Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحاجة إلى "الروتين السياسي" تدفع الشرق الأوسط نحو التبريد

تخوض قوى المنطقة التي تصارعت في الأعوام الماضية جولات مفاوضات جادة

تشهد منطقة الشرق الأوسط جنوحاً نحو الحوار وترجيح دولها خيارات التفاوض في الآونة الأخيرة (غيتي)

يختلف المراقبون في تحديد مدى تأثير النفوذ الأميركي الموجود فعلاً في دول منطقة الشرق الأوسط وسلوكها السياسي، كما هو موجود في بقية مناطق العالم بدرجات متفاوتة، تعيّن قدرة المنطقة على إدارة نفسها ونزاعاتها من عدمه درجتها، إلا أن لا أحد يختلف على وجود هذا النفوذ ولو بحدّه الأدنى بصفتها القوة الأكثر نفوذاً في العالم.

هذا يبدو أكثر جلاء في منطقة الشرق الأوسط، التي ما فتئت الأزمات تتقاذفها منذ خطّت حدودها في القرن الماضي، حتى غدت اليوم نموذجاً لانهيار الشرعية وسيطرة عوامل اللادولة على مساحات شاسعة من جغرافيتها، ما يجعل حضور التأثير الخارجي في نهجها السياسي أكثر وضوحاً وإن حاولت دولها الكبيرة أن تحرس بواباتها وتضمن لها حدّاً أدنى من الاستقلال، إلا أن الأرض ذات السيادة المنتهكة متعددة الأبواب والمداخل.

وما دام الحديث عن الحد الأدنى، فالحد الأدنى للتأثير الأميركي يكمن في صياغة المزاج السياسي للدول الكبيرة المتماسكة، ودفعها بين خيارات التصادم أو الحوار، الأمر الذي كان واضحاً مع تعاقب الإدارات الأميركية ذات الأجندة المتناقضة في ممارسة تأثيرها التاريخي في المنطقة.

فواشنطن التي اختارت الصدام مع من امتهنوا نكأ جرح المنطقة العربية باستمرار، إيران مثلاً، خلال فترة إدارة الرئيس دونالد ترمب، قادت المنطقة إلى الوقوف على حافة الهاوية بعد أن تحوّلت طهران تحت وقع أكثر من 800 عقوبة من معتدٍ يحاول عقد صفقات سياسية مستثمراً سلوكه العسكري، إلى نمر جريح لا يملك ما يخسره على الصعيد الدبلوماسي.

وعلى الرغم من أن سياسة ترمب كانت تراهن على المدى البعيد في تدمير النظام الإيراني، إلا أن نتائج المدى الأقصر لم تكن مضمونة، على الأقل بالنسبة إلى دول الخليج التي تملك استحقاقات تنموية واقتصادية لا يمكن أن تزهر تحت وقع الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة.

الروتين السياسي

الأكثر خطورة في "السياسة الترمبية" كانت حالة عدم اليقين التي تخلّفها، إذ لا يمكن بناء سياسات على المدى المتوسط والبعيد، وحتى القريب، والجميع يقف على الحافات المتسخة والأجواء المشحونة بالاضطرابات السياسية والأمنية والتهديد بالقصف والقصف المتبادل.

وجه سلبي آخر في سياسة الرئيس السابق، تمثّل في حالة الانعطافات المفاجئة التي بدت جلية في الموقف من السياسة التركية التي كانت تحت وطأة النقد والعقوبات الأميركية، إلا أن البيت الأبيض ممثلاً  بشخص الرئيس أخذ انعطافاً مفاجئاً ضمن صفقة سياسية لم تراعِ الموقف المعلن سلفاً من مغامرات أردوغان، وهو الأمر الذي لم يعتَد عليه راسمو السياسات في المنطقة.

ضمان شكل واحد للسياسة أمر في غاية الصعوبة، لكن ضمان حد أدنى من الاستقرار لا يعطي مساحة للمفاجئات السياسية، أمر ممكن ومطلوب، بخاصة مع الرئيس بايدن، الذي لم يبدِ موقفاً صارماً، من سياسات التدخل من جيران المنطقة العربية، وهو ما لا يتوائم مع ضرورة حفظ سيادة المنطقة، إلا أنه من منطلق إدراكه بأن هذه المنطقة لا تقبل الحلول الكاملة، يسعى إلى الضغط صوب الحد الذي يخلق روتيناً سياسياً تكون فيه نسبة المغامرات والحوادث غير المتوقعة محدودة.

لكن على الجانب الآخر، لا يمكن إغفال الهامش الذي تملكه دول المنطقة في تحديد شكل السياسة التي تتخذها، وهي التي لطالما رفضت مبادرات السلام في مناسبات أخرى، قبل أن تقبل بالتفاوض عليه اليوم، الأمر الذي يؤكده المحلل والكتاب السياسي السعودي عبد الرحمن الطريري، الذي شدد على تأثير الولايات المتحدة في سياسات المنطقة بصفتها القطب الدولي الأقوى على الرغم من التراجع الكبير في دورها السياسي والاقتصادي والعسكري في العالم والإقليم، لكن اعتبارها السبب الأوحد لموجة التبريد في المنطقة هو اختصار مخلّ.

وقال الطريري إن "المنطقة تعاني منذ عقد من الزمن، منذ موجة الربيع العربي وآثارها الاقتصادية والاجتماعية، وما نتج من ذلك لجهة ظهور حركات إرهابية وتحوّل دول عربية مهمة إلى دول فاشلة، وهذا بحد ذاته عامل يدفعها إلى السعي للتبريد"، إضافة إلى أن المنطقة اختبرت الحلول العسكرية في الأعوام الأربعة الماضية، "العامل الأهم إدراك الأطراف الإقليمية كافة أن مسألة الرهان على الحسم العسكري أصبح متعذراً، فذلك لم يتحقق لا في ليبيا ولا في سوريا على الرغم من تدخّل الروس"، الأمر الذي جعل خيار الحسم العسكري بالنسبة إليها مستبعداً في الفترة الحالية.

الظرف الاقتصادي

الحاجة لروتين سياسي تسير فيه عمليات الإصلاح الاقتصادي والتنمية ليست السبب الوحيد لعملية التهدئة القائمة اليوم، فالظرف التاريخي الذي يعيشه العالم ككل والمنطقة بالتحديد يضيف مهمة "احتواء الانهيار الاقتصادي" في قائمة الأولويات، فبحسب الطريري "تعاني أطراف عدة في المنطقة من تراجع أسعار النفط وتداعيات جائحة كورونا، ويظهر ذلك جلياً في تأثيره في إيرادات السياحة في دول مثل تركيا ولبنان، بالتالي في مقدرات البنوك المركزية وسعر العملة الذي تدهور في أنقرة وطهران"، إضافة إلى استحقاقات التنمية في دول الخليج ووعود الرفاه الذي تقدّمه حكوماتها، هذا بدوره "خلق رغبة إقليمية بالتهدئة بشكل عام لمنع الوصول إلى قيعان اقتصادية أكبر، ربما تؤدي إلى انفجارات اجتماعية لا تحتملها المنطقة، بالتالي سنشهد تسويات على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، مع إمكانية بقاء بعض الملفات معلّقة وعصيّة على الحل كالملف السوري مثلاً".

هذا التحوّل بنصب الطاولات في كل زوايا المنطقة بمفاوضات سعودية إيرانية، وتركية مصرية، وتمهيد تركي للتفاوض مع السعودية، تحت وطأة المطرقة الاقتصادية وارتفاع فاتورة الصراع، يطرح تساؤل ما إذا كان إيماناً بحتمية التعايش أو أنه ظرف تاريخي مؤقت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويجيب الدكتور إحسان المشري، الأكاديمي العراقي ورئيس مركز التفكير السياسي، عن هذا السؤال قائلاً "اتجاه المنطقة نحو تهدئة الصراعات في ظل الأزمة الاقتصادية التي خلقها كورونا، هو نتيجة لقناعة لدى غالبية الدول للذهاب إلى حل، لأن فاتورة الصراع أكثر ثمناً في هذا الوقت، لذلك جلست إيران إلى الطاولة، وقدّمت السعودية مبادرة إلى اليمن، وبدأت تركيا بمصالحة إقليمها"، وهذا السياق الذي ولد فيه الحل يجعله في وجهة نظر الشمري "ظرفاً سياسياً مؤقتاً أكثر من كونه إيماناً بضرورة التعايش".

عوامل داخلية

ومما يعزز فكرة ولادة الحاجة إلى التبريد من عوامل داخلية كضرورة تاريخية، إلى جانب الرغبة الأميركية، هو أن مسار  خلق الروتين السياسي سبق التغيير في البيت الأبيض، إذ شهدت نهاية العام الماضي اتجاه دول عربية عدة إلى توقيع اتفاقات سلام مع إسرائيل، كانت الإمارات في أول القائمة، تلتها البحرين والسودان والمغرب، وعُمان التي رحّبت وحضّرت مراسم التوقيع، من دون أن ترقي علاقتها الموجودة فعلاً مع الدولة العبرية.

هذا التغيير الذي أتى في ظاهره على شكل صفقات سياسية بين الدول العربية وواشنطن، كان لديه سبب استراتيجي، بخاصة لتلك الدول التي تملك مشاريع إقليمية كأبو ظبي، في ظل انعدام التوافق السياسي حول الحل، وغياب مشاريع جادة يمكن تصوّر ملف الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني من خلالها، ويعتبر الطريري أنها خلقت تغييراً كبيراً "نحو تعزيز خطاب المصالح على الخطب الرنانة، فحتى النظام السوري الذي صوّر نفسه ضلعاً رئيساً في محور الممانعة، صدرت منه تصريحات عدة نحو الترحيب بعلاقات مع إسرائيل، وكذلك شاهدنا لبنان المحكوم من حزب الله يتجه نحو ترسيم الحدود البحرية مع تل أبيب“.

هذه الخطوة التي لا علاقة مباشرة لها بالتهدئة بين الأطراف الأخرى، إلا أنها خلقت تغيّراً لفكرة السلام في المنطقة، إذ يضيف الطريري حول ذلك، "ربما تكون خلقت تغيّراً دراماتيكياً في المنطقة، نحو تعزيز خطاب المصالح على الخطب الرنانة، فحتى النظام السوري الذي صوّر نفسه ضلعاً رئيساً في محور الممانعة، صدرت منه تصريحات عدة نحو الترحيب بعلاقات مع إسرائيل، وكذلك شاهدنا لبنان المحكوم من حزب الله يتجه نحو ترسيم الحدود البحرية مع تل أبيب".

العراق... لاعب في الشرق الأوسط الجديد

أبرز إفرازات المشهد السياسي الجديد المائل نحو التهدئة، هو أن العراق الملتهب بات يلعب دوراً في إطفاء نيران الصراع بين الرياض وطهران، ليتجاوز دور ساعي البريد بين العاصمتين الذي لعبه في فترة عادل عبد المهدي وحيدر العبادي، ودوراً منحازاً في حقبة نوري المالكي، إذ استضافت بغداد محادثات بين الطرفين "أكثر من مرة"، حسبما أفاد الرئيس العراقي برهم صالح، الذي أكد أخبار تتداولها تقارير صحافية وتمنع البلدان عن التصريح بها بشكل علني في بادئ الأمر.

وأكدت تقارير لقاء وفد سعودي بقيادة رئيس جهاز الاستخبارات خالد الحميدان، مسؤولين إيرانيين في بغداد في التاسع من أبريل (نيسان) الماضي، ومن المتوقع أن تجري السعودية مزيداً من المحادثات هذا الشهر، وفقاً لما نشرته وكالة "رويترز" نقلاً عن مسؤول غربي مطلع على المباحثات.

ويمثل الحوار الذي يستضيفه العراق أول جهد جدّي لنزع فتيل التوترات منذ قطع العلاقات بين السعودية وإيران في 2016 إثر مهاجمة البعثة الدبلوماسية السعودية في طهران.

وحول الدور الجديد الذي نجح رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في لعبه بعد سنوات من الهشاشة السياسية، يقول الدكتور إحسان الشمري "الأمر يأتي في سياق تاريخي دفع العراق الذي يحتاج إلى إقليم مستقر للعب هذا الدور، وهيّأ له الظروف لذلك". وحول كيفية التوصل إلى هذا الأمر، يشرح الأكاديمي العراقي "الرياض تثق بشكل كبير بالعراق باعتباره أمام مرحلة جديدة ونهج سياسي جديد، يمثل بما لا يقبل الشك لحظة التقاء مع حاضنته العربية وهذا أعطاه زخمأ كبيراً. في المقابل إيران تنظر إلى العراق على أنه رئة سياسية تتنفس من خلالها الحلول في فترة مفاوضات نووية حاسمة، بخاصة أنها لو نجحت في تسوية خلافاتها الإقليمية ستتمكّن من تقليل الاشتراطات عليها في مفاوضات فيينا"، إذ تحضر سياسات إيران الإقليمية ضمن مفاوضات استعادة الاتفاق النووي.

تركيا وإعادة بناء الحصون الإقليمية 

تركيا بدورها التي ظلّت طريق البيت الأبيض مع اختلاف الرؤساء الأميركيين، باتت أمام رئيس لا يتحفّظ في التعبير إلى أي درجة يمقت أردوغان وسياساته، ما دفعها إلى محاولة بناء حصون إقليمية بترميم العلاقات مع مصر والسعودية،

إذ قال الرئيس التركي إن بلاده ستعزز الحوار مع مصر لتطبيع العلاقات، مشدداً على "الروابط التاريخية بين الشعبين".

وأضاف "سنبدأ مساراً جديداً، في البداية أجرت أجهزة الاستخبارات محادثات ومن ثم وزارتا الخارجية، سنواصل هذا المسار ونوسعه".

وشكّلت هذه المحادثات الاتصال الرسمي الأعلى بين البلدين منذ وصول العلاقة بينهما إلى قطيعة عام 2013 بعد خلع الرئيس محمد مرسي المنتمي لجماعة "الإخوان المسلمين" المدعومة من أنقرة.

وأكد أردوغان "لطالما كان نهجنا تجاه الشعب المصري إيجابياً للغاية، تجمع بين الشعبين التركي والمصري روابط تاريخية، ونحن نجهد لاستعادتها".

بدوره، أعرب وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو الجمعة عن استعداده للقاء نظيره المصري سامح شكري لدفع عملية تطبيع العلاقات، مؤكداً أن المباحثات في القاهرة جرت في "مناخ إيجابي".

وقال للصحافيين "يمكن عقد اجتماع بيني والسيد شكري. لقد التقينا بالفعل في الماضي على هامش اجتماعات دولية".

ويخطط تشاويش أوغلو للتوجّه إلى السعودية الأسبوع المقبل، في أول زيارة من نوعها منذ 2018، وهي الرحلة التي تأتي ضمن المساعي ذاتها التي تبذلها أنقرة في الإقليم.

المزيد من تحلیل