Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإيطالية ألدا ميريني شاعرة على حافة الحكمة والجنون

سيرتها الذاتية فرصة فريدة للغوص في حياتها الصاخبة وأسرارها

الشاعرة الإيطالية ألدا ميريني التي أصيبت بالجنون (دار أرفويان - باريس)

هل ثمة حد فاصل بين العبقرية والجنون؟ لا، في حال نظرنا من جهة الشاعرين جيرار دو نرفال وأنتونان أرتو، كي لا نسمي غيرهما. وإلى هذا الجواب نصل أيضاً، إن تأملنا في حياة وأعمال الشاعرة الإيطالية ألدا ميريني (1931 ــ 2009)، وخصوصاً في سيرتها الذاتية الاستيهامية والبصيرة، "المجنونة في الشقة المجاورة" (1995)، التي صدرت ترجمتها الفرنسية أخيراً عن دار "أرفويان" الباريسية، وتشكل فرصة فريدة للتعرف إلى امرأة يجهلها معظمنا، تعايشت مع الجنون بسلام وألفة منذ صغرها، واستقت منه نصوصاً باهرة في إشراقاتها جعلت عديداً من النقاد في وطنها يعتبرونها أهم شاعرة إيطالية في القرن العشرين.

من هذه السيرة، نعرف أن ألدا عاشت طوال حياتها في البؤس والتهميش. وحين لم تكن نزيلة أحد المصحات العقلية، أي غالباً، شكل الشارع والمقاهي دارها. ومثل نرفال وأرتو، كانت ألدا مجنونة تعي جيداً جنونها وعوارضه والمشاعر الناتجة منه، وفي مقدمها ذلك الإحساس الدائم بضيق كبير داخل جلدها، وذلك اليأس الناتج من تدافع الكلمات وتعثرها في فمها، قبل خروجها على شكل صور مكثفة وومضات بصرية في حالة فوضى تجعل من فهمها مسألة متعذرة على الآخرين. من هنا، سعيها الدؤوب إلى "رفع جدران منيعة من العليق في وجه عدو مقلق، لعله غير موجود"، وعملها على تحويل معاناتها إلى فن، ورغبتها في التواري النابعة من شعورها بأنها عاشت أكثر مما يلزم. رغبة حولت الموت إلى رفيق درب وحبيب، من فرط شدتها.

جنون وإبداع

لكن جنون ألدا ليس ذلك فقط. ففي جميع أعمالها، وخصوصاً في سيرتها، إنه ما يرتبط بالإبداع الشعري. وفي هذا السياق، شكلت الكتابة بالنسبة إليها وسيلة لعيشه بنشوة، للانحراف خارج حدود الفكر والإفلات من المنطق المقيد والارتقاء، فمارستها كـ"نوع من السرنمة" تتكشف فيها سماء الفكر وتتمدد وتتشعب: "لطالما كتبت في حالة سرنمة"، نقرأ في سيرتها. بين يقظة وحلم! تحت تأثير المخدرات والألم؟ حتماً، لكن خصوصاً في حالة إثارة فطرية دائمة، وهو ما حول نصوصها الشعرية، المظللة أبداً بدخان سجائرها، إلى نبوءات عرافة.

متمردة، متناقضة، متقدة، تأرجحت ألدا حتى وفاتها بين دعوة إلى حياة رهبنة وانغماس كلي في حياة عاشقة، ولم تتردد يوماً في القول عالياً ما يختلج داخلها. قاسية، عنيفة وشغوفة، ثارت بلا كلل على البؤس، على الجنون (جنونها وجنون الآخرين)، وخصوصاً على آداب السلوك التي يفرضها مجتمع يرفض التضارب ويخط لأفراده دروباً وحيدة، ملساء ومسطحة لم تتبعها الشاعرة قط.

في السردية الحميمة التي تتحفنا بها داخل سيرتها، ترسم ألدا لنفسها "بورتريه" بصيراً، مبلبلاً أحياناً، لكن مؤثراً إلى أبعد حد وفي غاية الطرافة... بورتريه امرأة تفيض بالحياة وتتعذر محاصرتها، مثل كتابتها، وتبقى بالتالي غالباً ملغزة وتفلت من أي محاولة تصنيف... "أنا امرأة غير قابلة للتدجين"، تقول في ديوان "أفوريزمات وشعوذات" (1999)، لكن من الممكن استخلاص بعض من سماتها انطلاقاً من التفاصيل الغزيرة التي تكشفها عن حياتها، كقصص حبها التي لا تحصى وشكلت لفترة طويلة الموشور الذي نظر الآخرون إليها من خلاله، سلبياً؛ وضعيتها كأم أنجبت أربع بنات ولم تتمكن من الاعتناء بهن؛ وطبعاً إقاماتها المتكررة في المصحات العقلية بسبب نوبات جنونها، والعذابات الناتجة من العزل الإجباري الذي اختبرته ومن وسائل "معالجتها". تجربة "جنهمية، بشرية، تجردنا من صفاتنا البشرية"، على حد قولها، استقت منها نصوص ديوان "الأرض المقدسة" (1984)، أحد أهم أعمالها الشعرية التي تتجاوز المئة.

سيرة مقسّمة

سيرة ألدا تتألف من أربعة أقسام: الحب، والعزل، والعائلة، والألم. يتقدم كل قسم قصيدة تشكل نواة مكثفة لما يحتويه. أقسام مكتوبة بنثر ملتهب، تتشابك داخلها الذكريات والطرف وأحلام اليقظة كلحظات بصيرة من حياة صاخبة، أو كاختبارات لم تبُح الشاعرة بها من قبل أو لم تغفر لمن كان السبب في حدوثها. ففي "العزل" مثلاً، تصف المصح العقلي كـ"وكيل نظام بيروقراطي يبتز المريض، حتى في صحته". مكان عزل، "صليب جائر"، وفي الوقت نفسه، مكان كشف وارتقاء تعلقت به بقدر تعلقها بالحياة. وفي هذا السياق، تفضح الذرائع التي تم اللجوء إليها لسجنها داخله، متوقفةً عند عنف الصدمات الكهربائية التي خضعت لها و"تقتلع الذكريات"، وأيضاً عند الصداقة والرقة التي جمعتها بأولئك المجانين الذين لا يصدقهم أحد، وهم في الواقع ليسوا مجانين إلا في نظر الآخرين، وبسببهم. وهذا لا يعني أنها تنظر إلى الجنون بسلبية، ففي القسم نفسه نقرأ: "الجنون هو أحد الأشياء الأكثر قدسية على الأرض. إنه مسيرة ألم مطهر، عذاب يقود إلى جوهر المنطق".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي قسم "الحب"، تستحضر ألدا عشاقها الغالين على قلبها. ومن وصفها لهم، يبدو كل واحد منهم أجمل وأكثر جنوناً من الآخر. وإذ لا مجال هنا لذكرهم جميعاً، نكتفي بتيتانو الشريد الذي كان يتبع الشاعرة في "رحلاتي الذهنية المعقدة"، والأب ريشار "الآمر، اليانع، العدواني والرائع" الذي اختبرت في كنفه الحب المطلق، وألبرتو كازيراغي، أحد ناشري دواوينها، والكاتب الطلائعي جورجيو مانغانيلي الذي كتبت حول علاقتها به: "كلانا متخصص في حركة "تريشنتو" الفنية، وكلانا متقد في الحب والوجود. لطالما ذهبنا بصداقتنا إلى أقصى حد، حتى باتت أشبه بنشيد الثلج".

في سرد ألدا الذي يتسم بطابع البوح الحميم، ثمة عفوية تمس القارئ ببداهتها وغرابتها على حد سواء، وثمة فيض من الكلام يعكس حالة انخطاف وتجلٍّ نادراً ما غادرتها. وضمن هذه الحالة كتبت من دون شك: "تحملت أشياء دنيئة من دون أن أشتكي، باحثةً عن أسباب الشر. وحين فهمت أن الشر لا وجود له، مثل الخير، صرت عدمية: في الصباح، أقيس ضغطي، أتلمس نبضي وأتساءل كم ساعة تبقت لي قبل أن أصعد إلى منصة الإعدام التي هي الحياة".

القصائد الأربع التي تفتح أقسام سيرة ألدا ميريني الذاتية:

الحب

ذكراك بتلة

تتمدد على قلبي

وتعيث فساداً فيه.

وداع، مثل كل مساء،

وأبعد من الكسور، جثة

مشيدة من كلام،

تبدو كشذرة من موت رحيم،

لكنك تقتلني كالعادة، يا حب،

وتفتح آباري الأبدية.

"قبور" (الشاعر) فوسكولو، وداعات

أيادٍ لم تدفن

وتنبثق عبثاً من العدم

لتطالب بعدالة الكلمات.

العزل

"مأوى" (المجانين) كلمة أكبر بكثير

من هوات الحلم المعتمة،

ومع ذلك كان يحل أحياناً

خيط لازوردي أو أغنية

العندليب البعيدة أو ينفتح

فمك ليعض زرقة السماء

كذبة الحياة الضارية.

العائلة

ولدت في الواحد والعشرين من الربيع

لكنني كنت أجهل أن الولادة في حالة جنون

قادرة على إثارة العاصفة.

الألم

هوة مظلمة، انفجار،

شرارة تحرك الماضي،

كاحلان يتحطمان

من فرط ركضي خلفك، يا ألم،

أنت الأرنب البري الحي

الذي تعرفه يداي

منذ الطفولة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة