الاستثمار الجديد، الذي جرى إجازته أخيراً، اهتم بتفعيل نظام النافذة الواحدة لتقديم خدمة للمستثمر في مكان واحد وفق إجراءات بتوقيت زمني محدد، كما عالج عديداً من النزاعات الخاصة بالأراضي، التي كانت تنشأ في السابق بين المستثمرين والأهالي الذين يدعون ملكية الأرض ويمنعون أي جهة أخرى من إقامة مشروعات عليها، فضلاً عن أنه حدد أولويات الاستثمار والمسؤولية المجتمعية، كما عالج العلاقة بين الإدارة المركزية والأجسام الموازية في الولايات والمشروعات ذات البعد القومي.
تهريب وحصار
في المقابل، أرجع الاقتصادي السوداني الزبير وراق، أسباب تدني التجارة الخارجية للبلاد خلال الفترة الماضية إلى اتساع عمليات التهريب، والحصار الذي كان مفروضاً على السودان بسبب السياسات الرعناء لنظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير بدعمه الإرهاب، الذي انتهى بعودة السودان إلى المجتمع الدولي ورفع اسمه من الدول الراعية للإرهاب في ديسمبر (كانون الأول) 2020، وهو ما أسهم في انسياب التحويلات الخارجية، وإمكانية تطوير التجارة الإلكترونية، خصوصاً بعد عودة البلاد للمقاصة الدولية ما يمكن البنوك السودانية من لعب دور كبير، والاستفادة من التمويل الخارجي للقطاعات الحيوية.
وتوقع وراق أن تنهض التجارة الخارجية للسودان بشكل ملحوظ ولافت مستقبلاً، بالنظر لما تشهده البلاد من انفتاح وتصالح مع العالم الخارجي، حيث إن موارد السودان الهائلة من شأنها أن تكون حافزاً وعاملاً مهماً في جذب استثمارات ضخمة خاصة في المجال الزراعي.
وأضاف وراق، "نحتاج فقط من أجل النهوض بقطاع التجارة الخارجية إلى سن قوانين وتشريعات محفزة، وإيجاد ضوابط واضحة تقنن التبادل التجاري، خصوصاً تجارة الحدود، وذلك لكون السودان يحاط بثماني دول، ما يكون عاملاً محفزاً لإنشاء مناطق تجارة حرة، فالسودان يمتلك موارد متنوعة في مجالات عدة مثل الفول، والسمسم، والكركدي، والصمغ العربي، فضلاً عن الثروة الحيوانية، لكن من المهم تطوير البيئة الصناعية بدل تصدير الخام، وكذلك إنشاء مسالخ حديثة، وفوق كل ذلك تقنين صادرات الذهب، حيث تزخر بلادنا بمجموعة متنوعة من المنتجات القابلة للتصدير تستطيع تغطية العجز في ميزان المدفوعات".