Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الخلافات اللبنانية تقحم ملف الترسيم مع إسرائيل في أتون التجاذبات

باسيل يقترح إطلاق يد عون وتغيير الوفد المفاوض ليوظف التراجع عن رفع السقف وبري يرفض

الرئيس اللبناني ميشال عون مستقبلاً وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل (أ ف ب)

تعيد الخلافات اللبنانية الداخلية المستعصية، والتي تبقي لبنان بلا حكومة منذ أكثر من سبعة أشهر ونصف الشهر، إقحام قضايا عدة في صلب تلك الخلافات وتُخضعها للتجاذبات بين الفرقاء، مع أن بعضها له طابع وطني ويفترض أن يكون محل إجماع.

آخر هذه القضايا ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل الذي تتم إدارته من قبل رئيس الجمهورية ميشال عون منذ إعلان رئيس البرلمان نبيه بري في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عن "اتفاق الإطار" على التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، والذي توصل إليه مع الجانب الأميركي بعد طول انتظار، والذي أدى إلى انطلاق المفاوضات في الناقورة بوساطة أميركية في منتصف أكتوبر ثم توقفها في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أربع جلسات.

فبرّي الذي كان جرى تفويضه قبل سنتين من قبل الرئيس عون ورئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري، بإيجاد آلية للتفاوض حول تكريس حقوق لبنان في المنطقة المتنازع عليها في البحر مع إسرائيل، والتي تبلغ مساحتها 860 كيلومتراً مربعاً، أعلن في الأول من أكتوبر عن التوصل لآلية للتفاوض مع الجانب الأميركي، الذي لعب دور الوسيط في هذا الشأن، على أن يتولى قيادة التفاوض الرئيس عون نظراً إلى أن الدستور يعطيه صلاحية رعاية المفاوضات في المعاهدات الدولية، ثم إطلاع مجلس الوزراء على النتائج لإقرارها.

اقتراح تشكيل وفد مفاوض جديد مع إسرائيل

آخر فصول إقحام هذا الملف في سياق الصراعات السياسية الداخلية على النفوذ والأدوار في السلطة، ما أعلنه رئيس كتلة "لبنان القوي"، رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل عن اقتراح تشكيل وفد لبناني جديد للمفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل برئاسة ممثل لرئيس الجمهورية وعضوية ممثلين عن رئيس الحكومة والخارجية والأشغال والطاقة والجيش اللبناني، للتفاوض على أساس رسم خريطة جديدة للحدود التي يقترحها لبنان. والمعروف أن الوفد الذي تولى التفاوض في الخريف الماضي يرأسه العميد في الجيش اللبناني بسام ياسين، واستند إلى خريطة أعدها الجيش قضت بمطالبة لبنان بمساحة 1430 كيلومتراً مربعاً إضافة إلى الـ860 كيلومتراً التي كانت المفاوضات انطلقت على أساس أن لبنان يطالب بها، ما دفع بالجانب الإسرائيلي إلى طلب وقف جلسات التفاوض، لأن مطلب لبنان صار الحصول على 2230 كيلومتراً مربعاً بدل الـ860 كيلومتراً مربعاً.

تكهنات حول أهداف سياسية للخريطة الجديدة

طرح الخريطة الجديدة من قبل الوفد المفاوض، التي قيل إنها استندت إلى دراسات أجرتها وحدة متخصصة في الجيش، لقيت تأييداً من الرئيس عون وقوى سياسية، ومن بعض المؤرخين اللبنانيين الذين يرتكزون إلى تقاسم للحدود بين الانتدابين البريطاني (على فلسطين المحتلة أوائل القرن الماضي) والفرنسي (على لبنان بعد 1920) وإلى دراسة أعدتها شركة بريطانية عام 2009، لكنها في الوقت نفسه أطلقت تساؤلات كثيرة حول الهدف من تغيير الموقف اللبناني الذي كان فاوض على أساسه الرئيس بري سنوات عدة مع الجانب الأميركي قبل إعلانه "اتفاق الإطار" في الأول من أكتوبر. ومن هذه التساؤلات: هل أن "حزب الله" وراء رفع سقف المطالب اللبنانية لفرملة المفاوضات أسوة بالتحليلات التي تتهمه بأنه يقف خلف تعطيل قيام الحكومة لإبقاء الوضع اللبناني برمته ورقة في يد إيران في إطار مفاوضاتها مع الولايات المتحدة الأميركية على ملفها النووي وتدخلاتها الإقليمية؟ وهل أن فريق الرئيس عون كان خلف رفع السقف في مراهنة منه على الحصول على مساحة أكبر مما كان طالب بها غيره من المسؤولين، في إطار المزايدات بين هؤلاء على تولي هذا الملف وعلى تحقيق منافع للبنان من ورائه؟ والبعض طرح السؤال عما إذا كان ما حصل هو لتوريط قائد الجيش العماد جوزف عون الذي يتمتع بعلاقة طيبة مع الأميركيين الحريصين على إنهاء ترسيم الحدود، "لإحراقه" لدى واشنطن بعد تكهنات أنه قد يكون مرشحاً محتملاً لرئاسة الجمهورية، مع أنه لا يعمل لهذا الهدف؟ ومن يطرحون السؤال الأخير يضمرون الافتراض بأنه يعطي الرئيس عون وفريقه وفي مقدمه باسيل، بأنه الأقدر على خفض السقف، بالتالي على تحسين رصيده لدى الأميركيين بحيث يمكّنه من مطالبتهم من رفع العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترمب على باسيل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تجاوب عون مع واشنطن

ومهما تكن صحة التكهنات التي توحي بها هذه الأسئلة وغيرها، فإن المؤكد أولاً أن الجانب اللبناني تبلّغ من واشنطن انزعاجها الشديد من رفعه سقف مطالبه، مع أنه يرغب بشدة، سواء كان ذلك إبان إدارة ترمب، أو في ظل إدارة الرئيس جو بايدن، إقفال ملف الحدود البحرية اللبنانية- الإسرائيلية، لإنهاء باباً للتوتر بين البلدين يمكن أن يستفيد منه "حزب الله"، فضلاً عن اعتقاد الدبلوماسية الأميركية بأن اتفاقاً على ترسيم الحدود ينزع حجة من يد "حزب الله" للاحتفاظ بسلاحه، بالتالي يمهد لنزع ورقة من يد إيران في المشهد الجيوسياسي الراهن. فواشنطن طلبت من الرئاسة اللبنانية عدم التوقيع على مرسوم توسيع حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة في البحر حتى لا تتكرس رسمياً من جانب لبنان مطالبته بمساحة لمنازعة إسرائيل عليها أكثر من مساحة الـ860 كيلومتراً مربعاً، فيصعب التراجع عنها لاحقاً ويتم نسف المفاوضات. وأثناء زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل الذي يعرف ملف الحدود البحرية جيداً، إلى بيروت في 14 أبريل (نيسان)، تجاوب عون مع مطلب واشنطن عدم التوقيع على المرسوم، مع أنه كان أكثر المشجعين على إصداره، ما اعتبره المسؤول الأميركي نقطة إيجابية تسمح بإقناع إسرائيل باستئناف التفاوض. والمعروف أن عون أقرن ليونته باقتراح الاستعانة بخبراء دوليين للاحتكام إلى رأيهم في الخط الجديد الذي رسمه الوفد اللبناني لحدود المنطقة الخاصة بلبنان (أدت تقنياً إلى نقله من الخط 23 إلى الخط 29 بحري)، إضافة إلى مطالبته بأن تجمد إسرائيل التنقيب عن الغاز في البئر التي تقع ضمن نطاق المساحة التي يعطيها الخط الجديد للبنان.

غضب برّي لأن الـ860 كيلومتراً "في جيبه"

المؤكد ثانياً أن الرئيس برّي انزعج منذ أكتوبر الماضي، من رفع الجانب اللبناني سقف المطالب، وانتقد توسيع الحدود البحرية للبنان لاعتقاده بأن ذلك سينسف المفاوضات، وسيحول دون حصول لبنان على المساحة التي كان يطالب بها سابقاً. وفي لقاء له مع الوفد المفاوض زاره برفقة وزيرة الدفاع زينة عكر، ووزير الأشغال ميشال نجار للبحث معه في إصدار مرسوم توسيع الحدود البحرية، الذي عارضه هو، سأل بري: إذا وافق الإسرائيليون على إعطائنا مساحة الـ860 كيلومتراً مربعاً التي كنا نطالب بها سابقاً، ماذا تقولون لهم، فأحرج الحاضرون وأجابوا: "نقبل بها. ونكون طرحنا أكثر منها لنحصل عليها...".

ويقول وزير سابق معني بمسألة تحديد الخط الذي على أساسه طرح لبنان الخط 23 للحصول على الـ860 كيلومتراً مربعاً، إن بري لم يعلن عن اتفاق الإطار على التفاوض نتيجة اتصالاته مع الوسيط الأميركي إلا بعد أن أخذ من الجانب الأميركي الملح على ضرورة إنهاء مشكلة ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وعداً ضمنياً بحصول لبنان على مساحة الـ860 كيلومتراً مربعاً. وكان لبنان حصل وفق خط رسمه الوسيط الأميركي السابق السفير فريدريك هوف عام 2012، على أكثر من 55 في المئة من تلك المساحة وأبقى المساحة الباقية خاضعة للتفاوض. وأوضح الوزير السابق المتابع لكافة مستجدات هذا الملف، أن برّي عارض توسيع الحدود لأن المساحة الأصلية التي طالب لبنان بها صارت كأنها "في جيبه"، نتيجة الاتصالات البعيدة من الأضواء في السنتين الأخيرتين.

التنافس على مردود التفاوض والغطاء السياسي

مع ذلك، ما الذي دفع باسيل إلى طرح اقتراحات من نوع تشكيل وفد جديد للتفاوض، في مؤتمره الصحافي الأخير في 23 أبريل؟ فهو اعتبر أن رئيس الجمهورية ميشال عون هو أفضل من يُؤتمن على هذه المصلحة الاستراتيجية للبنان، "وكل من يكتّر من الكلام "بدّو ميّة سنة" ليصل إلى مستوى حفاظه على الحقوق ولرؤيته الاستراتيجية البعيدة".

فضلاً عن أن إشارته ضد من "يكثر من الكلام" جاءت في سياق الهجوم الذي شنه على رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع لانتقاده الرئيس عون وفريقه، ومن ضمنه مطالبته بتوقيع مرسوم توسيع الحدود البحرية في إطار الحملات المتبادلة بين الفريقين الأقوى على الساحة المسيحية، فإن إصرار باسيل على تغيير الوفد اللبناني المفاوض جاء في سياق سعي الفريق الرئاسي لانتزاع رئاسة الوفد المفاوض من الجيش، التي كان وافق عليها برّي و"حزب الله".

فإذا من إنجازٍ لعملية ترسيم الحدود يسمح بإطلاق التنقيب في البلوك الرقم 9 في الجنوب، والذي سبق أن جرى تلزيمه لكونسورسيوم شركات توتال الفرنسية- إيني الإيطالية- نوفاتيك الروسية، يحصل العهد الرئاسي على مردود استثمار الغاز سياسياً واقتصادياً، وإذا اضطره الأمر تقديم تنازلات يجري توظيفها مع الجانب الأميركي.

والسبب الذي دفع باسيل إلى اقتراح ذلك علناً هو أن عون اقترحه قبل عشرة أيام على برّي حين أوفد المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم والمدير العام لرئاسة الجمهورية أنطوان شقير، فاختصر رئيس البرلمان الاجتماع بعد دقائق معقولة حين نقل إليه رغبة عون من أجل عقد اجتماع معه ومع رئيس الحكومة (المستقيلة) حسان دياب، من أجل التوافق على ملف ترسيم الحدود. لم يدع بري شقير يكمل حديثه قائلاً له: "لا أريد أن أسمع. وحين ألح الموفد أسكته بري مجدداً وقال له: إذهبوا وشكلوا حكومة. أنا قمت بما علي في ملف الترسيم وسلمتكم إياه. ماذا فعلتم به"؟ استبق بري بذلك أي محاولة لأخذ غطائه السياسي من أجل تسليم عون القدرة على المناورة في ملف الترسيم، وإلغاء ما أنجزه هو في اتصالاته مع الجانب الأميركي، وتوظيف رفع سقف التفاوض أو خفضه بالعلاقة مع واشنطن.

إسرائيل ترفض وباسيل يقترح

كان ذلك أحدث فصول ارتباط ملف الترسيم بالتنافس والتجاذب السياسي الداخلي، ولن يكون آخرها. فاستكمالاً لاقتراح تغيير الوفد طرح باسيل وإضافة لدعوته إلى رسم خط جديد بين الخط الذي رسمه السفير هوف وبين الخط 29 الذي رسمه الجيش، قال إنه يمكن التفاوض مع تل أبيب بواسطة شركات دولية هي التي ستنقب عن الغاز في البحر. وهو اقتراح سبق لشركات أن طرحت فكرته على لبنان منذ مدة، عاد إليه باسيل.

لكن هناك سبباً جوهرياً وراء استعجال طرح الأفكار التي تطرح من جانب الفريق الرئاسي اللبناني، وهو أن إسرائيل بعثت بجوابها على العرض الذي قدمه عون للسفير هيل، قالت فيه إنها لن تقبل بتجميد استثمار البئر الذي حفرته. ونقل الجانب الأميركي إلى الجانب اللبناني بأنها أنهت عملية التنقيب وأنها بصدد الانتقال إلى مرحلة استخراج النفط، وأن الشركة التي التزمت البئر ستبدأ بذلك قريباً بعدما ضمنت تمويلاً دولياً لهذه العملية بقيمة 2.5 مليار دولار، وأي إعاقة لبنانية ومن "حزب الله" لتركيب المنصة العائمة ستكبد لبنان تعويضات مالية لا يستطيع احتمالها... وهذا ما دفع عون إلى اقتراح اجتماع مع برّي ودياب للحصول على تفويض حيال التراجع عما سبق للوفد المفاوض أن طالب به.

المزيد من تحلیل