سياسة "إعادة ضبط" العلاقات الدولية لواشنطن التي أعلن عنها بايدن منذ يومه الأول في البيت الأبيض طالت إسطنبول، فلطالما توعد الرئيس الأميركي الجديد خلال حملته الانتخابية بأخذ موقف أكثر حزماً من سياسات الرئيس التركي.
كان آخر هذه التصريحات ما قاله لصحيفة "نيويورك تايمز" أواخر 2020 "لقد أمضيت كثيراً من الوقت معه، أنا أعرفه جيداً، إنه مستبد، إنه رئيس تركيا وأكثر من ذلك بكثير"، مضيفاً "ما أعتقد أننا يجب أن نفعله، هو اتخاذ منهج مختلف تماماً تجاهه، منهج يجعلنا أكثر دعماً للمعارضة".
وتوّج جو بايدن هذه السياسات بوصفه ما فعله العثمانيون بالأرمن في 1915 بأنها "إبادة جماعية"، الأمر الذي عدته تركيا "جرحاً عميقاً" من حليف مفترض، و"خطوة خاطئة" ستعيق العلاقة بين البلدين.
إلا أن إسطنبول قد بدأت التحضير لهذه اللحظة باكراً، فمنذ أن فاز الرئيس الذي توعد السلطة في الدولة الشرق أوسطية أثناء حملته الانتخابية، وسياسات تركيا الهجومية تجاه من كانوا أصدقاء لها في المنطقة بدأت بالتراجع، بعد أن باتت بحاجة إلى حصون إقليمية تخفف حدة القطيعة السياسية التي فاقمت حالتها الاقتصادية، في وقت باتت على وشك الدخول في مواجهة لا تريدها مع واشنطن، الأمر الذي يجعلها بحاجة إلى أعداء إقليميين أقل.
ودعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظيره الأميركي إلى التراجع بسرعة عن إعلانه أن مذابح الأرمن إبادة جماعية، وهي خطوة قال إنها تؤثر على العلاقات الثنائية وتضعفها. وفي أول تصريحات له منذ بيان البيت الأبيض يوم السبت، قال أردوغان الإثنين إن "الخطوة الخاطئة" ستعيق العلاقات، ونصح الولايات المتحدة "بالنظر في المرآة" مضيفاً أن تركيا ما زالت تسعى إلى علاقات "جوار ودي" مع أرمينيا.
وقال أردوغان بعد اجتماع للحكومة التركية "أدلى الرئيس الأميركي بتصريحات لا أساس لها وظالمة وتجافي الحقيقة عن الأحداث الحزينة التي وقعت في منطقتنا قبل قرن مضى". وكرر دعوته مؤرخين أرمن وأتراك إلى تشكيل لجنة للتحقيق في تلك الأحداث. وأضاف "آمل أن يتراجع الرئيس الأميركي عن هذه الخطوة الخاطئة بأسرع ما يمكن".
نزع مسمار خاشقجي
لم تكن قضية مقتل جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول أول أوجه الخلاف بين السعودية وتركيا، فالتوتر الذي بدأ منذ ما سمي بالربيع العربي والصدام في ملفات الشرق الأوسط، خفت حدته لسنوات معدودة بعد التغيير الذي طرأ على مؤسسة الحكم السعودية في 2015، إلا أن التوتر عاد مع تجدد الصدام في الملفات الإقليمية، بخاصة قطر وليبيا.
إلا أن ما أوصل العلاقة إلى مستوى غير مسبوق من التوتر، هي الحادثة التي اتهمت فيها الرياض "مجموعة مارقة" بارتكابها، وقامت بمحاكمتهم بحضور رسمي دولي، رحبت بنتائجها عائلة الضحية، إلا أن تركيا وصفت تلك المحاكمة في حينها بـ"المسرحية" ليبدأ الطرفان في التصعيد السياسي ضد بعضهما بعضاً.
لكن الـ26 من أبريل (نيسان) 2021، حمل موقفاً مختلفاً تماماً، بعد أن علّق إبراهيم كالين، مستشار الرئيس، المتحدث باسم الرئاسة التركية، على مجريات المحاكمة، قائلاً "لديهم محكمة أجرت محاكمات وأصدرت حكماً، واتخذوا قراراً بناءً عليه، بالتالي نحن نحترم ذلك القرار".
وأضاف في حوار مع وكالة "رويترز" أن تركيا "ستبحث عن سبل لإصلاح العلاقات مع السعودية بأجندة أكثر إيجابية"، واصفاً شكل العلاقة الحالية بين البلدين بـ"المقاطعة".
وما بين الموقفين المتناقضين تقف كلمة "مقاطعة"، إذ تعرضت المنتجات التركية خلال العام الماضي ومطلع العام الحالي إلى حملة مقاطعة شعبية واسعة، تفاعل معها رجال الأعمال والشركات السعودية بوقف استيراد المنتجات التركية، وهي الخطوة التي ألحقت ضرراً بالغاً بالصادرات القادمة من شبه جزيرة الأناضول.
بلغت هذه الحملة ذروتها، بعد أن بلغت الواردات التركية إلى السعودية 14.1 مليون ريال (3.76 مليون دولار) في يناير (كانون الثاني) الماضي، انخفاضاً من 50.6 مليون ريال (13 مليون دولار) في ديسمبر (كانون الأول)، ومن 622 مليون ريال (165 مليون دولار) في يناير 2020، وفقاً للهيئة العامة للإحصاء السعودية.
وعلى الرغم من أن ذات المصدر أكد ارتفاع الواردات التركية في فبراير (شباط) إلى 24.5 مليون ريال (6.53 مليون دولار)، إلا أنها ظلت أقل بكثير مما كانت عليه قبل الحرب الاقتصادية الشعبية على المنتجات التركية، وأقل بكثير من قدرة المنتجين الأتراك على العمل بالوتيرة السابقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا لم يكن سبباً كافياً خلال العامين الماضيين لعودة تركيا إلى سياساتها التوافقية المعتادة التي كانت تغلب فيها مصلحتها الاقتصادية، إلا أنها كانت سبباً كافياً لجعل الموقف الأميركي تجاه الإدارة التركية أكثر خطورة وإيلاماً، ما دفعها للبحث عن فرص القفز فوق "القضية المبدئية" كما كانت تتعامل معها في بادئ الأمر، والانضمام إلى الموقف الرسمي الدولي والعائلي مما انتهت إليه حادثة خاشقجي التي اعترفت بها الرياض، والتسليم بالموقف القضائي بعد أن أخذت بعداً سياسياً في الفترة الماضية.
ليبيا قد لا تكون وطناً أزرق بعد اليوم
في بداية التدخل العسكري التركي المباشر في ليبيا، قال وزير دفاعها خلوصي أكار من طرابلس "سنبقى هنا إلى الأبد مع إخواننا الليبيين"، بعد أن وصف ليبيا بـ"إرث الدولة العثمانية"، وهي التي تقع في نطاق "الوطن الأزرق" التي يقوم عليها مشروع تركيا القومي التوسعي في شرق البحر المتوسط راسمةً حدود النفوذ تركيا المائي.
هذا التدخل وضعها في مواجهة مباشرة مع مصر، التي تتعامل مع جارتها النفطية بصفتها عمقاً استراتيجياً وأمناً وطنياً، لتسهم في مفاقمة التوتر أصلاً بين أنقرة والقاهرة، منذ أطاح الجيش المصري في 2013 بحكومة الإخوان المسلمين المقربة من تركيا، التي وصفت الخطوة بـ"الانقلاب العسكري".
إلا أن هذا بات من الماضي على ما يبدو، فذات الحوار الذي ألقى فيه كالين بتركة الخلاف مع السعودية وراء ظهره، كانت لحظة مواتية له للتخلي عن تركة الخلاف المصري الأثقل، إذ أكد أن "مكالمة ستُجرى بين تركيا ومصر الأسبوع المقبل، يمكن أن تسفر عن تعاون جديد بين القوتين الإقليميتين المتباعدتين، وتساعد في الجهود المبذولة لإنهاء الحرب في ليبيا".
وأضاف المتحدث باسم الرئاسة، أن هناك "اتصالات بين رؤساء أجهزة المخابرات ووزيري خارجية البلدين، وأن بعثة دبلوماسية تركية ستزور مصر أوائل مايو (أيار)"، مؤكداً أن الحقائق على أرض الواقع "تدفع إلى تطبيع العلاقات مع مصر، لتحقيق مصلحة البلدين والمنطقة".
وفي لفتة إلى القاهرة الشهر الماضي، طلبت تركيا من قنوات التلفزيون المصرية المعارضة العاملة على أراضيها تخفيف حدة الانتقادات للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورحبت مصر بالخطوة، لكنها ما زالت تتبنى علناً نهجاً متحفظاً تجاه الدعوات التركية لتحسين العلاقات بين البلدين.
هذه الخطوات المتزامنة تجاه أعداء الأمس، تأتي على ما يبدو في إطار محاولات الإدارة التركية استعادة بعض حصونها الإقليمية التي كانت تمثل خيارات سياسية واقتصادية وازنة ومؤثرة بالنسبة إليها، بعد سنوات أسقطت فيها الكثير من هذه العلاقات خلف ظهرها في إطار سعيها في استحداث نفوذ خارج حدودها وبسط سيطرتها على الإقليم على حساب هذه الدول، كما يتهمها جيرانها.