Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"دمائي ليست زرقاء" رواية تكشف لغزاً فرعونياً

أحمد فؤاد درويش يقتنص من التاريخ ما يوافق اللحظة الراهنة

من تجليات الفن الفرعوني (الخدمة الإعلامية للمتحف المصري)

أمنحتب الأول، تحتمس الثالث، ستي الأول، حتشبسوت ورمسيس الثاني؛ هم بعض ملوك مصر القديمة الذين تم نقل مومياواتهم أخيراً - في موكب مهيب- من متحف في وسط القاهرة إلى آخر في جنوبها، وهم أيضاً أصحاب حضور لافت في رواية "دمائي ليست زرقاء" (دار بدائل) للكاتب أحمد فؤاد درويش. يحمل عنوان الرواية دلالة على عدم نقاء العرق، أو الانحدار من طبقة العامة وليس من طبقة الملوك، وهو ما ينطبق على شخصيتها المحورية؛ الملك "حور إم حب" 1396 ق.م- 1318 ق.م؛ آخر ملوك الأسرة الثامنة عشرة، الذي لم ينحدر من أصولٍ ملكية، تدرّج في المناصب حتى أصبح قائداً للجيش، ومعاوناً للملك "توت عنخ آمون".

كان "حور إم حب"، بمثابة أحد ألغاز الحضارة المصرية القديمة، فالملك الذي لم يُعثر على موميائه حتى الآن؛ لقى هجوماً كبيراً من بعض المؤرخين ومن أفلام هوليوود، التي أبرزته كأهم المنقلبين على الديانة الآتونية، وأنه اغتصب العرش، واتهمته بقتل الملكين؛ توت عنخ آمون، وآي، باعتباره المستفيد الوحيد من انتهاء الذكور في أسرة التحامسة، ما أتاح له اعتلاء كرسي الحكم. وعلى رغم ندرة ما كتب عنه فإن الكاتب أحمد فؤاد درويش أراد إنصافه وأبرز من تاريخه ما أسقطه غيره - ربما عمداً- وذلك بإضاءة جانب المنقذ والمصلح الذي استطاع إصلاح الفوضى التي دبت في مصر أثناء وعقب حكم إخناتون، واستعادته لهيبة الإمبراطورية المصرية، ودعمه من قبل العامة ورغبتهم العارمة في توليه العرش.

على عادة كل الروايات التي تتخذ من التاريخ فضاء لها، نهض الكاتب ببنائه الروائي على أحداث ووقائع تاريخية حقيقية، ثم زاوج الحقيقة بالخيال عبر أحداثٍ تسمح بها المعطيات التاريخية، وتتيح للنص إبراز الرسائل التي تعبر عن فلسفة الكاتب ورؤيته. ولم يترك درويش الأمر ملتبساً، بل قدم في أول صفحات الرواية تمهيداً معرفياً يتيح للقارئ معرفة الحقائق التي ينهض عليها العمل ويميز بين الحقيقي والمتخيل من الأحداث والشخوص، فإن كان صعود رجل من العامة "حور إم حب" إلى الحكم وصراعه مع كهنة آمون؛ حقيقة تاريخية موثقة، فإن طريقة تقلده للسلطة وحيله التي تغلب بها على تآمرات الكهنة؛ تبقى حقاً أصيلاً لمخيلة الكاتب، المعروف عنه ثقافته العميقة بالتاريخ الفرعوني، إذ سبق له أن قدم ثلاثين فيلماً وثائقياً حول الحضارة المصرية القديمة في ما يعرف بـ"فرعونيات فؤاد درويش"، وصنفته جامعة جنوب كاليفورنيا في كتابها الأكاديمي عام 1980 بالمخرج الـ15 في تاريخ إبداع الأفلام الوثائقية في العالم خلال المئة عام الأخيرة. وقد أتاحت له هذه الثقافة أن يقدم عملاً روائياً محكماً، يمرر حمولات كثيفة من المعرفة التاريخية، عبر تكنيك يجمع بين أساليب السرد والسيناريو، والتقنيات البصرية التي ترتكز على تصوير الحركة فتكسب القراءة متعة المشاهدة.

الواقع واستلهام التاريخ

اعتاد درويش في كتاباته التاريخية أن يلتقط من الماضي ما يصلح للحظة الراهنة. ففي روايته "ابن آني 2008" استخدم التاريخ الفرعوني أيضاً لتمرير فلسفته الخاصة بوجوب الاختلاف والخروج عن القطيع، لتحقيق الهدف الأسمى وإعلاء قيم الحق والخير والعدالة. ومرة أخرى يسلك النهج نفسه في روايته "دمائي ليست زرقاء" باستدعاء التاريخ، لإبراز عبرة محددة حول السلطة المطلقة ومفسدة توريث الحكم، وكيف يتسبب في صعود الكهنة المتسترين بالدين والزاعمين بأنهم ينطقون بما يريده الإله، وقفزهم على السلطة وفسادهم ما يؤدي في النهاية إلى ضعف الدولة وانهيارها. وهو ما يبدو إسقاطاً على محاولة نظام مبارك توريث الحكم وما أسفر عنه من ثورة يناير (كانون الثاني) وما تلاها من أحداث. وقد وجد الكاتب في شخصية حور إم حب ضالته، لكونه ابن العامة البعيد من السلالة الملكية، الذي استطاع أن يفصل بين الدين والدولة. وأبعد الكهنة عن أمور السياسة. وتمكن من وضع قوانين تحارب الفساد والرشوة. وقام بإصلاحات كبيرة في الهيكل الإداري والقضائي للدولة. وأنعش الاقتصاد، ورفع الظلم عن الأهالي والمزارعين، حيث كان أول حاكم في تاريخ الإنسانية يصدر تشريعات للعدالة الاجتماعية وللرحمة بالعبيد. كما إنه لم يورث الحكم؛ لدرايته بأن التوريث طريقٌ إلى إضعاف الدولة كما ورد بالنص الروائي، وربما لأنه لم ينجب ذكوراً، فالثابت تاريخياً أنه لم ينجب بنين سواء من زوجته الأولى أم الثانية "الأميرة موت نجمت". 

 سحر الماضي

يعكس النص اعتناءً شديداً بالصورة، ربما كان مبعثه الخلفية السينمائية للكاتب، التي أتاحت له استحضار أجواء الحضارة المصرية القديمة، على نحو يبعث في التاريخ الحياة. وهكذا يتيح للقارئ إدراك ملامح الطقوس الجنائزية لقدماء المصريين، أنواع آلاتهم الموسيقية وميولهم للرقص والغناء وأنواع الألعاب التي كانت محور اهتماماتهم، اعتمادهم على النيل كوسيلة أساسية في تنقلهم وأسفارهم، تقديسهم له، طقوس تتويج الحاكم واحتفالات الكهنة في المعابد، وغير ذلك من مظاهر الحياة القديمة التي قدم الكاتب عنها ما يشبه بانوراما معرفية اشتملت على إضاءات حول تاريخ الفراعنة وأمجادهم الحربية والتي أفرد لها مساحات كبيرة عبر استدعائه شخصية تحتمس الثالث كأعظم من وضع استراتيجية حربية. وأيضاً باستدعاء تاريخ أمنحوتب الثالث على ألسنة الشخوص المحورية بالنص، كما أورد إشارات أخرى حول عادة تعدد الزوجات التي انتشرت أثناء حقبة حكم الأسرة الثامنة عشر بشكل خاص من دون غيرها. كذلك وردت إشارات أخرى عن استخدام قدماء المصريين للسحر، لا سيما في التعاويذ التي كان الكهنة يصنعونها لتزوير شهادة القلب عند محاكمة أوزير في العالم الآخر. ومرر الكاتب أيضاً بعض المأثورات والحكايات المتداولة من التاريخ القديم مثل حكاية "حبسوت"، الأميرة قليلة الحيلة التي كانت ضحية مكائد أبناء زوجها. كما قدم– في شكل درامي لم يتجاوز جمالية السرد- إجابات حول أسئلة شائعة،عن أسباب تفاوت حجم الأهرامات الثلاثة في الجيزة، ولما، ومتى توقف الفراعنة عن بناء الأهرامات لدفن ملوكهم.

اعتمد الكاتب أسلوب الراوي العليم في سرد الأحداث، لكنه في الوقت نفسه أفسح للشخوص مجالاً عبر الحوار الكثيف، تلك التقنية التي وضعت السرد - في مواضع كثيرة ومتفرقة من النسيج - في منطقة بينية؛ بين الرواية والسيناريو. وعبر هذا الديالوغ أيضاً، مرر الكثير من الحمولات المعرفية، وإن وقع في بعض الأحيان في فخ الأكاديمية. أما اللغة التي اعتمدها فكانت الفصحى السلسة، المطعمة ببعض من العامية التي أنعشت السرد، كما تخللتها بعض المفردات المصرية القديمة التي عززت الأجواء التاريخية للعمل، وأسهمت إيجاباً في استدعاء الماضي والانتقال إلى الفضاء الزمني الذي أراده الكاتب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتنامى الصراع في البناء الروائي على طول خط الأحداث، في موجات متكررة ومتقطعة، ما إن تنتهي إحداها حتى تبدأ أخرى، بما يتسق مع السياق التاريخي لحكم امتد ثلاثين عاماً. وكان دائماً صراعاً خارجياً، يشتعل بين حور محب ومساعديه من جهة، وبين كهنة آمون من جهة أخرى. ينتهي في كل مرة لصالح الحاكم الذي يُفشل مخططات الكهنة في الاستحواذ على الحكم وفي قتله. وقد أضفى هذا الصراع سمة تشويقية على النص، لا سيما بما أتاحته مخيلة الكاتب الخصبة من حيلٍ؛ كانت وسيلة الحاكم "حور إم حب"للنجاة من فخاخ كهنة معبد آمون.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة